بشارة وتفاؤل بهطول الغيث المدرار

الشيخ د أحمد بن علي الحذيفي

2023-01-27 - 1444/07/05
التصنيفات: الخلق والآفاق
عناصر الخطبة
1/آيات الله وإبداعاته في الكون 2/الغيث نعمة الله وفضل عظيم 3/ضرورة شكر الله وتوحيده على نعمة الغيث 4/بعض الدلائل والعلامات في نزول الغيث 5/بشارات التفاؤل والأمل في هطول الغيث

اقتباس

ألَا وإنَّ المؤمن يتذكَّر بنزول الغيث وتبدُّل الأحوال مِنَ الخِصب إلى الجدب أنَّ هذه الدنيا لا تدوم شدائدُها ولا تمتدّ مسراتُها، فتعظُم رغبتُه في دار النعيم المقيم، الذي لا يَحُول ولا يَزُول، ولا يَبتَئِس بما قد يَعرِض له، ولا يعظم في صدره ما قد ينزل به...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

أما بعدُ: فاعلموا أن التقوى عروة لا تنفصم، ومعقد لا ينحل، وثوب لا يَخلَق، وحبل لا يرثّ، فهي كفاية ووقاية؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطَّلَاقِ: 2-3].

 

أيها المؤمنون والمؤمنات: إننا حين نتصفَّح كتابَ الكون ونُقلِّب صحائفَه، ونُسرِّح طرفَ التأمُّل فيه لنتملَّى بدائعه ولطائفه، ليصيبنا الدهشُ ويتملكنا العَجَبُ، من هذا الإبداع الرباني، الجامع بين الكمال والجَمال، كمال الصنعة وجَمال الصورة، وبين الدقة والرقة، دقة النسج ورقة الوشي، في وِزان دقيق بين كمال الصنعة وإحكام إنشائها، وجَمال الصورة وحُسن بهائها، فلا غلبة لأحدهما ولا طغيان؛ (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ)[الرَّحْمَنِ: 20]، لا يكاد ذو الفطرة السوية يجيل فيه خاطره، ويُقلِّب فيه ناظرَه، حتى يخرَّ لله ساجدًا في محراب عبوديته؛ لِمَا تدعو إليه شواهدُ الربوبية المنتثرةُ في كل ذرة من ذرات هذا الكون الرحيب، الناطق بها هذا الخلق المحكم العجيب.

وفي كل شيء له آيةٌ *** تدلُّ على أنَّه الواحدُ

ولله في كل تحريكةٍ *** وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ

 

ألَا وإن من شواهد آيات ذلك الكمال والجَمال، ومشاهد تجلِّياته، ما درت السماء عليكم من مائها، وأنبتت الأرض من خضرائها، وما ازين به وجهها من حسنها وبهائها، فاغتسلتِ الأرضُ بماء المُزن، واختالت في ثياب الحُسن.

وتنوَّعَت بُسُطُ الرياضِ فزهرُها *** متباينُ الأشكالِ والألوانِ

مِنْ أبيضٍ يَقِقٍ وأصفرَ فاقعٍ *** أو أزرقٍ صافٍ وأحمرَ قانِي

والظلُّ يُسرِع في الخمائلِ خَطوَه *** والغصنُ يَخطُر خطرةَ النشوانِ

والأرضُ تَعجَب كيف تضحكُ والحَيَا *** يبكي بدمعٍ دائمِ الهملانِ

 

أيها المؤمنون والمؤمنات: إنكم لتتقلبون في خصب الديار بعد جدبها، وبفيض السماء بعد قحطها، فكأنَّ مَبسِمَ السماءِ قد افترَّ بعدَ عُبُوس، تَعرِف في وجهها نضرةَ النعيم بعد البُوسِ، وكأن ظهر الأرض قد بَدَّل لَبوسًا بلبوس، وكأنك تسمع للكائنات سرورًا به صوتًا غير صوتها؛ (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)[الرُّومِ: 50].

 

الغيث ينفخ في الأرض روح الحياة -بإذن الله-، فتسري في أوصالها سريان الماء في الأغصان، ويدب فيها دبيب الروح في الأبدان، فهو روح تبعث الحياة في كل شيء؛ (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)[الْأَنْبِيَاءِ: 30]، تبتهج الأرضُ بنزوله ابتهاجَ المصدور بخبر السرور، وتستقبله استقبالَ المشوق للمحبوب.

وروضٍ عن صنيعِ الغيثِ راضٍ *** كما رَضِيَ الصديقُ عن الصديقِ

إذا ما الغيثُ أسعَدَه صبوحًا *** أتمَّ له الصنيعة بالغبوقِ

كأنَّ القَطرَ منتثرًا عليه *** بقايا الدمع في خد المشوق

 

إنَّه نعمة عظمى تتجلَّى فيها رحمةُ اللهِ بِعِبَادِهِ، وفضلُه على مخلوقاته، يقول تقدَّس اسمُه: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)[الْوَاقِعَةِ: 68-69]، عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أنَّه قال: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: قَالَ: "‌أَصْبَحَ ‌مِنْ ‌عِبَادِي ‌مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِي. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ".

 

وهو مِنَّةٌ جُلَّى تستنطق لسانَ الحمد والثناء، للخالقِ المنعمِ القادرِ، مِنَ المخلوقِ العاجزِ القاصرِ، فهو وحدَه المستحقُّ لكمال الحمد والشكر والثناء، وهو الحقيق بقول القائل:

إذا نحنُ أَثْنَيْنَا عليكَ بصالحٍ *** فأنتَ كما نُثني وفوقَ الذي نُثني

وإِنْ جَرَتِ الألفاظُ منا بمدحةٍ *** لغيركَ ممدوحًا فأنتَ الذي نَعنِي

 

فالعبدُ مُطوَّقٌ بقيودِ نعمه، غارق في بحارها، متجلل بأثوابها، ولكن حسبه إذا تحركت بالحمد شفتاه أو جرى به قلمه، أو تردد في القلب ذكره، أن يُقِرَّ بالعجز عن حق شكر الله وحمده.

إذا كان شُكري نعمةَ اللهِ نعمةً *** عليَّ له مِنْ أجَلِّها يجبُ الشكرُ

فكيفَ يتمُّ الشكرُ إلا بفضلِه *** وإِنْ مُدَّتِ الأيامُ واتصلَ العمرُ

 

فاللَّهُمَّ لكَ الحمدُ عددَ ما سحَّ الغيثُ وهمَع، وعددَ ما تلألأ البرقُ ولَمَعَ، حمدًا به نبلغ به رضوانك ونشكر به إحسانك.

 

أيها المؤمنون والمؤمنات: إن نزول الغيث من أعظم الدلائل على ربوبية الله ووحدانيته، وانفراده بالخلق والتدبير، دلالة تستلزم توحيده بالعبادة والألوهية، قال -جل شأنه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 21-22]؛ فالمنفرد بالربوبية هو المستحِقّ وحدَه للعبادة، فسبحان مَنْ هدَى خلقَه عمَّا يصفون، وتعالى مَنْ هذا تدبيره عمَّا يشركون.

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، وعصمنا من كل بدعة ووقانا شكر كل فتنة، وجعل تقواه لنا عدة وذخيرة وجُنَّة، أقول ما سمعتم، وأستغفِر اللهَ لي ولكم، إنَّه كان غفورًا رحيمًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمد لله أهل الحمد ومستحقه، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحده، لا شريك له في إبداع خلقه، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والشاهدين بصدقه، ما سح سحاب بوابله وودقه.

 

أمَّا بعدُ، أيها المؤمنون والمؤمنات: فإنَّ نزولَ الغيثِ بعد قحوطِ السماءِ وقنوطِ العبادِ وبعدَ اقشعرارِ البلادِ واغبرارِها، وتبدُّلِ الحالِ من سَنَةٍ إلى رخاءٍ، ومِنْ جَدْبٍ إلى خصبٍ، لَعِبرَةٌ ظاهرةٌ، وعظةٌ باهرةٌ، لمن ساوَر اليأسُ نفسَه، أو خالَج الحزنُ قلبَه، أو غامَر الغمُّ فؤادَه، من ضيق نزل أو شدة ألمت؛ بأن يرفع شكايته لربه، وينزل به حاجته، موقنا أنَّه -جل شأنه- قدير على أن يبدل حاله من شدة إلى فرج، ومن عسر إلى يسر، ومن ضيق إلى سعة، في ساعة من نهار، (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشُّورَى: 28]، (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الْحَجِّ: 5-6].

 

ألَا وإنَّ المؤمن يتذكَّر بنزول الغيث وتبدُّل الأحوال مِنَ الخِصب إلى الجدب أنَّ هذه الدنيا لا تدوم شدائدُها ولا تمتدّ مسراتُها، فتعظُم رغبتُه في دار النعيم المقيم، الذي لا يَحُول ولا يَزُول، ولا يَبتَئِس بما قد يَعرِض له، ولا يعظم في صدره ما قد ينزل به، وقد ذكَّرَنا ربُّنا في محكم تنزيله بذلك، فقال جلَّ وتقدَّس: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يُونُسَ: 24].

 

أيها المؤمنون والمؤمنات: إن هذا اليوم من الأيام تُندَب فيه كثرةُ الصلاة والسلام، على سيد الخلق وخير الأنام، يقول صلوت الله وسلامه عليه: "إنَّ مِنْ أفضلِ أيامِكم يومَ الجمعةِ، فأكثرِوا عليَّ من الصلاة فيه فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ".

 

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين وخاتم النبيين، ورحمتك للعالمين، صلاة دائمة تترى إلى يوم الدين، عدد ما خطه قلمك أو أحصاه كتابك، أو وسعه علمك، اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين السادة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعنا معهم بفضلك ورضوانك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

 

اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودَمِّر أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا محفوظًا مصونا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم كما أنعمت علينا بإنبات الزرع وإدرار الضرع فزدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأغث قلوبنا بفيض الإيمان وبركة القرآن.

 

اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى يا سميع الدعاء، اللهم وفقهما لما فيه عز الإسلام والمسلمين، ولما فيه خير البلاد والعباد، اللهم وفقهما لكل خير وأعنهما عليه يا ربَّ العالمينَ، اللهم واحفظ هذه البلاد محضن الحرمين، ومأوى أفئدة المسلمين، ومأرز الإيمان، اللهم احفظها من كيد الكائدين ومكر الماكرين، يا ربَّ العالمينَ.

 

عبادَ اللهِ: استنزلوا فضل ربكم بشكره، واحفظوا نعمته باتباع أمره، والهجوا بدعائه وشكره، سبحان ربنا رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life