عناصر الخطبة
1/شرف الدعوة والحاجة لها 2/بيان الكتاب والسنة لمنهجية الدعوة ومعالم نجاحها 3/أسس نجاح الدعوة

اقتباس

إن من شرع الدعوة، ورغَّب فيها، وحثَّ عليها؛ شرع منهجها، وأبان أساسها الذي يكون به نجاحها وبركتها ونفعها، فكان ذلك المنهج هو خط البصيرة الذي تقفَّاه نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في دعوته، ولم يَحِدْ عنه قِيْدَ أُنملة، وقد أوضح الله أبرز معالم ذلك المنهج بـ....

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)[النساء: 1].

 

أيها المؤمنون: الدعوة إلى الله -سبحانه- أشرف الوظائف؛ فهي وظيفة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وميراثهم الذي ورَّثوه لمن كان له من الخير حظ وافر، وظهور تلك الدعوة ومتانتها ضمانةٌ لفلاح المجتمع وأمانه من الغوائل والشرور؛ كما قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران: 104]، ويقول سبحانه: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ)[هود: 116].

 

وتعظم الحاجة إلى تلك الدعوة كلما ازداد الجهل، واستحكم داء الغفلة، وأخلد الناس إلى الأرض، وصارت الدنيا غايتهم، وقلَّ الداعون إلى الله.

 

إن من شرع تلك الدعوة، ورغَّب فيها، وحثَّ عليها شرع منهجها وأبان أساسها الذي يكون به نجاحها وبركتها ونفعها، فكان ذلك المنهج هو خط البصيرة الذي تقفَّاه نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في دعوته، ولم يَحِدْ عنه قِيْدَ أُنملة، كما نوَّه الله بقوله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)[يوسف: 108].

 

وقد أوضح الله أبرز معالم ذلك المنهج بقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33]؛ ففيه بيانٌ لشرف رسالة الدعوة إلى الله، وأربعة من الأسس التي لا يقوم عمادها إلا عليها، والتي غدا بها حسنُها فائقًا حُسْنَ كلِّ قولٍ وعمل؛ بركةً ونفعًا.

 

عباد الله: إن نجاح الدعوة معقود بقدر ما تحقق فيها من حفاظٍ لهذه الأسس، لا بما حققت من شهرة وعدد وسَعَةِ انتشار، وذلك موجب على الداعي إلى الله أن يعتنيَ بها أيما عناية؛ ليقبل الله منه دعوته، ويكرمه بإحلال البركة فيها وإبقاء النفع بها أولى تلك الأسس: الإخلاصُ المستلهَم من دلالة الحصر في قوله سبحانه: (دَعَا إِلَى اللَّهِ)[فصلت: 33]، وذلك بألَّا يرجوَ الداعي حظًّا من دعوته سوى ابتغاء رضا الله، كما كان ذلك منهجَ الأنبياء قاطبةً في دعوتهم، وصرحوا به جليًّا في دعوة قومهم: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)[الشعراء: 109]؛ فما ابتغَوا بدعوتهم منصبًا ولا جاهًا، ولا وظيفة ولا مالًا، ولا حظوة ولا ذِكرًا، ولا شهرة ولا ترفُّعًا، جعلوا رضا الله قبلة قلوبهم، فما شيء يحول بينهم وبينه، إن تكلموا تكلموا لله، وإن سكتوا سكتوا لله، وإن عملوا عملوا لله، وإن قاموا قاموا لله، وإن بذلوا بذلوا لله، وإن عفوا عفوا لله، وإن غضبوا غضبوا لله، وإن جاهدوا جاهدوا لله، لا يضرهم نكران المعروف، وتجاهل الذكر، ومصادرة الجهود؛ فقادهم ذلك الإخلاص إلى مقام الصدق الذي به كانت هدايتهم لسبل البر؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم­: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة"(متفق عليه).

 

أيها المؤمنون: وثاني تلك الأسس التي يكون عليها عماد الدعوة الربانية: قيامها على بصيرة من علم راسخ؛ إذ كيف يدعو إلى الله، ويدل على طريقه مَن لا يعرف هذا الطريق وإن كان مخلصًا في دعوته ودلالته؟ ألا وإن من أخطر ما يكتنف بعض الدعوات قيامَها على الحماس غير المزموم بزمام العلم، وتصدُّرَ الجهلة فيها، والتزهيدَ في العلم، وانتقاصَ العلماء الراسخين، وامتزاجَها بالبدع والخرافات، وليس من شرط تحقق العلم في الدعوة بلوغ الذروة في سُلَّمِهِ، بل يكفي المرء تبليغ ما علمه من دين الله -سبحانه-، وإن كان آية واحدة أخذًا بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم­: "بلغوا عني ولو آية"(رواه البخاري).

 

عباد الله: والقدوة أساس ثالث من أسس المنهج الشرعي للدعوة؛ مستلهَم من قول المولى: (وَعَمِلَ صَالِحًا)[فصلت: 33]، وذاك ما تميزت به دعوات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- باطرادٍ، كما حكى حالَهم نبيُّ الله شعيب -عليه الصلاة والسلام- بقوله: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)[هود: 88]، وذلك بألَّا يناقض فعلُ الداعي قولَه، بل كثيرًا ما تكون أفعاله ومواقفه أبلغ تأثيرًا من أقواله؛ إذ تلك القدوة من أدعى ما يحمل الناس على اتباع دعوة الخير؛ كما قال مؤمن أصحاب القرية: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[يس: 20-21].

 

قال ابن الجوزي: "لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيرُه أعلمَ منه، ولقيت جماعةً من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة، ويسرعون بالجواب؛ لئلا ينكسر الجاه، وإن وقع خطأ، ولقيت عبدالوهاب الأنماطي، فكان على قانون السلف؛ لم تُسمع في مجلسه غيبةٌ، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه؛ فكان -وأنا صغير السن حينئذٍ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل".

 

وكما أن رعي القدوة من أعظم ما يحمل على الاتباع، فإن إخفارها من أقوى ما يحمل على النفور والإعراض؛ كما قال الله عن علماء السوء من بني إسرائيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[التوبة: 34].

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...

 

أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

أيها المسلمون: ورابع أسس نجاح الدعوة في قول الله -تعالى-: (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33] يُبين أن الاعتزاز بالدين، وقوة تأكيد الانتظام لجمع المسلمين، وحسنَ الظن فيهم، والسعيَ في توحيد صفهم وجمع كلمتهم، والحفاظَ على مسمى أهله الذي سماهم الله به: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)[الحج: 78].

 

وتفهُّمَ تنوع مجال الدعوة ووسائلها المشروعة ما دامت في حيز مسمى الإسلام من أعظم أسباب توفيق الداعي في دعوته، وأن مخالفة ذلك من تمزيق الصف الإسلامي بتصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان، وتضييق سعة الإسلام بمسميات وشعارات تحمل على التعصب، واحتكار الحق بالدعوى، وحصر نطاق الدعوة إلى الإسلام بوسائل ومجالات محددة من أعظم ما يجلب الإخفاق والتشرذم، وليس وراءَ ذلك إلا الفشلُ وذهابُ القوة، كما قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46].

 

عباد الله: إن قول الله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33] قد حوى من أسس البصيرة معنًى غزيرًا؛ فهلمَّ هلمَّ إلى مَعِينه.

المرفقات
nrb9QjbJwvCUEBSr6tpAyi6fcoN3GmXsJOxumph1.pdf
LwFqL0TiOYQWJ6oi2ea3rOtig1ful4YqQ62O0vxV.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life