بشرى للصابرين

عبدالله بن عياش هاشم

2023-01-29 - 1444/07/07
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/حال الحياة الدنيا 2/بشريات الصابرين 3/التعامل الصحيح مع النعم والبلاء 4/مقدار البلاء مقرون بعظم قدر المبتلى عند الله

اقتباس

إنَّ المؤمن في هذه الدنيا بين أمرين: بين نعمٍ تحتاج إلى شُكْرٍ، وابتلاءٍ يحتاج إلى صَبرٍ، وفي الحديث ‌"عَجَبًا ‌لِأَمْرِ ‌الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صلى الله عليه وسلم-.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فإن الله تعالى جعل الحياة الدنيا لا تخلُو من كَدَرٍ، ولو صَفَت لأحدٍ لصَفَت لخَيْر البَشَر -صلى الله عليه وسلم-، يقول تعالى مخاطبًا النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)[الأحقاف:35]، وقال تعالى مُخْبِرًا عن أنبِيائه ورسُلِه: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)[الأنعام: 34].

 

فالحياةُ الدنيا متغيرةٌ متبدلةٌ، وهي دارُ امتحانٍ وتَمْحيصٍ، (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)[آل عمران: 154]، فتَتَبَيَّن حقيقة إيمانِ العبدِ وصَبْره وشُكرَه، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ)[محمد: 31]، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 142].

 

أحبتي الكرام: اتقوا الله (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الْأَنْفَالِ: 46]؛ فَمَنْ رَزَقَهُ اللهُ الصبر فقد ظفَر بأعظَم خَيْرٍ، وأَوْسَع عطاءٍ، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمر ان:146]، وإن الله تعالى قد قال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[البقرة:155].

 

يا بُشْرى للصابرين بالفوز العظيم، يقول تعالى: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)[المؤمنون:111]، ويا بُشْراهم فأحسن الأجور وأعظمها، (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:96].

 

ويا بُشرى للصابرين بالأجور المضاعفة (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا)[الْقَصَصِ:54]، ويا بُشْراهم بجنات عدنٍ (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)[الإنسان:12]، ويا بُشْراهم بالعطاء الجزيل (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر:10].

 

فبشرى للمؤمن الصابر المحتسب عند الله ما يُصيبُه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَا ‌يُصِيبُ ‌المُسْلِمَ ‌مِنْ ‌نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمِّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمِّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا؛ إِلَاّ كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"(متفق عليه).

 

وفوقَ هذه البِشارات فإنَّ اللهَ ضمِنَ لهم أجرهم فقال جلَّ وعزَّ: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف:90] ، وقال: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[هود:115].

 

معاشر المسلمين: إنَّ المؤمن في هذه الدنيا بين أمرين: بين نعمٍ تحتاج إلى شُكْرٍ، وابتلاءٍ يحتاج إلى صَبرٍ، وفي الحديث ‌"عَجَبًا ‌لِأَمْرِ ‌الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ."(رواه مسلم).

 

وإن العبد من عباد الله يصلي ويصوم، ويعتمر ويحج، ويتصدق ويُحسِن؛ فما يَصِلُ بها الدَّرجَةَ والمَنزِلةَ التي كتبَها الله له، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الرجُلَ لَيكونُ له عندَ الله المنزِلَةُ، فما يَبْلُغها بِعَمَلٍ، فما ‌يَزالُ ‌يَبْتَليهِ ‌بما ‌يَكْرَهُ حتّى يُبْلِغَهُ إيَّاها"(صححه الألباني).

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة: 153].

 

نَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِما مِنَ الآياتِ وَالحكمة، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ ولِوَالِدِينَا وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فقد جاء عن الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: ‌"النَّبِيُّونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، ‌يُبْتَلَى ‌الرَّجُلُ ‌عَلَى ‌حَسَبِ دِينِهِ، إِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَدَعَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ"(رواه أحمد وصححه الألباني).

 

عَنْ ‌أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، ‌وَأَخْلِفْ ‌لِي ‌خَيْرًا مِنْهَا. إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا"، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (رواه مسلم)

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران:200].

 

اللهُمَّ إِنَّا نَسأَلُك ‌العَفْو ‌والعَافِيةَ فِي الدُنيا والآخِرة، اللهُمَّ إِنَّا نَسأَلُك العَافِيةَ فِي دِينِنا ودُنْيَانا وأَهلِينا.

 

يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ! بِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالمسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمشْرِكِينَ وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُؤْمِنِينَ وَجُنْدَكَ الْمُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ الإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ بِسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ فِي نَفْسِهِ وَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَى نَحْرِهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، وَاجْعَلُهُ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

 

اللهم وفِّق خادمَ الحرمينِ الشريفينِ ووليَّ عهدِه وأعوانهما ووزراءهما لِمَا تُحِبُّ وترضى، خُذ بِنواصيهم للبر والتقوى، واجعلهم اللهم سلمًا لأوليائك، حربًا على أعدائك، ووفِّقْهم لِمَا فيه خير للإسلام وصلاح المسلمين.

 

اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين لِمَا تحبه وترضاه، اللهم وفقهم لتحكيم شرعك في رعاياهم، والعدل بينهم.

 

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10].

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا، وَلِوَالِدِ وَالِدِينَا، وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالمسْلِمَاتِ، وَالمؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life