عناصر الخطبة
1/أسرار انقلاب حال الإنسان من حال حسنة إلى سيئة والعكس 2/العبرة بما في القلب لا بما يظهر على الجوارح فقط 3/اهتمام السلف بأعمال القلوب 4/الخبيئة الصالحة تصنع خاتمة حسنة والجريرة السيئة تصنع خاتمة سيئةاقتباس
أيها الناس: الكل منا يُدرك الغاية من عيشِهِ على هذه البسيطة، والمؤمن العاقل هو من يسعى بقصارى جهده على أن لا يكون عملُه هباءً منثوراً. فيا تُرى ما هو السرّ في كون بعض الناس ينقلب حاله في آخر حياته؟! لنعلم...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أيها الناس: الكلُّ منا يُدرك الغاية من عيشِهِ على هذه البسيطة، والمؤمن العاقل هو من يسعى بقصارى جهده على أن لا يكون عملُه هباءً منثوراً، ومن جُمَلِ بعض الأحاديث النبوية التي تحتاج إلى وقفة تأمل وتدبر ما ورد في آخرِ حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: "حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا"(رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
فيا تُرى ما هو السرّ في ذلك؟ أي في كونه ينقلب حاله في آخر حياته؟! أولاً: لنعلم أنّ المراد كما قال أهل العلم: أن هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنّه غالبٌ فيهم، ثمّ إنه من لطف الله -تعالى- وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة، وأمّا انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة، ومع ذلك فالعاقل يجب أن يحذر، وقد حصلت حوادث انتكاساتٍ على مرّ العصور يندى لها الجبين.
ثانياً: السرُّ والله أعلم هو في الخبيئة والجريرة التي تكون عند العبد، فقد لا يُبالى بها لكنها تقلب حالَه في لحظات حياته الأخيرة، فالخبيئة الصالحة تقلب حالَه فيُختم له بخاتمة حسنةٍ مباركة، والجريرة السيئة تقلب حالَه فيُختم له بخاتمةٍ سيئة -والعياذ بالله-، وللشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- كلامٌ حول معنى هذا الحديث أيضاً، قال رحمه الله: "ولكن أبشروا فإنّ هذا الحديث مقيد، بأنه لا يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وأمّا الذي يعمل بعمل أهل الجنة بقلب وإخلاص فإن الله لا يخذله عز وجل، والله أكرم من العبد، فإذا عملت بعمل أهل الجنة بإخلاص -نسأل الله أن يجعلنا والمسلمين منهم- فإن الله لا يخذلك، لكن فيما يبدو للناس".
أعود -أيها الأحبة- لضرورة أن يهتم العبدُ بالخبايا الصالحة وأعمال السر التي لا يثبت عليها إلا من وفقه الله تعالى، روي عنه صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل"(رواه النسائي، وصححه الألباني).
لقد أدرك سلفنا الصالح أهمية هذا الأمر، فعن أبي صالح الغفاري: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيستقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كلاً يسبق إليها، فرصده عمر، فإذا هو بأبي بكر الصديق الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري".
فانظر كيف يصنع أبو بكر -رضي الله عنهم أجمعين- من غير أن يشعر به أحد وهو خليفة المسلمين في وقته، قال الإمام إبراهيم الحربي تلميذ الإمام أحمد -رحمهم الله-: "كانوا يستحبّون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجتُه ولا غيرها".
يقول الحسن البصري: "إنْ كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عَبرَتُه فيردّها، فإذا خشي أن تسبقه قام. وكان ابن المبارك يضع اللثام على وجهه عند القتال لئلا يُعرف، قال أحمد: "ما رفع اللهُ ابنَ المبارك إلا بخبيئةٍ كانت له".
وهذا داود بن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان له دكان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به، فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله.
وكان رحمه الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة، ولم تعلم به زوجته، فسبحان الله.. انظر كيف ربّوا أنفسهم على هذا لعمل وإن كان شاقاً، وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة، فهذه زوجته تضاجعه، وينام معها، ومع ذلك يقوم عشرين سنة أو أكثر ولم تعلم به، فأيُّ إخفاء للعمل كهذا؟ وأي إخلاص كهذا؟
لقد امتثلوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد التقي النقي الخفيّ"(رواه مسلم).
لقد أدركوا عظم الموقف في قوله صلى الله عليه وسلم: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"(رواه البخاري ومسلم).
فاحرص -أيها الأخ المبارك- على جعل خبيئة لك من عمل صالح مستمرة تنل توفيقا وفلاحاً ونجاحاً في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا من عبادك الأخفياء الأتقياء الأنقياء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها الأحبة: وكما أن الخبيئة الصالحة تصنع لك بإذن الله توفيقاً ونجاحاً ورفعةً وخاتمة حسنةً، فإنّ الجريرة السيئة والاستهانة بها تصنع الخواتيم السيئة والخسران في الدنيا والآخرة، قال ابن القيم -رحمه الله- في التعليق على الحديث السابق: "وقوله: "لم يبق بينه وبينها إلا ذراع" ...، فيقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته، لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خُذل بها في آخر عمره، فخانته تلك الآفة والداهية الباطنة في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها، وعملت عملها، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه.. والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض"..
قال أحد السلف -رحمه الله-: "حضرت رجلاً عند الموت يلقن الشهادة: لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر!!، وكان يقول اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته".
ويعظم ذلك إذا كان عن مجاهرة ولا مبالاة، بل قد يكون البلاءُ عاماً ليس على الشخص ذاته، قال ابن القيّم -رحمه الله تعالى-: "اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والخبائث، وهذا -والله- منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعدلوا عن طريقكم هذا بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوحاً، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فاشتر نفسك اليوم، فالسوق قائمة والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وذلك بصلة رحم، وبصدقة، وبزكاة، فأبواب الخير مفتوحة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل أو كثير منها، ذلك يوم التغابن، يوم يعض الظالم على يديه، ويقول الكافر: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)[النبأ: 40].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات