عناصر الخطبة
1/فضائل بر الوالدين 2/بر الوالدين بعد وفاتهما 3/من صور بر الوالدين بعد موتهما 4/من أعظم أنواع البر الذي يُوصَل بها الوالدان بعد وفاتهما 5/حكم الاستغفار للوالدين.اقتباس
مَنْ فاته الإحسانُ إلى والديه في حياتهما؛ فقد جعل الله -تعالى- له ذلك بعد موتهما، سواء كان ذلك بالصدقة عليهما، أو بالاستغفار لهما، أو الدعاء، أو قضاء الديون، والنذور، والكفارات، أو إنفاذ عهدهما من بعدهما، أو صلة الرحم التي لا توصل إلاَّ بهما...
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: بر الوالدين من أهم المهمات وأعظم القربات، وأجلّ الطاعات، وأوجب الواجبات، وعقوقهما من أكبر الكبائر، وأقبح الجرائم، وأبشع المهلكات؛ ويكفي أن الله -تعالى- قرن حقَّ الوالدين، والإحسانَ إليها بعبادته -سبحانه- في قوله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[النساء: 36]، وقرن شُكرَهما بشكره في قوله -تعالى-: (أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان: 14].
وكثيراً ما يتحدث الناس عن بر الوالدين في حياتهما، لكنهم يغفلون عن أن هذا البر يمتد إلى بعد وفاة الوالدين، وهو موضوعنا اليوم، فمن أعظم أنواع البر الذي يُوصَل بها الوالدان بعد وفاتهما:
1- الاستغفار لهما: وممن ذُكِر بِرُّهم في القرآن الكريم، نوح -عليه السلام-؛ حيث قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)[نوح: 28]. وقال إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)[إبراهيم: 41].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ"(صحيح رواه أحمد في "المسند").
وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "تُرفع للميت بعد موته درجته. فيقول: أي ربِّ! أي شيء هذه؟ فيقال: ولدُك استغفرَ لك"(حسن: رواه البخاري في "الأدب المفرد").
2- الدعاء لهما: عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(رواه مسلم)؛ فبيَّن الحديث أنَّ عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع عنه تجدد الثواب إلاَّ في هذه الأشياء الثلاثة، ومنها: دعاء الولد الصالح؛ لأنه كان سبباً في وجوده وصلاحه، وإرشاده إلى الهدى.
3- قضاء الدَّيْن عنهما: فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ"(صحيح رواه الترمذي وابن ماجه).
ولحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ"(رواه مسلم).
4- قضاء النذور عنهما: كنذر الصيام، والحج أو العمرة، أو غير ذلك مما تدخله النيابة.
5- قضاء الكفارات عنهما: ككفارة اليمين، وكفارة قتل الخطأ، وغير ذلك؛ لدخول هذه الواجبات في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟". قَالَ نَعَمْ. قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى"(رواه مسلم)؛ فكل الديون الواجبة لله -تعالى-؛ من الكفارات، والنذور، وفرض الحج، والعمرة، والصوم، تدخل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
6- تنفيذ وصيتهما إنْ كان لهما وصية: وإنفاذ الوصية واجب، والإسراع بالتنفيذ؛ إما واجب أو مستحب؛ فإنْ كانت في واجبٍ فللإسراع في إبراء الذمة، وإنْ كانت في تطوع؛ فللإسراع في الأجر لهما، وينبغي أن تُنفذ الوصية قبل الدفن، بمقدار الثلث فأقل.
7- قضاء صيام رمضان عنهما؛ لحديث ابن عباس السابق: والشاهد: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى"(رواه مسلم). وفيه دليل على أنَّ الصوم يُقضى عن الميت، سواء كان الصوم عن فرض أو عن نذر.
ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ؛ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ"(متفق عليه). قال ابن حجر -رحمه الله- في قوله: "صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ": "هذا خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور"؛ لأن الولي محسن، وما على المحسنين من سبيل، وله أجر الدلالة على الخير.
8- الصدقة عنهما: عن سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ -رضي الله عنه-؛ أن أُمَّه تُوُفِّيَتْ وَهْوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِي الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا(رواه البخاري). -الحائط المِخراف: أي: البستان المُثمر، سمَّاها مِخرافاً؛ لما يُخترف منها-.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها الأحبة.. ومن أعظم أنواع البر الذي يُوصَل بها الوالدان بعد وفاتهما:
9- صلة الرحم التي لا تُوصَل إلاَّ بهما: لحديث أبي بُردة -رضي الله عنه- قال: قَدِمتُ المدينةَ فأتاني عبدُ الله بنُ عمر -رضي الله عنهما- فقال: أتدري لِمَ أتيتُكَ؟ قلت: لا، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ أحَبَّ أنْ يَصِلَ أباه في قبره؛ فَلْيَصِلْ إخوانَ أبيه بعدَه"-أي: أصدقاء أبيه من بعد موته-، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاءٌ وَوُدٌ، فأحببتُ أنْ أصِلَ ذاك.(حسن: رواه ابن حبان في "صحيحه"؛ وأبو يعلى في "مسنده").
10- إكرام صديقهما من بعدهما: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-؛ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ"(رواه مسلم).
وسبب هذا الحديث: ما جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-؛ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ"(رواه مسلم).
قال النووي -رحمه الله-: "وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم بإكرامهم، وهو متضمن لبر الأب وإكرامه؛ لكونه بسببه، وتلتحق به أصدقاء الأم، والأجداد، والمشايخ، والزوج والزوجة". وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذبح الشاةَ؛ يقول: "أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ"(رواه مسلم).
وإذا كان من الإحسان إلى الميت: الإحسانُ إلى أصدقائه؛ فالأب والأُم أَولى بذلك الإحسان في حياتهما، وبعد موتهما.
11- الاعتراف بفضلهما، والثناء عليهما: فعن أبي مُرَّة؛ مولى أمِّ هانئ بنت أبي طالبٍ: "أنه ركب مع أبي هريرة -رضي الله عنه- إلى أرضه بـ"العقيق" فإذا دخل أرضَه صاح بأعلى صوته: السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته يا أُمَّتاه! تقول: وعليكَ السلام ورحمة الله وبركاته. يقول: رحمكِ اللهُ؛ كما ربَّيتيني صغيراً. فتقول: يا بُنَيَّ! وأنت، فجزاك الله خيرًا، ورضي عنك؛ كما بَرَرْتَني كبيراً"(حسن: رواه البخاري في "الأدب المفرد"). فالاعتراف بفضل الوالدين -بعد وفاتهما- والثناء عليهما من أعظم البر.
وهنا مسألة مهمة تتعلق بالاستغفار للوالدين: إذا كان الوالدان كافرَين أو أحدُهما كافراً؛ فهل يجوز لولده أنْ يستغفر له؟
الجواب: لا خلاف بين العلماء في أنه لا يُدعى بالمغفرة والرحمة للكافر الذي مات على الكفر. قال النووي -رحمه الله-: "الصلاة على الكافر، والدعاء له بالمغفرة حرام؛ بنص القرآن والإجماع". وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنَّة والإجماع".
إذاً؛ لا بأس أن يدعوَ الرجل لأبويه الكافرين ويستغفر لهما ما داما حيَّيْن، فأمَّا مَن مات: فقد انقطع عنه الرجاءُ فلا يُدعى له. ومن الأدلة الصريحة في منع الاستغفار للوالد الذي مات كافراً: قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي"(رواه مسلم).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "استغفرَ إبراهيمُ -عليه السلام- لأبيه مدةً طويلة، وبَعد أنْ هاجَرَ إلى الشام، وبنى المسجدَ الحرام، وبَعد أنْ وُلِدَ له إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام-، في قوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)[إبراهيم: 41].
واستغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام؛ اقتداءً بإبراهيم الخليل في ذلك، حتى أنزل الله -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)[الممتحنة: 4]، يعني: إلاَّ في هذا القول، فلا تتأسوا به.
ثم بيَّن -تعالى- أنَّ إبراهيمَ أقلع عن ذلك، ورجع عنه، فقال -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)[التوبة: 113، 114]"(انتهى كلام ابن كثير).
أيها الإخوة الكرام: فَمَنْ فاته الإحسانُ إلى والديه في حياتهما؛ فقد جعل الله -تعالى- له ذلك بعد موتهما، سواء كان ذلك بالصدقة عليهما، أو بالاستغفار لهما، أو الدعاء، أو قضاء الديون، والنذور، والكفارات، أو إنفاذ عهدهما من بعدهما، أو صلة الرحم التي لا توصل إلاَّ بهما، أو صلة أهل وُدِّهما، أو بالاعتراف بفضلهما، والثناء عليهما، وغير ذلك من أنواع البر والإحسان إليهما.
التعليقات