عناصر الخطبة
1/ كيفية استقبال رمضان 2/ مقاصد شهر رمضان وخصائصه 3/ اغتنام أيام رمضان ولياليه بفعل الصالحات 4/ أهم الأعمال المطلوبة في رمضان 5/ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان 6/ وجوب العناية والاهتمام بفقه الصيام 7/ المفطّرات التي تفسد الصوم وتبطلهاهداف الخطبة
اقتباس
في رمضانَ نورُ الإيمان يشعّ ويضيء، ونفحَات الوحي المباركات تمضي وتجِيء، فالأوقاتُ بالطاعات والقرُبات مَعمورة، والأرواح بالطّمأنينة والسكينة بَهِجَةٌ مغمورة، الأجسادُ عن شهواتها وملذّاتها تخلَّت، والأرواح بحُلَى القُربات توشّت وتحلَّت، وللخير العميمِ ..
الحمدُ لله العزيز الغفور، العليِّ الشكور، أجزل للصائمين الأجورَ، وحباهم بالتُّقى والسّرور، جلَّ ثناؤه جعَل الصيامَ جُنّة دون رِماح الفجور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً نرجو بها الفوزَ يومَ النشور، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خيرُ من جاهد في الله حتى اندَحَر الكفر خاسئًا في ثبورٍ وعمَّ الحقّ الأرجاء والنّورُ، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصَحبه الهداة البدور، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسي بتقوى الله جلّ في علاه، فإنّ التقوى مِرقاة النجاة ومِشكاة الهُداة وأزكى بضاعةٍ مرتجَاة في هذه الحياة، وها قد تدانَت لكم دواعيها، فيا فوزَ واعيها، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيّها المؤمنون: تستقبِل الأمّة هذه الليلة حبيبًا يزورنا كل عام تستقبله بفرحٍ غامِر وسرورٍ ظاهرٍ، إنّ يومَ إقبالك يا رمضان لهوَ يومٌ تفتّحت له قلوبُنا وصدورُنا، فاستقبَلناك بملءِ النّفس غبطةً واستبشارًا وأمَلاً، استبشرنا بعودةِ فضائِك الطاهر الذي تسبَح به أرواحُنا بعد جفافِها وركودِها، واستبشَرنا بساعةِ صلحٍ مع الطاعاتِ بعدَ طول إعراضِنا وإباقنا، أعاننا الله على بِرِّك ورفدِك، فكم تاقت لك الأرواحُ وهفَت لشذوِ أذانِك الآذانُ وهمَت سحائبُك الندِيّة هتّانةً بالرّحمة والغفران. في رحابِكَ تورِق الأيادي والنّفوس فتفيضُ بالبِرِّ والإحسان.
في رمضانَ نورُ الإيمان يشعّ ويضيء، ونفحَات الوحي المباركات تمضي وتجِيء، فالأوقاتُ بالطاعات والقرُبات مَعمورة، والأرواح بالطّمأنينة والسكينة بَهِجَةٌ مغمورة، الأجسادُ عن شهواتها وملذّاتها تخلَّت، والأرواح بحُلَى القُربات توشّت وتحلَّت، وللخير العميمِ شمَّرت وتجلّت.
معاشرَ المسلمين: إنّ شهرَ رمضان بمقاصده وخصائصِه وعَبَق ذكرياتِه هو مبعَث عِزِّنا ومناطُ فخرِنا ومَرفأ جَدِّنا ومجدِنا، تضمّن البطولاتِ والفتوحات وتنزُّلَ الآيات البيّنات هو موسمٌ لتجارةٍ مع الله رابحةٍ، وفرصةٌ لرفع الدرجات وتكفير السيِّئات مواتِيَة سانِحة، من ضيَّعها فقد أدنى بخسَه وأشقَى نفسَه.
أيها المسلمون: أتاكم شهرُ المرابح بظلاله ونواله، وجماله وجلاله، زائرٌ زاهر، وشهر عاطر، فضله ظاهر، بالخيرات زاخر، أرفع من أن يُحدَّ حسنُ ذاته، وأبدع من أن تُعدَّ نفحاتُه، وتحصى خيراته، وتستقصى ثمراته، لا ترى فيه إلا عابدًا يركع، وقارئا يرتّل ويخشع، يرقُّ قلبه ويدمع، بآيات تجلو الصدى، وتذهب الظما، وتزيل الغشى، فاسألوا مولاكم أن يبلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إليه ومكَّنكم، فكم من طامع بلوغَ هذا الشهر فما بلغه، كم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه، فاجأه الموت فأهلكه..
أما كان بيننا أحِبَّةٌ وأتراب، أُسِلموا للثَّرى والتراب؟! كانوا كالشّموس بيننا والأقمار، قد طواهم البوار إلى دار القرار،كم حبيب لنا فقدناه، وكم قريب لنا أضجعناه، إخواني، رحيلُ من رحل عنا نذيرٌ لنا عنَّا، وهذا الموت منا قد دنا، والرحيل قرب ولا زاد عندنا، فالأوبة الأوبة قبل أن لا تُنال توبة، ولا تُقال عثرة، ولا يُفدى أحد بمال، فأروا الله خيرًا من أنفسكم، فبالجد فاز من فاز، وبالعزم جاز من جاز، واعلموا أن من دام كسله خاب أمله، وتحقَّق فشله، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره. أخرجه مسلم.
أيها المسلمون: هذا شهر القبول والسعود، هذا شهر العتق والجود،، فيا خسارة أهل الرقود والصدود، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي يرويه عن ربه عز وجل قال: «إذا تقرب العبد إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة» أخرجه البخاري.
يا عبد الله: هذا أوان الجد إن كنت مجدًا، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعدًا، هذا نسيم القبول هبّ، هذا سيل الخير صبّ، هذا الشيطان كبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين» متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إذا كانت أول ليلة من رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة» أخرجه ابن ماجه.
فهذا زمان الإياب، رحمة من الكريم الوهاب، فأسرعوا بالمتاب، فقد قرب الاغتراب، في دار الأجداث والتراب.
يا من ألف الذنوب وأجرمَا، تُب فدونك المنى والمغنمَا، والله يحب أن يجود ويرحمَا فطوبى لمن غسل في هذا الشهر درن الذنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوْت الأوبة.
يا أسير المعاصي، يا سجين المخازي، هذا شهر يُفَكّ فيه العاني، ويعتق فيه الجاني، ويتجاوَز عن العاصي، فبادر الفرصة، وحاذر الفوتة، ولا تكن ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينل فيه الغفران والمنى، صعد رسول الله المنبر فقال: «آمين، آمين، آمين» فقيل: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال: «إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، قلت: آمين» أخرجه ابن خزيمة وابن حبان.
أيها المسلمون: مواسمُ الخيرات أيام معدودات، مصيرها الزوال والفوات، فاقصروا عن التقصير في هذا الشهر القصير، وقوموا بشعائره التعبدية، وواجباته الشرعية، وسننه المروية، وآدابه المرعية فـ «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» و«من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» و«من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة».
وعلى المرأة المسلمة إذا شهدت العشاء والتراويح أن تجتنب العطور والبخور، وما يثير الفتنة من ملابس الزينة المزخرفة فعن زينب الثقفية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: «إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تتطيّب تلك الليلة»، وفي رواية: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيبًا» رواهما مسلم، وصلاتهن في قعر بيوتهن خيرٌ لهن، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: «لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن» أخرجه أبو داود.
و«لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر وأخروا السحور» و«فصلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» فتسحَّروا ولو بجرعة ماء، وكان رسول الله يُفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات، حسا حسوات من ماء وكان إذا أفطر قال: «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» و«إذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخَب، وإن سابّه أحد أو قاتَله فليقل: إني صائم "
أيها المسلمون: لكل صائم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة، تفتح لها أبواب الإجابة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة» أخرجه البزار.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله في: «إن للصائم عند فطره لدعوة ما تردّ» أخرجه ابن ماجه، فاستكثروا من الدعوات الطيبات في شهر النفحات، لكم ولأنفسكم ولأهليكم وذويكم، وارفعوا أكفَّ الضراعة، وتوسَّلوا إلى الله بألوان الطاعة وألحّوا على الله بالدعاء، وارفعوا إليه الشكوى والنداء، واحذروا الموانع، وابتعدوا عن القواطع، وتسلَّحوا بسلاح الإيمان واليقين.
أيها المسلمون: بتلاوة القرآن يزداد المسلم جمالاً وبهاءً، ظاهرًا وباطنًا، قلبًا وقالبًا، وبه يزداد قدرًا وشرفًا، في الدنيا والآخرة. فتلاوته هي التجارة الرابحة التي لا تبور، في جميع الدهور، وعلى مدى الأيام والشهور، وفي هذا الشهر يعظم فضلها، ويرتفع شأنها، قال الزهري رحمه الله معبّرًا عن شأن السلف: "إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام".
وكان بعض السلف رضي الله عنهم يختم القرآن في قيام رمضان في ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع.وإن من أعظم مقاصد التلاوة التدبر والتعقل والتفهم، للمعاني والأسرار والأحكام، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ آيَاِتهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألْبَابِ) [ص:29]. علينا أن نسأل أنفسَنا: هل تدبَّرنا القرآنَ؟! هل تدبّرنا آياتِ الله؟! ماذا غيَّر فينا؟! أين أثرُه في سلوكنا أو أخلاقِنا وأُسَرنا وبيوتنا؟! قال عليّ رضي الله عنه: "لا خيرَ في قراءةٍ ليس فيها تدبّر" وقال الحسن: "كيف يرِقُّ قلبُك وإنَّما همُّك آخر السّورة" لا شيءَ أنفع للقلب من قراءةِ القرآن بالتدبّر والتفكّر.
معاشر الأحبة: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب:21]، وإنّ من كمال هديِه صلى الله عليه وسلم في رمضان البذلَ والإنفاق، قال الإمام الماوردي رحمه الله: "مُنِح صلى الله عليه وسلم من السّخاء والجود حتى جادَ بكلّ موجود"، قال تعالى: (وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن:16]، وما الإنفاق والإحسان في هذا الشهر المبارك الميمون للمعوِزين والمعسرين والمدينِين إلاّ دليلُ حبٍّ شفيف وإيمان مُزهرٍ رَفيف يحمل النفسَ على المشاعرِ الرقيقة الحانية، فمدُّوا أيديكم - رحمكم الله - لإخوانكم بالعطاء، تحوزوا مرضاة ربِّ الأرض والسماء وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم فهي قرينة الصلاة في كتاب الله وفي سنة رسول الله.
ألا وإن من أبرز خصال الكرم، وأنبل أنواع الجود: الإحسان إلى العباد وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائع، وقضاء حاجة، وإعانة محتاج، قال: «من فطّر صائمًا كان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئًا» رواه الترمذي وابن ماجه.
أمّةَ الصيام والقيام، ومما يؤسَى له في شهرِ الغفران والعِتق من النيران أنّ كثيرًا من المسلمين هداهم الله طاشت أفهامُهم عن كثيرٍ من حقائق الصّوم ومضامينه ومراميه، فحبسوا الجوفَ عن الطعام والشّراب فحسب، وراحوا يُطلِقون في المحرّمات البصر، ولم يصونوه عن فضول النّظَر، وتقحَّموا حُمَّى اللّسان، ولم يرعوُوا عن النميمة والغيبةِ والبهتان واللغوِ والهذَيان،.، نهارهم نوم وكسل، وليلهم سهر وقنوات، وعظائم وموبقات خرَّج البخاريّ في صحيحه أنّ رسول الله قال: «من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابه» وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله كما عند أحمد وابن ماجه: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر». قال ابن رجب رحمه الله: "وسر هذا أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب بترك المباحات، كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل.
فاحذروا أيها الأحبة ما أعدّه لكم أهلُ الانحلال، ودعاة الفساد والضلال، من برامج مضلة، ومشاهد مخِلّة، قومٌ مستولِغون لا يبالون ذمًا، وآمنون لا يخافون عقابا، ومجرمون لا يراعون فطرًا ولا صومًا، عدوانًا وظلما، جرَّعوا الشباب مسموم الشراب، فتهييجٍ وتشبيب، وتدمير وتخريب،. فيا من رضي لنفسه سوء المصير، وارتكب أسباب [التضييق] والتحقير، أخسر بها من صفقة، وأقبح بها من رفقة. فيا من سلم إلى أن بلغ رمضان، ها أنت ذا تأمل بلوغ أيامه ولياليه، ماذا قدمت؟ بماذا تفكر؟ على ماذا عزمت؟
مسكين - والله - مسكين إن كان ليلك معمورًا بالقيل والقال وسوء الأقوال والفعال، مسكين - والله - في الوقت الذي يصُفُّ المصلون أقدامهم ويركعون ويسجدون يدعون ويستغيثون ويباهي الله بهم ملائكته، تبقى تقلب القناة بعد القناة، مسكين - والله - إن كان نهارك نومًا عن الصلاة وهجر للقرآن. فمن لم يغفر له في رمضان فمتى ينتظر الغفران؟ إن لم يتعرض لنفحات الرضوان في هذا الشهر الكريم، فمتى يتعرض؟ محروم هو يمضي رمضان وتنصرم أيامه وتودع لياليه، وهو في سكر الشهوة هائم، ولقيد الكسل والتفريط أسير.
أيها الأحبة: إن مما يؤسِف الناظر ويُحزن الخاطر ظاهرة مقيتة وعادة قبيحة سرت في صفوف بعضنا ألا وهي ظاهرة الإسراف في المآكل والمشارب في شهر رمضان، زيادة على قدر الحاجة، وإكثار على مقدار الكفاية حمل الكثير إلى رمي ما زاد من الأكل والزاد في النفايات والزبالات مع المهملات والقاذورات، في حين أن هناك أكبادًا جائعة وأُسرًا ضائعة تبحث عما يسدّ جوعَها ويسكِّن ظمأها فاتقوا الله عباد الله، فما هكذا تُشكر النعم، وتستدفَع النقم، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]
اللهمّ اسلُك بنا سبيلَ المتقين الأبرار، واجعلنا من صَفوةِ عبادك الأخيار، ومُنَّ علينا جميعًا بالعِتقِ من النار، برحمتك يا عزيز يا غفّار.
أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وزكّوا أعمالكم وأقوالَكم في شهر القرآنِ بالصّدق والإخلاص، واغتَنِموا أوقاتَه الشريفةَ قبل أن يؤخَذَ بالنّواصي، ولاتَ حِين مَناص.
إخوةَ الإيمان: إنّ مما يجدُر بالصائم العنايةُ به والاهتمام فقهَ الصيام، فلنعطِف بكم - يا رعاكم الله - على طائفةٍ من فقهِ الصيام، فمن ذلك معرفةُ المفطّرات التي تفسدُ الصومَ وتبطله.
ومنها مطلق الأكل والشرب عن طريقِ الفم أو الأنف لقول الله عز وجل: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة:187]، والسَّعوطُ في الأنف بمنزلةِ الأكل والشّرب لقوله: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» خرجه أبو داود والترمذي.
الثاني من المفطِّرات: ما كان بمعنى الأكلِ والشرب، كالإبَر المغذِّية التي تنوب عن الشرابِ والطعام، فإذا تناولها الصائم أفطر، وأما التي لا تغذِّي فلا تفطِّر إن شاء الله، سواءً تناولها عن طريق العروق أم العضَلات، ومثلُها القطرةُ في العين والأذُن فلا تفطِّر على الصحيح من قولي العلماء، والأحوَط أن يستعملَها ليلاً.
المفطِّر الثالث: الجماعُ في نهارِ رمضان، وإثمه عظيم، وفعلُه شنيع، ومن أتى ذلك لزِمَه مع القضاءِ الكفارة المغلَّظة، وهي عِتق رقبةٍ مؤمنة، فإن لم يجِد فصيام شهرين متتابعين.
المفطِّر الرابع: إنزال المنيّ برغبةٍ واختيار، كمن عمد إلى التقبيل واللَّمس ونحو ذلك فأنزَلَ، وإذا كان الإنزالُ عن احتلامٍ فإنه لا يُفطِّر، وكذا مجرَّدُ التفكير لقوله: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عمّا حدّثت به أنفسَها ما لم تتكلّم به أو تعمَل به» خرّجه البيهقي بسند صحيح.
المفطّر الخامس: التقيّؤ عَمدًا لقولِه عليه الصلاة والسلام: «مَن ذرَعه القَيءُ فليس عَليه قضاء، ومن استقاءَ عمدًا فليقضِ» أخرجه أبو داود والترمذي. ومعنى: «ذرعه» أي: غلَبه.
المفطِّر السادِس: إخراجُ الدّم بالحِجامة؛ لقوله: «أفطرَ الحاجِم والمحجوم» خرّجه أحمد وأهل السنن أمّا خروج يسيرِ الدّم لتحليلٍ أو لجرحٍ ورُعافٍ فلا يفطِّر.
سابعًا: نزول دمِ الحيض أو النفاس، فإنه يفطِّر ولو قبلَ الغروب بلَحَظات.
تلكم - رحمكم الله - أصولُ المفطِّرات، فصونوا - عباد الله - صومَكم عن النّقصان والبُطلان.
أيها المسلمون: شفاءُ العِيِّ السؤال، فاسألوا عما أشكل، واستفتوا عما أقفل، فمن غدا بغير علم يعملُ، أعماله مردودة لا تقبلُ.
ألا وصلّوا وسلّموا - رحمكم الله - على نبيّكم محمّد سيِّدِ الأنام، خيرِ من صلّى وصام وأفضلِ من تهجّد لله وقام، كما أمركم بذلك المولى الملكُ العلاّم، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّد الأولين والآخرين وخاتم النبيّين وأشرف المرسلين نبيّنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابتِه الغرّ الميامين والتابعين ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنّا معهم برحمتِك يا أرحم الراحمين
التعليقات