اقتباس
الذي يَظهر من خلاف العلماء أن مذهب ابن حزم قوي، غيرَ أن الراجح هو قول الجمهور؛ لحديث عمر -رَضي الله عنه- في خطبته بحضور الصحابة بغير نكير من أحد، فصار إجماعًا.
تكلمنا في المقال السابق عن الفصل الثاني "شروط صلاة الجمعة" من البحث المسمى "بعض أحكام صلاة الجمعة"، وفي هذا المقال سوف يكون حديثنا عن الفصل الثالث "كيفية صلاة الجمعة". فأقول مستعيناً بالله:
للجمعة ركنان؛ الصَّلاة، والخُطبة، وأجمعت الأمَّة على أن الجمعة ركعتان، وعلى أنه يُسنُّ الجهر فيهما بفاتحة الكتاب وسورة؛ لِمَا رُوي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفِطْر ركعتان، وصلاة السَّفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمامٌ غيرُ قَصْر، على لسان نبيكم -صلَّى الله عليه وسلَّم- وقد خاب من افترى"[84]، وهو صحيح.
ويُستحب القراءة فيهما بسورَتَي الجمعة والمنافقين[85]؛ لِمَا فيهما من الحثِّ والترغيب في حضورها، وأنَّ التخلُّف عنها من صفات المنافقين، أو سُورتَي الأعلى والغاشية، أو سورتي الجمعة والغاشية؛ لما فيهما من التذكير بأحوال الآخرة، ويقرأ السورتين كاملتين، وكان مالكٌ[86] يقول: الذي جاء به الحديث: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ) الآيةَ، يعني مع سورة الجمعة، والذي أدركتُ عليه الناس: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، وكان الشافعي[87] وأبو ثَوْر يقولان بحديث عبيدالله بن أبي رافع، عن أبي هريرة، وقال أصحاب الرأي: يُكره أن يوقِّت في ذلك وقْتًا، ما قرأ في الجمعة فحَسَن[88]، وأمَّا الاقتصارُ على أواخرهما فلم يَفعله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قطُّ، ومُخالِفٌ لِهَدْيه -صلَّى الله عليه وسلَّم.
ودليل هذا ما رُوي:
عن عُبيد الله بن أبي رافع، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قرأ في الجمعة بسورة الجمعة وإذا جاءك المنافقون، قال عُبيدالله: فقلت له: قد قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقرأ بهما في الجمعة، فقال: "إنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يقرأ بهما"[89].
عن ابن عباس، " أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يقرأ في صلاة الفجْر، يوم الجمعة: الم تَنْزيل السَّجدة، وهل أتى على الإنسان حين من الدَّهر، وأن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين"[90].
عن سَمُرة بن جندب، أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- "كان يقرأ في صلاة الجمعة، بـ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، و(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ)[91].
عن النُّعمان بن بشير قال: كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، و(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ)، قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة، في يوم واحد، يقرأ بهما في الصلاتين"[92].
وفي رواية: أنَّ الضحَّاك بن قيس سأل النُّعمان بن بشير: ماذا كان يقرأ به رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟ قال: "كان يقرأ بـ: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ)[93].
المبحث الأول: أداؤها في الزحام:
اختلف العلماء[94] في مَن زُوحِم على السُّجود، ولم يجد موضعًا للسُّجود، على أقوال: فقيل: مَن زحمَه الناس فلم يجد موضعًا للسُّجود، فسَجَد على ظهر رجل أجْزَأَه، وهو مذهب الأحناف[95] والشافعية[96] والحنابلة[97].
ودليلهم في ذلك:
ما رُوي عن عمر -رَضي الله عنه-: "من اشتدَّ عليه الحرُّ يوم الجمعة في المسجد فليصلِّ على ثوبه، ومن زحمَه الناس فلْيَسجد على ظهر أخيه "[98].
وقد قال عمر -رَضي الله عنه- هذا في خُطبة بحضور الصَّحابة بغير نكير من أحد، فصار إجماعًا.
أن ذلك هو ما يَقْدر عليه، فلا يُكلَّف إلا بما استطاع.
وقيل: لا يَفعل وإلاَّ تبطل الصلاة، وهو مذهب المالكية[99].
ودليلهم أنه أخلَّ بركْن؛ لقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في حديث المُسِيء صلاتَه: "أمْكِن جبْهَتَك من الأرض"[100].
وقيل: إن شاء انتظر زوال الزحام، وإن شاء سجَد على ظهره، وهو الأفضل، وهو رواية عن الإمام أحمد والشَّافعي في القديم[101].
ودليلهم أنه إذا سجد حصلتْ له فضيلةُ المتابَعة، وإذا انتظر زوال الزحمة حصل له فضيلة السُّجود، فصار مُخيَّرًا بين الفضيلتين.
وقيل: يسجد كيف أمكنه، ولو إيماءً، فإن لم يقدر أصلاً وقف كما هو، وهذا مذهب ابن حزم[102].
ودليله:
لقوله -جلَّ وعلا-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286].
وقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إذا أمرتُكم بشيء، فأْتُوا منه ما استطعتم"[103].
لا فرق بين عُذْر المرض أو الخوف أو الزحام، وقد صلَّى السَّلف إيماءً في المسجد؛ إذْ كان بنو أُميَّة يؤخِّرون الصلاة إلى قرب غروب الشمس.
الراجح:
الذي يَظهر من خلاف العلماء أن مذهب ابن حزم قوي، غيرَ أن الراجح هو قول الجمهور؛ لحديث عمر -رَضي الله عنه- في خطبته بحضور الصحابة بغير نكير من أحد، فصار إجماعًا.
بهذا المقال ختمنا البحث المسمى" بعض أحكام صلاة الجمعة"، ولله الحمد والمنة.
وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_____
[84] أخرجه ابن ماجه (1064) وأحمد (257) وابن خزيمة (1425) وغيرهما.
[85] "المحرَّر في الفقه" (1 / 153) "شرح منتهى الإرادات" (2 / 23).
[86] "التمهيد" (16 / 322) "القوانين الفقهية" (63).
[87] "الوسيط في المذهب" (2 / 293) "المجموع" (4 / 402).
[88] "بدائع الصنائع" (1 / 206) "البحر الرائق" (2 / 246).
[89] مسلم (877) والترمذي (519) وأبو داود (1124) ابن ماجه (1118).
[90] مسلم (879) والترمذي (520) والنسائي (956) أبو داود (1047) ابن ماجه (821).
[91] رواه أبو داود والنسائي وأحمد.
[92] مسلم (878).
[93] مالك (243).
[94] "الأوسط" لابن المنذر - كتاب صفة الصلاة - جماع أبواب الصلاة قبل صلاة الجمعة - ذكر سجود المرء على ظهر أخيه في حال الزحام: "وقال مجاهد: يسجد على فخذ أخيه إذا لم يستطع من الزحام، وممن رأى أن يسجد على ظهر أخيه إذا لم يقدر على السجود بالأرض من الزحام سفيانُ الثَّوري، والشافعيُّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وقال أصحاب الرَّأي: إنْ فَعَل ذلك فصلاته تامَّة، ورُوِّينا عن الحسن البصري أنه قال: إن شِئتَ فاسجد على ظهر الرجل، وإن شئت فإذا رفع الإمام فاسجد، وقالت طائفة: يُمسِك عن السجود، فإذا رفعوا سجد، كذلك قال عطاء، والزهري، وفعل ذلك حجَّاجُ بن أرطأة، والحكم بن عُتَيبة، وكان مالك يرى أن يعيد الصلاة إن سجد على ظهر أخيه، وإن كانت جمعة أعادها أربعًا، وفيه قول ثالث: وهو أن يومئ إيماء إذا لم يقدر على السجود، هذا قول نافع مولى ابن عمر، قال أبو بكر: وبقول عمر بن الخطاب نقول؛ لأنَّه سجود في حال ضرورة على قدْر طاقة السَّاجد، ولم يُكلَّف المصلِّي إلا قدر طاقته".
[95] "المبسوط" (1 / 190) "بدائع الصنائع" (1 / 210) "البحر الرائق شرح كَنْز الدَّقائق" (1 / 611) "مراقي الفلاح" (87) "حاشية الطحطاوي" (232).
[96] "المجموع" (4 / 433) "روضة الطالبين" (1 / 523) "مُغْني المحتاج" (1 / 447) "فتْح الوهَّاب" (1 / 140).
[97] "المُغْني" (3 / 186) "الشَّرح الكبير مع الإنصاف" (5 / 209) "المُحرَّر في الفقه" (1 / 103) "شرح منتهى الإرادات" (2 / 16).
[98] أخرجه عبد الرزاق في "مصنَّفه" (5485) وابن أبي شيبة (2741) وإسناده صحيح.
[99] "المدوَّنة الكبرى" (1 / 228-229) "مواهب الجليل" (3 / 479) "حاشية الدُّسوقي" (2 / 8).
[100] "التِّرمذي" (39).
[101] "المجموع" (4 / 436).
[102] "المُحلَّى" (5 / 78).
[103] البُخاري (7288) ومسلم (6187).
التعليقات