اقتباس
وهكذا يتبين أن الكلمات الجامعة جاءت تعبيراً عن مواقف مستخلصة من الحياة، فكانت بمثابة دروس مستفادة، وعظات مستخلصة، وعبرات معيشة، تعلم الآخرين، وتربيهم تربية تربية خلقية، وهي تنبع من رؤية الشخصيات في القصة، وتصدر عن تجربتهم المعيشة، وترتبط بمواقف الشخصيات ونظرتهم إلى الحياة ارتباطا جذرياً، فتتلون بنظرتهم الذاتية وتتأثر بتراكيبهم النفسية..
لا شك في أن القرآن الکريم يتميّز عن سائر الکتب السماوية بإعجازه البلاغي؛ وکانت بلاغته من الوسائل المهمة لإبراز إعجازه وکشف مکامنه، والغوص في بحوره، وبيان درره الخفية التي يعجز البشر أن يأتوا بمثلها، والنّص القرآني نصّ غنيّ بأفکاره ومعانيه وحکمه ومواعظه التي اختفت وراء ألفاظه وتراکيبه.
احتوى القران الكريم على أساليب وتعابير بلغت الذروة العليا من البلاغة والفصاحة والبيان في ألفاظه ومعانيه، في أهدافه ومقاصده، فألفاظه تذوب في معانيه، ومعانيه تذوب في النفس وخلجاتها، إنه السحر القرآني العظيم "سحر البيان"، ويقول سيد قطب واصفا بيان القران وفصاحته: "إن في هذا القران سرا خاصا يشعر به كل من يواجه نصوصه، يشعر بسلطان خاص في عبارات القران، يشعر أن هناك عنصرا ما ينسكب في الحسّ لمجرد سماعه".
استخدم الخطاب القرآني وسائل فنية وتعبيرية متعددة لتوصيل مضامينه، ونقل مراميه؛ منها: أسلوب القصة والإيجاز، والإطناب والمفضل والوصل والحكمة والأمثال والتصوير الفني، وغيرها من الوسائل الفنية، وكان من أبرز تلك الأدوات: "الكلماتُ الجامعة".
ويقصد بالكلمات الجامعة: تلك العبارات الموجزة والأقوال المأثورة التي تضع قواعد وأصولاً حكيمة لما تعلمه الناس في حياتهم أو سمعوه من أسلافهم، أو قرؤوه في الكتب المختلفة، وهذه العبارات تدل على وعي وفهم، ترصد تجارب الحياة وعلاقات الناس وألوان تعاملهم في مختلف أحوالهم الاجتماعية والسياسية والتربوية والثقافية.
وتتسم الكلمات الجامعة من حيث الشكل بأنها عبارات قصيرة، محكمة البناء، جيدة السبك، متينة الوصف، فيها إشارة إلى موقف أو قصة، تقال في حوادث مشابهه للحوادث الأصلية التي جاءت تشير إليها، وتُحكى على صورتها الأصلية التي رويت عليها دون تغير أو تبديل، وقد تجري تلك العبارات مجرى المثل والحكمة، وربما تجاوزت عصرها وأقطارها، وتناقلها الناس وشاعت على ألسنة المتحدثين، وأقلام الكاتبين.
تتصف الكلمات الجامعة كذلك بطابع الإيجاز والتكثيف الشديدين، بحيث تؤدى بألفاظ قليلة لتدل على معان وفيرة جليلة، تصلح للاقتباس، وتزيين الكلام بها، شأنها في ذلك شأن المثل الموروث والحكمة البليغة التي تصدر عن الأمة، وتناولها الأجيال زمانا بعد زمان.
وعلى صعيد النظر في العبارات المحكمة والأقوال المأثورة والحكم الصائبة الواردة في سورة يوسف ومضامينها ومراميها فإن القارئ يلحظ احتواءها على قدر وافر من تصوير جوانب شتى من حياة الناس والمجتمع، والتي لها صلة مباشرة بالحياة، وقد تنوعت في مضامينها ما بين عبارات في الأخلاق والسياسة والتربية وألوان من التعامل بين الناس.
تعد قصة يوسف من أروع القصص وأعجبه في القرآن الكريم؛ وذلك لما فيها من العبر والعظات، وأنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن ذل إلى عزّ، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، وفيها يظهر لطف الله -تعالى- وعنايته بأوليائه وأصفيائه، وتأييد الله لهم في أحلك الظروف وأشدها، وغير ذلك.
ولما كانت سورة "يوسف" من السور التي صيغت بأسرها في قالب قصصي، فإنها استعانت بالمكونات الفنية الأساسية في البناء المعماري للقصة من أحداث وشخصيات وحبكة وصراع وبداية ونهاية، وكان من أبرز تلك المكونات التي استعانت بها الكلمات الجامعة والأقوال المأثورة؛ بوصفها وسائل بنائية تؤدي دوراً فاعلاً إلى جانب المكونات البنائية الأخرى في القصة القرآنية؛ جاءت سورة يوسف -عليه السلام- غنيّة بأفکارها ومعانيها اللطيفة المختفية وراء ألفاظها المتناسقة وتراکيبها المتماسکة.
تنوعت الكلمات الجامعة، وتعددت أنساقها في القصة القرآنية؛ وفق ورودها على ألسنة شخصيات القصة، فقد جاءت أحيانا على لسان يوسف -عليه السلام-، وأحيانا أخرى وردت على لسان يعقوب -عليه السلام-، وجاءت ثالثة على لسان امرأة العزيز، ورابعة على لسان عزيز مصر، وقد أكسبها هذا التنوع مساحات واسعة من الدلالات والمعاني المختلفة ومنها ما جاء مرتبطاً بأحداث الزمان الذي عاشت فيه تلك الشخصيات مصورة علاقة الشخصية بالمجتمع، وعلاقة الناس بعضهم ببعض، وأصبحت تسير مسار الأقوال المأثورة، يستهدي بها الآخرون في مواقف مماثلة، وقد نالت بذلك نصيباً من النجاح والذيوع.
تكررت في هذه السورة تعبيرات معينة تؤلف جزءاً من جو السورة وشخصيتها الخاصة، وهي ظاهرة بارزة تلفت النظر إلى بعض أسرار التناسق ولطائفه في هذا الكتاب الكريم.
ومن أساليب صياغة الكلمات الجامعة: أنها تأتي مستقاة من واقع تجربة شخصيات القصة ومحنتهم الذاتية.
ومن أبرز الكلمات الجامعة والأقوال المأثورة التي اختصت بها سورة يوسف، دون سواها من السور القرآنية الأخرى ما يأتي:
- (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ) [يوسف: 16].
- (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) يوسف: 18].
- (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) [يوسف: 22].
- (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) [يوسف: 26].
- (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف: 28].
- (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) [يوسف: 41].
- (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) [يوسف: 51].
- (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف: 53].
- (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ) [يوسف: 64].
- (اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [يوسف: 66].
- (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) بيوسف: 67].
- (إلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) [يوسف: 68].
- (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) [يوسف: 77].
- (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا) [يوسف: 80].
- (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) [يوسف: 84].
- (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86].
- (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [يوسف: 92].
- (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي) [يوسف: 108].
ونعرض هنا نماذج تطبيقيه للكلمات الجامعة؛ ففي قوله تعالى على لسان يوسف -عليه السلام- في رأي كثير من المفسرين: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف: 53]، قالها يوسف على وجه التواضع، أراد أن يتواضع لله، ويهضم نفسه؛ لئلا يكون لها مزكياً، وبحالها معجباً ومفتخراً.
فقد عبّر صدر الآية عن تجربة يوسف -عليه السلام- في عدم تزكية نفسه وتنزيهها، أما عجز الآية فقد ركز على قول أصبح مأثوراً بعد ذلك وهو: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، ويبدو الارتباط وثيقاً بين تجربة يوسف -عليه السلام- وقوله المأثور، وإذا صح للمتلقي أن يطلق على هذا الجزء تذييلا كما يسميه البلاغيون، فلقد جاء التذييل: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، في صورة تعقيب مترابط مع أحداث القصة، وهو يؤلف مؤثراً موحياً من المؤثرات الكثيرة في سياق القصة، لتقرير الحقيقة التي يعرضها، وتوكيدها في مواجهة الأحداث التي مرت به.
وهكذا أجادت الآية إجادة فنية خالصة، يحق للمتلقين أن يتمثلوا بها حين تتفق ورؤيتهم ومواقفهم وتجاربهم.
وفي قوله تعالى: (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) [يوسف: 51]، كلمة جامعة جاءت على لسان امرأة العزيز، وفيها اعتراف صريح ببراءة يوسف -عليه السلام- ونزاهته وعفته من فاحشة الزنا بعد ظهور الآيات واضحة، والبراهين الساطعة على براءته، فأصبحت تقال لمن ملك برهاناً على عفته ونزاهته، فقد ظهر الحق، وانكشف وبان بعد خفائه ظهوراً واضحاً لا يتحمل الخفاء.
وفي قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) [يوسف: 67]، أي ما الحكم في أمر العبادة والدين إلا لله رب العالمين -عز وجل- وحده، لا يشاركه أحد، ولا يمانعه شيء.
وفي قوله تعالى: (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) [يوسف: 41]، أي انتهى، فقضاء الله تمَّ، صدقتما أو كذبتما، فهو واقع لا محالة.
وفي قوله تعالى: (إلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) [يوسف: 68]، تعبير عن رغبة جاءت في نفس يعقوب ولون من التدبير الذي لا يغني من الله شيئاً، وهو أمره لأبنائه بأن لا يدخلوا المدينة من باب واحد، وأن يدخلوا من أبواب متفرقة؛ خشية العين؛ وشفقة منه عليهم على الرغم من إيمانه بأن القدر لا يدفعه الحذر، لا تغنى من الله وقدره. وهي عبارة تقال لمن فعل فعلاً ما تلبية لرغبة في نفسه لا يعلمها إلا هو.
وفي قوله تعالى: (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ) [يوسف: 16]، تقال لمن يرتكب جريمة ويحاول إخفاءها، مستعينا بالظلام؛ حتى يخفيها وبالبكاء وسيلة لتمريرها واستدرار شفقة الآخرين وعطفهم، رٌوِي أن امرأة تحاكمت إلى شريح (أحد القضاة المشهورين) فبكت، فقال الشعبي: يا أمية أما تراها تبكي؟! قال الشعبي: لقد جاء إخوة يوسف يبكون، وهم ظلمة كذبة، لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق، واختار المولى عبارة (عِشَاء يَبْكُونَ)؛ ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة.
وفي قوله تعالى: (إنًّ كيدَكُنَّ عَظِيم) [يوسف: 28]، وردت هذه الكلمة الجامعة على لسان عزيز مصر إشارة إلى زوجه وصواحب يوسف وما جاء منهن ادعاء وكذبا واتهاماً ليوسف.
وهي مقولة تكشف عن طبيعة النفس البشرية، ومكونات نفسية في جنس المرأة بعامة. وفيه دلالة على عظم كيد المرأة، ذلك الذي يتأمل كيف حاكت هذه المرأة المؤامرة وغلقت الأبواب وقالت: (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23]، واستعانت بالنسوة. يعنى أن المرأة إذا أرادت أن تكيد كادت، وهذا شيء خلقه الله واستعظمه.
إن الكيد دلالة كامنة في حسّ المرأة وتركيبها، إنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد العظيم، كيدهن عظيم، أي فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن.
وفي قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) [يوسف: 26]. أن شهادة القريب علي قريبه أقوى من شهادة البعيد على القريب.
وفي قوله تعالى: (اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [يوسف: 66]، إن إعلان التوكل على الله بعد إبرام العقود مما يُزيدها بركه وخيرا وتذكيرا للطرفين بما تعاقدا عليه. فالإنسان إذا أراد إن يُبرم عقداً مهما في العقود، فإنه يبين التوكل على الله؛ ليكون هذا واضحاً بين الطرفين، وهذه عبارة أنبياء ينبغي أن يُقتدى بهم فيها إذا أبرمت عقداً أو اتفاقاً فقل: (وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص: 28].
فكل منهم يعظ نفسه بالله إن الله رقيب مطلع يشاهد ويشهد على هذا العقد وعلى الاتفاق وعلي هذا الميثاق.
وفي قوله تعالى: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86]؛ لأن الشكاية لغير الله -عز وجل - مذلة، ومن نزلت به بلية أو فتنة أو مصيبة فأنزلها بخلق الله لم يزيدوه إلا ضعفاً، ومن أنزلها بالله -عز وجل-، فإن لله خزائن السموات والأرض، وهو وحده القادر على تنفيس الهموم وتفريج الكروب.
وهكذا يتبين أن الكلمات الجامعة جاءت تعبيراً عن مواقف مستخلصة من الحياة، فكانت بمثابة دروس مستفادة، وعظات مستخلصة، وعبرات معيشة، تعلم الآخرين، وتربيهم تربية تربية خلقية، وهي تنبع من رؤية الشخصيات في القصة، وتصدر عن تجربتهم المعيشة، وترتبط بمواقف الشخصيات ونظرتهم إلى الحياة ارتباطا جذرياً، فتتلون بنظرتهم الذاتية وتتأثر بتراكيبهم النفسية.
وقد كان لهذه العبارات الجامعة والكلمات المأثورة تأثير كبير فيمن تلقاها وقرأها، فجرت هذه الكلمات الجامعة على لسان رسولنا الكريم -عليه الصلاة والسلام- وعلى ألسنة بعض الصحابة الذين تأثروا في خطابهم الديني بأساليب القران الكريم وعباراته الجامعة، كما دارت مثل هذه الكلمات على ألسنة الخطباء في خطبهم ومواعظهم وشاعت على أقلام الكتاب قي إبداعاتهم.
فقد جاء أعظم تأثير لهذه الكلمات الجامعة في خطاب الرسول -صلى الله عليه وسلمَ-، إذ وردت هذه الكلمات التي تتسم بطابع الحكمة وسماتها على لسانه، فقد روي عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أخذ بعضاتي يوم فتح مكة، وقد لاذ الناس بالبيت فقال: "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" ثم قال: "ماذا تظنون يا معشر قريش" قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت؛ قال: "وأنا أقول كما قال أخي يوسف: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [يوسف: 92]، فهذه العبارة تقال في العفو عند المقدرة، فإن هذه صفات العظماء الأجلاء، الذين يتحملون في سبيل دعوتهم كل أذى، ولذلك فإن يوسف قد عفا عن إخوته برغم قدرته على إنزال أشد العقوبات قساوة بهم، وقابل إساءتهم بالإحسان، وهكذا فعل نبينا -عليه الصلاة والسلام-.
وأفادت أم المؤمنين عائشة -رَضي الله عنها- أيضاً من تجربة يعقوب -عليه السلام- والبلاء الذي حلّ به، فرددت ما دار على لسانه عندما فقد ابنه يوسف بقوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، قالها يعقوب في مواجهة الصدمة في فقدانه يوسف، واتجاهه إلى ربه مستعيناً به.
وأفادت أيضاً من قول يعقوب في مواجهة الصدمة الثانية في فقد بنيامين في كبرته وهرمه وضعفه وحزنه، (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، فلم يتسرب اليأس من رحمة ربه لحظة واحدة إلى قلبه.
إنه سيصبر متحملاً متجملاً لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو، مستعينا بالله على ما يلفتونه من حيل وأكاذيب.
وما تزال الناس في أيامنا هذه تستمد من الأقوال المأثورة التي وردت في قصة يوسف عباراتها اليومية التي تعبر فيها عن مقاصدها ومراميها، فتدور على ألسنة العامة العبارات الآتية: وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ، صواحب يوسف، بقرات يوسف، قميص يوسف، الله وكيل على ما أقول، هو بريء من التهمة براءة الذئب من دم يوسف، وفي المثل العرب: "إلا زليخة"، و"زليخة" هي زوجة عزيز مصر التي راودت يوسف -عليه السلام- عن نفسه، واشتهرت بالجمال.
وفي بلدان المغرب العربي ما يزال يتردد إلى اليوم على ألسنة العامة قولهم: "الله غالب"، فمثلا تقول لشخص: لماذا لم تفعل كذا وكذا؟ فيجيب: "الله غالب"، وتقول: لماذا لم توف بعهدك؟ فيجيب: "الله غالب"، إنه يقصد بذلك وصف الله بالغلبة والقدرة، والعزة والقهر، وهو بذلك يصف الله بما هو أهله، وهذه العبارة مأخوذة من قوله تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) [يوسف: 22].
وخلاصة القول: فقد بدت هذه الأقوال الجامعة أقوالاً حكيمة دقيقة في تعبيراتها، موجزة في ألفاظها، معتدلة متوازنة مقبولة، وجرت مجرى الحكمة والمثل الذي قلّ حروفه، وكثر عدد معانيه.
كما وردت الكلمات الجامعة في الخطاب القرآني نموذجاً كاملاً للأداء الفني الصادق الجميل، فكانت لوناً من ألوان التناسق في الأداء القرآني في السورة بكاملها.
وقد جاءت تلك العبارات متلاحمة مترابطة فيما بينها ترابطاً وثيقاً من جهة، ومتشابكة ومتفاعلة مع الإطار الفني المتكامل للقصة القرآنية في السورة من جهة أخرى.
وتأخذ الحكمة في الأقوال الجامعة شكل التجربة البشرية الصادقة التي تنزل إلى أعماق النفس الإنسانية، وتصور خلجاتها، وتضع الموازين لاستقامتها.
إنها تعبّر عن حكمة بالغة، ومعرفة واسعة بتجارب الناس في المجتمع، وإدراك لطبيعة النفس البشرية، وما يعتورها من النوازع والمشاعر المختلفة.
وهكذا رسم التعبير الفني في هذه الكلمات الجامعة خفقات المشاعر وانتفاضات الوجدان رسماً رشيقاً شفيفاً تناسقت فيها جميع المؤثرات في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة كذلك.
التعليقات