عناصر الخطبة
1/مواقف عجيبة من عالم الأتقياء الأنقياء 2/جيل فريد في محبة المؤمنين ومعاملتهم بالإيثار 3/صور واقعية من الأنانية والأثرة 4/الواجب عند كثرة التحاسد والتباغض 5/من مقتضيات محبة الخير للآخرين.

اقتباس

إنه في هذا الزمان الذي كثر فيه التحاسد والتباغض والذي نتج عنه الكُرْه والتناحر.. كان لزامًا علينا جميعًا أن نعوّد أنفسنا على حبّ الخير لإخواننا حتى تسلم قلوبنا من الحقد والضغينة، وحتى نصل إلى درجة عالية من الإيمان والتسليم.

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

في عالم الأتقياء الأنقياء يحدث مثل هذا الموقف: كان لمحمد بن المنكدر أقمشة بعضها بخمسة دراهم وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته لأعرابي قطعة من الخمسيات بعشرة، فلما عاد ابن المنكدر وعرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي طوال النهار حتى وجده؛ فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال الأعرابي: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنَّا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث: إما أن تأخذ قطعة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد القطعة وتأخذ دراهمك.

 

وفي عالم الأتقياء الأنقياء لا تعجب من هذا الموقف: كانَ إبراهيمُ النخعيُّ -رحمهُ اللهُ تعالى- أعورَ العينِ. وكانَ تلميذهُ سليمانُ بنُ مهرانٍ أعمشَ العينِ، وفي يوم سارا في أحدِ طرقاتِ الكوفةِ يريدانِ الجامعَ، وبينما هما يسيرانِ في الطريقِ قالَ الإمامُ النخعيُّ: "يا سليمان! هل لكَ أن تأخذَ طريقًا وآخذَ آخرَ؟؛ فإني أخشى إن مررنا سويًّا بسفهائها، لَيقولونَ أعورٌ ويقودُ أعمشَ! فيغتابوننا فيأثمونَ". فقالَ الأعمشُ: "يا أبا عمران! وما عليك في أن نؤجرَ ويأثمونَ؟!"، فقال إبراهيم النخعي: "يا سبحانَ اللهِ! بل نَسْلَمُ ويَسْلَمونُ خيرٌ من أن نؤجرَ ويأثمونَ".

 

في هذا العالم النقي تجد ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "وإني لأسمع بالغيث يُصيب البلاد من بلدان المسلمين؛ فأفرحُ به وما لي بها سائمةٌ ولا راعية، وإني لآتي على آيةٍ من كتاب اللَّه -تعالى- فوددتُ أن المسلمين كلَّهم علموا منها مثل ما أعلم".

 

في عالم التقى والنقاء يستيقظ الجيران يومًا ليجدوا سياراتهم قد غُطِّيَتْ وسُتِرَتْ بأغطية ليكتشفوا أن جارهم يعتزم ترميم واجهة بيته فغطاها لئلا يصيبها غبار.

 

هؤلاء يمثلون فئة ممن تحلوا بالمحبة والإيثار وآمنوا أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض؛ إنها قلوب تزيَّنت بالإيمان حتى حلّقت في السماء لتصل بأصحابها إلى أعالي الجنان. إنها قلوب تشرَّبت ووعت حديث المصطفى العدنان: "لا يؤمن أحدكم حتَّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

 

أما في جيل الأنانية والأثرة وحب الذات فستجد عالمًا مليئًا بالمواقف المؤلمة؛ ستجد من يستأجر استراحة أو بيتًا أو سيارة ويرجعها وقد أتلف وأعاب ودمر وشعاره "حلل قيمة الإيجار".

 

ستجد من يجلس في حديقة أو متنزه بريّ، ويقوم منه وقد شوَّه جماله ببقايا نفاياته ومخلفات متاعه؛ بحجة أنه لن يعود له ثانية، فهل يفعل ذلك لو كان هذا ملكه؟!

ستجد مَن يُغْلِق بسيارته باب جاره، وويل لمن يقف عند جداره.

 

ستجد في شوارعنا وعند الإشارات والتقاطعات صورًا تنبئ عن الأثرة وانعدام الإيثار والشعور بالجسد الواحد.

ستجد مَن يخطب على خِطبة أخيه، ومن يبيع على بَيْع أخيه.

 

ستجد مَن يسمع غيبة أو نميمة في أخيه، فلا يحرّك ساكنًا، ولا يدفع عن عرض أخيه فهل يرتضي ذلك لنفسه؟!

 

في عالم الإيثار ستجد بائعًا في دكانه إذا باع أول النهار، وجاء أحد يشتري منه قال: اذهب لجاري؛ فإنه لم يبع منذ الصباح. بينما في عالم الأثرة تجد من يحاول إسقاط جاره والتزهيد في تجارته.

 

هكذا يحصل حينما تنعدم روح الأخوة، ويتخلى المسلمون عن توجيه نبيهم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

 

 إن تحقيق هذا الكمال الإيماني في النفس، يتطلب منها سموًّا في التعامل، ورفعة في الأخلاق مع الغير، انطلاقًا من رغبتها في أن تُعامل بالمثل، وهذا يحتّم على صاحبها أن يصبر على أذى الناس، ويتغاضى عن هفواتهم، ويعفو عمن أساء إليه، وليس ذلك فحسب، بل إنه يشارك إخوانه في أفراحهم وأتراحهم، ويعود المريض منهم، ويواسي المحتاج، ويكفل اليتيم، ويعيل الأرملة، ولا يألو جهدًا في تقديم صنائع المعروف للآخرين، ببشاشةٍ وجه، وسعة قلب، وسلامة صدر.

 

لقد تبدَّلت مفاهيم الناس، وظنوا أنهم إن بذلوا الخير لإخوانهم حُرِمُوا منه أو نقص من عندهم.. مع أن حبّ الخير للآخرين يرتقي بصاحبه في مراتب الإيمان. ويجعل صاحبه من المفلحين؛: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]، وبه يسلم قلب صاحبه من الحقد ويطهره من الأثرة.

 

وبه يحبه الخلق ويقدّروا له صنيعه، فيحصل بذلك الألفة والمحبة بين الناس. وهو دليل على علو الهمة والارتقاء بالنفس عن الدنايا والذي يُحِبُّ الخَيْرَ لأَخِيه كَما يُحِبُّهُ لِنَفْسِه يَنجُو بِنَفِسِه منَ النَّارِ، ومَنْ زُحزِحَ عَنِ النَّارِ فَازَ ودَخَلَ الجَنَّةَ مَعَ الأَبرار، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزحزَحَ عَنِ النَّارِ ويَدخلَ الجَنَّةَ فلْتُدركْهُ منِيَّتُهُ وهُو مُؤْمِنٌ بِاللهِ واليومِ الآخرِ ويأتي إلى الناسِ الَّذي يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إِلَيه".

 

فيا عبد الله! لا تبخل في تمنّي الخير للآخرين، فإنَّ غناهم لن ينقصك من رزقك شيئًا، وإن صِحّتهم وعافيتهم لن تأخذ من صحتك شيئًا، وتمنّي طلب البركة لهم في الأهل والولد والعمل لن يقلّل من بركة حياتك شيئًا، ولهذا كن على يقين أن طلبك الخير للغير سيزيدك ولن ينقصك، بل ستكون كبيرًا وعظيمًا أمام نفسك وفي عيون الآخرين، كما يكفيك شرفًا أنك ستكون عظيمًا أمام ربّك في قناعتك ويقينك به.

 

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: إنه في هذا الزمان الذي كثر فيه التحاسد والتباغض والذي نتج عنه الكُرْه والتناحر.. كان لزامًا علينا جميعًا أن نعوّد أنفسنا على حبّ الخير لإخواننا حتى تسلم قلوبنا من الحقد والضغينة، وحتى نصل إلى درجة عالية من الإيمان والتسليم.

 

إن المسلم الذي تشرَّب قلبه حبّ إخوانه وحبّ الخير لهم كما يحبه لنفسه؛ يجب أن يضع نُصْب عينيه حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "وأَحِبَّ للناس ما تُحِبّ لنفسك تكن مسلمًا"، فيتمنَّى لهم صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم، ويتعامل معهم كما يحب أن يعامله الآخرون.

 

وإنه كما يحب للناس السعادة في دنياهم، فإنه يحب لهم أن يكونوا من السعداء يوم القيامة، لهذا فهو يسعى دائمًا إلى هداية البشرية، وإرشادهم إلى طريق الهدى، واضعًا نُصْب عينيه قول الله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].

 

إنَّ من مقتضيات حبّ الخير للغير أن يتمنَّى لهم النجاة يوم القيامة كما يتمناها لنفسه، ألستم تحبُّون أن يغفر الله لكم؟ ألستم تودون أن يرضى الله عنكم ويزحزحكم عن النار ويدخلكم الجنة؟ ألستم تحبّون لأنفسكم أن تَرِدُوا القيامة بصفحةٍ بيضاءٍ نقية من الذنوب والخطايا؟

 

إن هذه المشاعر تجاه أنفسكم يجب أن تكون مع إخوانكم ممن ترون تقصيرهم وتهاويهم في مستنقعات الشبهات والشهوات؛ ليدفعكم ذلك إلى الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله ولو بآية؛ فهذا من أعظم ما تُعَبِّرُون به عن صدق أُخُوّتكم ومحبتكم لإخوانكم كما تحبون لأنفسكم.

 

"لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"؛ فلنجعل هذا الحديث نبراسًا يضيء لنا تعاملنا في كل شؤون ديننا ودنيانا، لنجعل هذا الحديث موجِّهًا لنا ونحن نقود سياراتنا.. ونحن نتكلم في مجالسنا. ونحن نبيع ونشتري في محلاتنا.. ونحن في وظائفنا.. في مساجدنا.. في أسواقنا.. في متنزهاتنا.. وفي كل شؤوننا كلها.

 

إنَّ من ثمرات العمل بهذا الحديث العظيم: أن ينشأ في الأمة مجتمع فاضل، ينعم أفراده فيه بأواصر المحبة، وترتبط لَبِنَاته حتى تغدو قوية متماسكة، كالجسد الواحد القوي، الذي لا تقهره الحوادث، ولا تغلبه النوائب، فتتحقق للأمة سعادتها، وهذا هو غاية ما نتمنَّى أن نراه على أرض الواقع.

 

فاستعينوا على حبّ الخير للغير بالتطهُّر من دَنَس الأنانية والأثرة والتحلّي بالمحبة والإيثار والاستعانة بالدعاء كما فعل الصالحون في دعائهم (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10]، وتذكروا دائمًا أن خير الناس أنفعهم للناس.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

 

 

المرفقات
jECgmSpKYKsFPga3lHWm5eTrDd08lxkmbbJdQdhk.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life