عناصر الخطبة
1/لمحات من بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم 2/مكانة وشرف منبر النبي صلى الله عليه وسلم 3/بعض خصائص بلاغته صلى الله عليه وسلم 4/صفات ينبغي أن يتصف بها كل خطيب وداعية 5/تفرد بلاغة وبيان النبي صلى الله عليه وسلم 6/وصايا ونصائح للخطباءاقتباس
كان صلى الله عليه وسلم إذا خطَب احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدَّ غضبُه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ يقول: صبَّحَكم ومسَّاكم، كان يتكلم بالكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حُسن الإفهام وقلة عدد الكلام...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي بَجَسَ من صدور البلغاء ينابيعَ البيان، وفتَق أكمامَ أفئدةِ أُولي اللَّسَن بأزاهير حدائق اللِّسان، فهي نافحةٌ بطرائف الكَلِم وشرائف الحِكَم؛ صنوانٌ وغيرُ صنوانٍ، أشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا هو، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، المجلِّي في حلبة البلاغة السابق في ذلك الميدان، الخارف من يانع أثمار جنتَي المعاني والمباني، فجَنَى الجنتينِ دانٍ، المقتعِد من منبر الفصاحة ذروته، المرتقي في درج البلاغة أَسْمَى مكان، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واتَّبَعهم بإحسان.
أما بعدُ: فإن الوصية بما وصى الله به البريات هي خير ما يزجى من الوصيات، وأعظم ما به يوصى كل راجٍ لربه خائفٍ من مولاه، وصيته سبحانه جلَّ شانه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 131]؛ فإنَّها جنة المؤمن في دنياه، وجنته في أخراه، التقوى لباس لا يشف عن نقيصة، ولا يكشف عن سوأة؛ إنَّه نور في المحيا ومسرة في الجنان، وأمان من المكاره ومرقاة إلى درجات الجنان.
أيها المؤمنون والمؤمنات: إن هذا المنبر النبوي كان مَنطلَق بيان رسالة الإسلام، ومنبر دعوته ومَطلَعَ شمسه، من مشرق هجرته -صلى الله عليه وسلم- إلى مغرب الدنيا، ذرت من أفقه شمس البيان النبوي، وتضوَّع رياه من أكمامه، وانبجست عَينُه من مَعِينه، وسمقَتْ شجرتُه من بين حصبائه، ولله قول شاعره المؤيَّد بروح القدس:
بِطَيْبَةَ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ *** منيرٌ وقد تَعفُو الرسوم وتَهمدُ
ولا تنمحي الآياتُ من دار حرمة *** بها منبرُ الهادي الذي كان يصعدُ
وواضحُ آثارٍ وباقي مَعالِمٍ *** وربعٌ له فيه مُصلَّى ومسجدُ
معارفُ لم تُطمَس على العهد آيُها *** أتاها البِلَا فالآيُ منها تجدَّدُ
هذا المنبر الشريف الذي قال فيه خطيبُه -صلى الله عليه وسلم-: "منبري على تُرعة من تُرَع الجنة"، وقال صلوات الله وسلامه عليه: "ما بينَ بَيتي ومِنبري روضةٌ من رياض الجنة، ومنبري على حوضي"، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: "إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة"، من ها هنا خطب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فوجَم البلغاءُ، وأطرَق الفصحاءُ، وأُفحم الخطباءُ، وأصاخت أُذُنُ الزمانِ إلى مَنطِقٍ يفيض بالبيان، ويَمُوج بالرحمة، ويتضوَّع بالعدل، وينضح بالصدق، يتخلل حنايا الصدور، ويستجيش خبايا النفوس، كأن كلماته الشريفات قبس من نور، أو لؤلؤ منثور أو ورض منطور.
رقيقاتُ المقاطعِ مُحكَماتٌ *** لَوَ انَّ اللفظَ يُلبَسُ لَارْتُدِينَ
إنَّه -صلى الله عليه وسلم- فارسُ المنابر، ومِصقَعُ الخطباء، لا تدري حين كان يرقى هذا المنبر الأشرف، أضمَّ خطيبًا أم ضُمِّخَ طِيبًا، كان يرقى هذا المنبر فينهل عليه من غمائم الوحي ما يعمر القلوب يقينًا، ويملأ النفوس حنينًا، يستحثّ سحائبَ العيون، ويستدرّ مدامعَ القلوب.
في نظامٍ من البلاغة ما *** شكَّ امرؤ أنَّه نظامُ فريدِ
وبديعٌ كأنه الزهرُ الضاحكُ في *** رونقِ الربيعِ الجديدِ
مُشرق في جوانب السمع ما *** يخلقه عَوْدُه على المستعيدِ
حُجَجٌ تُخرس الألدَّ بألفاظ *** فُرادى كالجوهرِ المعدودِ
حُزْنَ مستعملَ الكلامِ اختيارًا *** وتجنَّبنَ ظلمةَ التعقيدِ
ورَكِبْنَ اللفظَ القريبَ فأدركنَ به *** غايةَ المرادِ البعيدِ
كان صلى الله عليه وسلم إذا خطَب احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدَّ غضبُه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ يقول: صبَّحَكم ومسَّاكم، كان يتكلم بالكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حُسن الإفهام وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسخط له كلمة، ولا زلَّت به قدمٌ، ولا بارت له حجةٌ، ولم يقم له خصمٌ، ولا أفحَمَه خطيبٌ، بل يبُزُّ الخطبَ الطوالَ بالكَلِم القصار، ولا يلتمس إسكات الخَصْم إلا بما يعرفه الخَصْم، ولا يحتجُّ إلا بالصدق، ولا يطلُبُ الفلجَ إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربةَ، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يُسهِب ولا يَحصُر، ثم لم يسمع الناس بكلام قطُّ أعمُّ نفعًا، ولا أقصد لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مَخرجًا، ولا أفصح معنًى، ولا أبينَ في فحوى، من كلامه -صلى الله عليه وسلم-.
لو لم تكن فيه آيات مبينة *** كانت بديهته تُنبِيكَ بالخبر
أيها المؤمنون والمؤمنات: إن المنبر صهوة ينبغي أن يرتقيها مَنْ كان رابط الجنان، ممسِكًا بعنان البيان، جامعًا لذلك عُدَّةَ العِلم، مثقِّفًا لها رماح الرأي، متدرِّعًا بالإخلاص لله في حاله ومقاله، فهو من أعظم وسائل البلاغ عن الله، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والنصح لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، والتذكير بما يجب التذكير به من العلم النافع والعمل الصالح، على منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنهج سلف هذه الأمة -رضوان الله عليهم-، على أن دعوة الإسلام لا تقتصر على وسيلة المنبر وحده، فلا تقف دونه ولا تنتهي إليه، بل هي رسالة تتجلَّى في جميع جوانب حياة المسلم؛ دعوةً وعملًا وعقيدةً وأخلاقًا، فعن سعد بن هشام بن عامر قال: "أتيت عائشة -رضي الله عنها- فقلتُ: يا أم المؤمنين أخبريني بخُلُق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت: كان خُلُقُه القرآنَ"، ولكن صاحب الكلمة الصادقة حين يستلّ لسانَه استلالَ السيف من غمده ويخوض به معتركَ البيان، وتختلط حروف بلاغته وبيانه بروحه وعقيدته وإيمانه تشرق كلماته إشراقةَ شمس الضحى، ويستعرّ أُوارُها في القلوب استعارَ النار في جَزْل الغضا، وحين تخرج الكلمات خابيةً خامدةً، تصل إلى الأسماع والقلوب ميتة هامدة.
إن روح المتكلم لتصطبغ بها كلماته وعباراته اصطباغ الزهر بألوانه، والربيع بأثماره، والزُّجَاج بشرابه، وها هنا يتجلَّى الصدق وتلوح أماراته، فلا تزويق الألفاظ يحرك القلوب، ولا تنميق العبارات يشعل النفوس، ما لم توقد جذوتها بحرارة الصدق.
إن البيان المشرَب بالوحي لَيقَعُ من النفوس موقعَ الوَبْل من المحل، والقطر على القفر، والندى على الزهر؛ ولذلك كانت معجزة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت بيانًا وكلامًا من جنس كلام العرب وبيانها، قال تقدَّس اسمه: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرَّحْمَنِ: 1-4]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: "ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثلُه آمَنَ عليه البشرُ، وإنَّما كان الذي أُوتِيتُ وحيًا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يومَ القيامةِ".
لكنَّه كلامٌ ربانيٌّ، وبيانٌ نورانيٌّ غير مسار التاريخ، وقلب موازي الحضارات، إلى حضارة تقوم على ساقي العلم والعدل، وأسرج حوالك الدنيا بمشكاة التوحيد، بعد أن كانت تلتحف بظلام الوثنية، وألبسها لبوس العلم والعدل، بعد أن كانت ترتدي أردية الجهل في وحل الجور والظلم.
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسنة، وعصمنا من كل بدعة، ووقانا شرَّ كلِّ فتنةٍ، وجعَل تقواه لنا عُدةً وذخيرةً وجُنَّةً، أقول ما سمعتُم، وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفِروه، إنَّه كان للأوابينَ غفورًا.
الخطبة الثانية:
حمدًا لكَ اللهم على ما علَّمتَ من البيان وألهمتَ من التبيان، كما نحمدك على ما أسبغتَ من العطاء وأسبلتَ من الغطاء، وصلاةً وسلامًا على سيد البشر، الشافع المشفَّع في المحشر، وعلى آله وأصحابه ومَنْ تردَّى أثوابَهم وسارَ في ركابهم.
أمَّا بعدُ، معشر المؤمنين والمؤمنات: إن للكلمة في منابر التأثير التي تعددت في عالَم اليوم خطرًا أيُّ خطر، وأثرًا أي أثر، ولاسيما ممَّن هشَّت إليه الأسماعُ، وارتاحت له القلوب، ورزقه الله حُسن الإبانةِ عن مراده، وآتاه حظًّا من القَبول بين عباده؛ فإنَّها حينئذ أمانة ثقيلة الإدِّ على حاملها، عظيمة المؤاخَذة على قائلها، تَستوجِب على المتكلمِ أن يَزِنَها بميزانها، وأن يحلها في مكانها، فربما كانت كالغيث إذا انهلَّت غواديه، أو كانت كالسهم يُصمي إذا أخطَأ راميه، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"؛ فتحلَّوْا يا أربابَ البيان بحلية الأدب وهو الصدق، وتحرَّوا في قِيلِكم النصحَ وإشاعةَ الحق، كما كان حال سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المؤمنون والمؤمنات: اعرفوا للكلمة حقَّها، وأوفوها قدرها في كل موضع ومع كل أحد، وانضحوا بأحسن القول، وانفحوا بأرج الكلم، وحسبكم في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الكلمة الطيبة صدقة".
أيها الخطباء الموفَّقون: قدِّروا مواقعَ الكلام، وأحوالَ المخاطَبِينَ، ومناسَباتِ القول، وزيِّنوا ذلكم بكرائم المعاني وألبِسُوها محاسنَ الكلام وبدائعَ الألفاظ؛ لتصغي لكم القلوب، فإن الكلام لتصغو كما تصغو الآذان، كما أشار لذلك ربنا جل وتقدس بقوله: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)[الْأَنْعَامِ: 113].
أيها المؤمنون والمؤمنات: إن هذا اليوم من الأيام تُندَب فيه كثرةُ الصلاة والسلام، على خير الخَلْق وسيد الأنام، قال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدمُ، وفيه قُبِضَ، وفيه النفخةُ وفيه الصقعةُ، فأكثِرُوا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ. قالوا: وكيف تُعرَض صلاتُنا عليكَ وقد أَرِمتَ يا رسولَ اللهِ؟ أي: بَلِيتَ؟ قال: إنَّ اللهَ حرَّم على الأرض أن تَأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ"، فأكثِرُوا في هذا اليوم من الصلاة والسلام عليه؛ لتكون لكم قُربةً إلى الله، وزُلفى لديه.
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، وخاتم النبيين ورحمتك للعالمين، سيدنا ونبينا محمد، عدد ما أحصاه كتابك وخطه قلمك ووسعه علمك، اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين السادة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عَنَّا واشملنا بعفوك ومغفرتك وفضلك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد المبارك آمِنًا مطمئنًا محفوظًا مصونا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، يا سميع الدعاء، اللهم وفقهما لما فيه خير العباد والبلاد في الدين والدنيا، اللهم وفقهما لكل خير وأعنهما عليه.
اللهم إنا نسألك أن تعفو عَنَّا وأن تغفر لنا وأن تتجاوز عن ذنوبنا في هذا اليوم المبارك، يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ هذا البلد من كيد الكائدين، ومن شر الحاسدين، ومن مكر الماكرين، اللهم احفظ علماءه ورجال أمنه، اللهم احفظ حدوده واحم جنوده يا رب العالمين، وعم بذلك رجاله ونساءه وشيبه وشبابه يا أكرم الأكرمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عبادَ اللهِ: استنزِلوا فضلَ ربكم بشكره، واحفظوا نعمته باتباع أمره، والهجوا بدعائه وذِكْرِه؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
التعليقات