بيان بعض الفتن في هذا الزمان والوقاية منها

فؤاد بن يوسف أبو سعيد

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/كثرة الفتن في آخر الزمان 2/فتنة الأزواج والأولاد والأموال 3/فتح باب الفتن بمقتل عمر بن الخطاب 4/بعض أسباب الفتن 5/بعض حكم الفتن وفوائدها 6/بعض الفتن التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- 7/وسائل الوقاية من الفتن
اهداف الخطبة

اقتباس

تعصف بالعالم اليوم محنٌ كالفحم سوادا، وفتنٌ كقطع الليل ظلاما. المحنُ اليوم أعظم من الموت: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 191]. إن عدم تأسيس الأسرة على الخلق والدين؛ من الأسباب التي تجلب الفتن والفساد للأمّة. إن هذه الفتن تكفرها وتمحوها...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، خلق الخلق في هذه الدنيا ليبتليَهم أيُّهم أحسن عملا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أنذر أمته من بلاء ينـزل آخر الزمان، لا عاصم لهم منه إلا التقوى والعملُ الصالح، قال: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا".

وقال عليه الصلاة والسلام: "بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، ودابة الأرض، وخويصة أحدكم، وأمر العامة".

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا [بستان الخطيب، ص: 245].

 

أما بعد:

 

تعصف بالعالم اليوم محنٌ كالفحم سوادا، وفتنٌ كقطع الليل ظلاما.

 

المحنُ اليوم أعظم من الموت: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 191].

 

(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 217].

 

لكن: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 41].

 

فـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 24 - 25].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن: 14 - 16].

 

إنها فتنة خاصة بالأزواج والأولاد والأموال: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131].

 

إن عدم تأسيس الأسرة على الخلق والدين؛ من الأسباب التي تجلب الفتن والفساد للأمّة، قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجزه، إلا تفعلوا؛ تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" [حسن لغيره، انظر الصحيحة (1022)].

 

إن هذه الفتن تكفرها وتمحوها الأعمال الصالحة، عن حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا كَمَا قَالَهُ. قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ! قُلْتُ: "فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ؛ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ، وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ". قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ! وَلَكِنْ الْفِتْنَةُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ. قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. قَالَ: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ. قَالَ: إِذًا لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا. قُلْنَا: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ! كَمَا أَنَّ دُونَ الْغَدِ اللَّيْلَةَ. إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ" [البخاري (525)].

 

وقتل عمر -رضي الله عنه- وانكسر الباب المغلق على الفتن، فخرجت على الناس تموج موج البحر.

 

قتل عمر -رضي الله عنه- في صلاة الصبح، قتله مجوسي من عباد النار.

 

وقتل عثمان -رضي الله عنه- وهو صائم يقرأ القرآن، قتله مبتدعةٌ؛ متظاهرين معتصمين بباب داره، محاصرين له عدة أيام حتى تجرؤا على اقتحام بيته وقتله.

 

وقتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على يد أحد مؤسسي فرقة الخوارج؛ الخارجي عبد الرحمن بن ملجم -عليه من الله ما يستحق- قتله في صلاة الصبح.

 

وقُتل الحسين بن علي -رضي الله عنه- باستدراج من شيعة العراق.

 

ومحاولة قتل معاوية بالشام، وعمرو بن العاص بمصر -رضي الله عنهما- في صلاة الصبح، ولكن نجاهما الله -عز وجل-.

 

انكسر باب الفتن؛ كسرته المجوس بموت عمر الفاروق -رضي الله عنه-، ووضع السيف في هذه الأمة، ولقد صدق صلى الله عليه وسلم القائل: "وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِى أُمَّتِى لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" [سنن أبى داود والترمذي وابن ماجة].

 

فلم يُسَلَّم الحكم من الدولة الأموية إلى الدولة العباسية، وكذلك الدول التالية؛ إلا بالدماء -فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-.

 

إن من أسباب الفتن العامة: موالاة غير المسلمين على المسلمين، فمن هنا يأتي الفساد، وتأتي الفتن، وصدق الله العظيم الذي قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73].

 

فالفتن صغارُها وكبارُها، الخيرُ فيها والشرُّ؛ ابتلاءٌ وتمحيصٌ وامتحانٌ، قال سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35].

 

لقد امتُحِن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وابتلوا فصبروا، فقال سبحانه عن موسى -عليه السلام-: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) [طه: 40].

 

وقال عن داود: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) [ص: 24].

 

وقال عن سليمان: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) [ص: 34].

 

أي ابتلاهم ربهم واختبرهم، فوجدهم مستغفرين رجاعين، توابين منيبين.

 

والناس مختلفون في تقبل ذلك الابتلاء، وتلك الفتن؛ فمنهم تكون عبادتهم لربهم -سبحانه- حسب المصلحة والمنفعة، قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج: 11].

 

أما المؤمنون، فلا يخالفون أمر الله -سبحانه-، ولا أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويخافون مما حذرهم الله منه، وهو مخالفة أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].

 

فمخالفة أمره تجلب الفتن، والعذاب الأليم.

 

إن الفتن التي حدثت بين الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- تمحيص وابتلاء، وكفارة لهم ورفعة في الدرجات، عن سعيد بن زيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكون بعدي فتن يكون فيها ويكون" قلنا: إن أدركنا ذلك هلكنا قال: "بحسب أصحابي القتل".

 

وفي رواية: "يذهب الناس فيها أسرع ذهاب" [واسناده حسن، انظر: الصحيحة (1346)].

 

"بحسب أصحابي القتل" أي يكفي المخطئَ منهم في قتاله في الفتن؛ القتل، فإنه كفارةٌ لجرمه، وتمحيصٌ لذنوبه، وأما المصيب فهو شهيد" ذكره ابن جرير" [فيض القدير 3/ 257)].

 

عباد الله: "أظلّتْكُمْ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللّيْلِ المُظْلِمِ، أنْجَى النّاسِ مِنْها؛ صاحِبُ شاهِقَةٍ يأْكُلُ منْ رِسْلِ غَنَمِهِ، أوْ رَجُلٌ مِنْ وَرَاءِ الدُّرُوبِ، أخَذَ بِعِنانِ فَرَسِهِ، يأْكُلُ منْ فيء سَيْفِهِ" [الصحيحة (1478)].

 

في الفتن "اكْسِرُوا قِسِيَّكُمْ -يَعْنِي فِي الْفِتْنَةِ-، وَقَطِّعُوا الأَوْتَارَ، وَالْزَمُوا أَجْوَافَ الْبُيُوتِ، وَكُونُوا فِيهَا كَالْخَيِّرِ مِنَ ابْنَيْ آدَمَ" [الصحيحة (1524)].

 

الفتن تُعمي وتُصِمّ، فمن لابَسها، وأشرف لها؛ جعلته قليل العقل، فأودت به إلى المهالك، قال صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة الهرْج" قالوا: وما الهرج؟ قال: "القتل، إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتلُ بعضكم بعضا، حتى يقتلَ الرجلُ جارَه، ويقتل أخاه، ويقتل عمَّه، ويقتل ابن عمه" قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟! قال: "إنه لتُنـزع عقولُ أهلِ ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء" "هباء: أي قليل العقل" [السلسلة الصحيحة (1682)].

 

"إن ما بقي من الدنيا بلاء وفتنة، وإنما مثل عمل أحدكم؛ كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خبث أعلاه خبث أسفله" [الصحيحة (1734)].

 

عباد الله: لا تحسبوا الفتن والمحن شرًّا لكم، فإنما هي حصاد المنافقين، وهي عقوبة في الدنيا معجلة، وعذاب لا يكرر في الآخرة، عن أبي بردة قال: بينما أنا واقف في السوق في إمارة زياد؛ إذ ضربْتُ بإحدى يدي على الأخرى تعجبا! فقال رجل من الأنصار -قد كانت لوالده صحبة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مما تعجب يا أبا بردة؟! قلت: أعجب من قوم؛ دينُهم واحد، ونبيُّهم واحد، ودعوتهم واحدة، وحجهم واحد، وغزوهم واحد، يستحل بعضهم قتل بعض! قال: فلا تعجب؛ فإني سمعت والدي أخبرني أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أمتي أمة مرحومة؛ ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا؛ الفتن والزلازل والقتل" [الصحيحة (959)].

 

والمقصود ب "الأمة" هنا غالبها؛ للقطع بأنه لا بد من دخول بعضهم النارَ للتطهير.

 

والفتن التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- نصًّا هي، كما في الحديث: "فِتْنَةُ الأَحْلاَسِ؛ هِىَ هَرَبٌ وَحَربٌ، ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ؛ دَخَنُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمَىْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِى، يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّى، وَلَيْسَ مِنِّى، وَإِنَّمَا أَوْلِيَائِىَ الْمُتَّقُونَ، ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَعٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ؛ لاَ تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلاَّ لَطَمَتْهُ لَطْمَةً، فَإِذَا قِيلَ انْقَضَتْ؛ تَمَادَتْ. يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا، حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ؛ فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لاَ نِفَاقَ فِيهِ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لاَ إِيمَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ؛ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ" [الصحيحة (974)].

 

"فتنة الأحلاس" قال في النهاية: "الأحلاس؛ جمع حِلس، وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير، تحت القتب، شبهها به للزومها ودوامها".

 

وقال الخطابي: "إنما أضيفت إلى الأحلاس لدوامها، وطول لبثها، أو لسواد لونها وظلمتها -قال النبي: "هي" -أي فتنة الأحلاس- "هَرَبٌ" بفتحتين، أي يفر بعضهم من بعض، لما بينهم من العداوة والمحاربة، قاله القارىء.

 

"وحَرَب" في النهاية: الحَرَب بالتحريك؛ نهب مال الإنسان، وتركه لا شيء له. انتهى.

 

وقال الخطابي: الحرب ذهاب المال والأهل.

 

"ثم فتنة السراء" قال القارىء: والمراد بالسراء النعماء التي تسر الناس؛ من الصحة والرخاء، والعافية من البلاء والوباء، وأضيفت إلى السراء؛ لأن السبب في وقوعها ارتكاب المعاصي، بسبب كثرة التنعم، أو لأنها تسر العدو. انتهى.

 

"دخنها" يعني ظهورها وإثارتها، شبهها بالدخان المرتفع.

 

وإنما قال: "من تحت قدمي رجل من أهل بيتي" تنبيها على أنه هو الذي يسعى في إثارتها، أو إلى أنه يملك أمرها.

 

"يزعم أنه مني" أي في الفعل، وإن كان مني في النسب، والحاصل أن تلك الفتنة بسببه، وأنه باعث على إقامتها "وليس مني" أي من أخلائي، أو من أهلي في الفعل؛ لأنه لو كان من أهلي لم يهيج الفتنة... أو ليس من أوليائي في الحقيقة، ويؤيده قوله: "وإنما أوليائي المتقون".

 

قال الأردبيلي: فيه: إعجاز وعلم للنبوة، وفيه: أن الاعتبار كل الاعتبار للمتقي؛ وإن بعد عن الرسول في النسب، وأن لا اعتبار للفاسق والفتان عند رسول الله وإن قرب منه في النسب. انتهى.

 

"ثم يصطلح الناس على رجل" أي يجتمعون على بيعة رجل "كوَرِك" بفتح وكسر، قاله القري.

 

"على ضِلَع" قال الخطابي: هو مثل، ومعناه الأمر الذي لا يثبت ولا يستقيم، وذلك أن الضلع لا يقوم بالورك، وبالجملة يريد أن هذا الرجلَ غيرُ خليق للملك، ولا مستقل به. انتهى.

 

وفي النهاية: أي يصطلحون على أمر واهٍ لا نظام له ولا استقامة؛ لأن الورك لا يستقيم على الضلع، ولا يتركب عليه، لاختلاف ما بينهما وبعده، والورك ما فوق الفخذ. انتهى" [عون المعبود شرح سنن أبي داود].

 

 

الخطبة الثانية:

 

وهناك فتنة يدخل أثرها بيت كل مسلم، وهي ما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ست من أشراط الساعة: موتي، وفتح بيت المقدس، وموت يأخذ في الناس كقعاص الغنم، وفتنة؛ يدخل حرُّها بيتَ كلِّ مسلم، وأن يعطى الرجل ألف دينار فيتسخطها، وأن تغدر الروم؛ فيسيرون في ثمانين بندا، تحت كل بند اثنا عشر ألفا" [الصحيحة (1883)].

 

"وفتنة يدخل حرُّها" أي مشقتها وجهدها من كثرة القتل والنهب.

 

"بيتَ كل مسلم" قيل: وهي واقعة التتار إذ لم يقع في الإسلام، بل ولا في غيره مثلها.

 

وقيل: غيرها، وهي لم تقع بعد" [فيض القدير 4/ 125)].

 

في الفتن لا يعرف أحد أحدا، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: "(عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّى لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ) وَلَكِنْ أخبرك بِمَشَارِطِهَا، وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا، إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا فِتْنَةً، وَهَرْجًا". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْفِتْنَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَما الْهَرْجُ؟ قَالَ: "بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْقَتْلُ"، قَالَ: "وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدًا" [الصحيحة (2771)].

 

واستمعوا إلى ما قاله الصحابي الجليل ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كيف بكم إذا لبستكم فتنة؛ يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتُتَّخَذَ سُنَّةً، فإن غُيَّرت يوما قيل: هذا منكر" قيل : ومتى ذلك؟ قال: "إذا قلَّت أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلَّت فقهاؤكم، وكثرت قراؤكم، وتُفُقِّهَ لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة" [رواه عبد الرزاق في كتابه موقوفا ، صحيح الترغيب 111)].

 

وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني رأيت كأن عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي، فأتبعته بصري، فإذا هو نور ساطع عُمِد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام" [رواه الطبراني في الكبير والأوسط والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، صحيح الترغيب (3092)].

 

إذا خُيِّر المسلم بين الفتن وبين الموت؛ فماذا يختار؟

 

والجواب: فيما رواه مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ" [رواه أحمد بإسنادين، رواة أحدهما محتج بهم في الصحيح، صحيح الترغيب (3210)].

 

وأخيراً: من العواصم من الفتن: الدعاء، فما من عسير إلا يسَّره، ولا من بلاء إلا كشفه، ولا من كَرب إلا نفَّسه، فعليكم به، فإنه السلاح الذي لا يُثلم.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 40- 45].

 

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم وأبرم لهذه الأمة أمرَ رشدٍ يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

 

اللهم إنا نسألك رحمةً تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها عنا الفتن والمحن [بستان الخطيب ص: 205)] بتصرف.

 

"اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق؛ أحينا ما علمت الحياة خيرا لنا، وتوفنا إذا علمت الوفاة خيرا لنا، اللهم ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيما لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بالقضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غيرِ ضراء مضرة، ولا فتنة مضلَّة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين" ["ن ك" عن عمار بن ياسر، الجامع الصغير (1301) مع تغيير همزة المتكلم إلى نون الجمع].

 

 

 

المرفقات
بيان بعض الفتن في هذا الزمان والوقاية منها.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life