عناصر الخطبة
1/مكانة بلاد التوحيد 2/فضل الله علينا بالنعم وسبب ذلك 3/وسائل التلاحم بين الحاكم والمحكوم 4/موقفنا ممن يهدم التلاحم بين الحاكم والمحكوماقتباس
حديثنا اليومَ لكم؛ لأنَّكُم كِبارٌ في قلوبنا، كِبَارٌ في عيوننا، كِبَارٌ بِعظيمِ حَسنَاتِكِم وَفَضلِكم بَعد اللهِ عَلينا، أنتم الذين عَلَّمتم ورَبَّيتُم وبَنَيتُم وَضَحَّيتُم، لَئِن نَسِيَ الكثيرُ فَضلَكُم فاللهُ لا ينْسَاكُمْ، ولئن جَحَدَ...
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وكونوا عباد الله إخوانا.
نحن بلاد الحرمين.. وقبلة الملايين.. ومهوى أفئدة المسلمين.
نحن بلاد التوحيد.. من أرضها بزغت خيوط فجر الإسلام، وانطلق الفاتحون في كل بقاع الأرض يخرجون العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
نحن بلاد الحرمين حيث نزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.. وحيث بعث النبي الخاتم ليكون للعالمين نذيرا.
نحن بلاد الحرمين حيث أوى إلى أرضها المباركة ملايين المسلمين؛ فكم اغتنى فيها من فقير، وشبع من جائع، وتعلم من جاهل، وأمن من خائف! (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ)[القصص:57].
نحن بلاد الحرمين حيث الأمن والرخاء ورغد العيش والنماء.. وحيث يسير الراكب من أقصى البلاد إلى أقصاها ينام حيث يشاء ويبيت في أي مكان شاء لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.
نحن بلاد الحرمين حيث الشريعة المحكمة، والعقيدة الصحيحة والمنهج الوسط والمجتمع المتدين المحافظ وحيث سبل البر والخير والإحسان ينهل من مواردها مسلمون في كل مكان.
نحن بلاد الحرمين حيث لوحة التلاحم الجميلة يرسمها الوطن ورعاته بألوان الحب والرحمة والعدل والعطاء وتسطرها الرعية بمداد الولاء والوفاء والتضحية والفداء.
نحن بلاد الحرمين نعيش في أمن في الأوطان ورغد في العيش في أجواء من التلاحم والتراحم والتفاهم، فما سر هذا التميز وما سبب هذه المنة في زمن يعج بالاضطرابات، وتنقم فيه الشعوب على الزعامات؟
إن السر في كلمتين (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً)[الحجرات:8].
إنه فضل من الله الكريم علينا، حينما أنعم علينا بنعمة التوحيد وصفاء العقيدة.
إنه الدين وحده وليس غير، هو الذي يوحد بين القلوب المتنافرة ويجمع الشعوب المتخالفة.
إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية، فإذا أنبتت وشيجة العقيدة أنبتت الأواصر الأخرى من جذورها؛ فلا لقاء بعد ذلك في نسب، ولا لقاء بعد ذلك في صهر ولا قوم ولا وطن ولا تراب.. إما إيمان بالله فالوشيجة الكبرى موصولة، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها، أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان.
إن الذي يبني جدار تلاحمنا وتراحمنا وتآلفنا هو الدين الذي تربينا على مبادئه وأحكامه.
إنه الدين الذي يأمر بطاعة ولاة الأمر في غير معصية الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[النساء:59].
إنه الدين الذي يشدد في الخروج على الولاة ويرتب العقوبات على فاعليه ما أقاموا فينا الصلاة وحكموا فينا شرع الله "من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية".
إنه الدين الذي يرفع شعار "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
إنه الدين الذي ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم وفق مبادئ وأسس تحددها نصوص الشريعة وقواعدها وتوجيهاتها.
حينما ترى المحكوم في أرضنا متلاحما مع قيادته، رافضا كل صور التغيير التي تقوم على العبث والفوضوية فإنما يفعل ذلك بوازع ديني يحركه الشعور بالخوف من الله؛ فدينه يحكم عواطفه، وإيمانه يضبط انفعالاته، وعقيدته تحدد ولاءه لولاته وبلده وإخوانه.. فإذا مازال هذا الشعور فلن تغني كل الوسائل المادية والمظهرية في تحقيق التآلف والتلاحم..
إن جدار تلاحمنا نصنعه ونبنيه ونقوي جذوره ونغذيه بالمحافظة على أسباب الأمن والرخاء وأولها: الإيمان وزرع بذور التدين في نفوس الناس والحرص على ربطهم بالعقيدة الصحيحة ومحاربة كل ما يناقضها (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ..)[النور:55].
الإيمان وحده هو الذي يحمل المؤمن أن يكظم غيظه، ويعفو عمن ظلمه، ويحلم على من جهل عليه، ويحسن إلى من أساء إليه، ويجعله يحس في مرارة جرعة الغيظ حلاوة يجدها في صدره.
إنه الإيمان بما فيه من خوف ورجاء، خوف من الله يكف الأيدي أن تمتد لأذى وإن التهبت الغريزة ودفعت إلى العدوان.. إنه الإيمان الذي جعل ابن آدم يكف عن قتل أخيه (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)[المائدة:28].
إن تآلفنا وترابطنا توفيق من الله للأمة إذا حفظت عهد الله وأقامت شريعته لا نصنعه بالأموال مهما كثرت (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)[الأنفال:63].
تلاحمنا نصنعه بإجلال الدين وأهله واحترام العلماء والصدور عن رأيهم؛ فالعلماء الربانيون والدعاة الصادقون والمحتسبون الغيورون ليسوا كأرباب الشهوات ودعاة الباطل وعباد الدينار والدرهم الذين إذا أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون..
تلاحمنا وترابطنا سيظل راسخا قويا متينا حينما نوسع دوائر التواصل وتفتح البواب لكل شاكٍ وسائل، ونزيل أسباب التضايق والاحتقان ويشعر الجميع بالأمن النفسي والاطمئنان القلبي.
إن قدرنا أن ننعم في هذه الحياة بنعمة التلاحم والتآلف والتفاهم بين الراعي والرعية متى استقمنا على شريعة الله، وأن نحرمه متى انحرف بنا المسار عن الله ومنهجه؛ فإن حدنا عن منهجه حصل خلل واضطراب يؤدي إلى فساد وإفساد؛ كما حصل للأمم من قبلنا ومن حولنا عندما تركت شرع الله ودينه، وحل فيها الخصام محل الوئام، وزرعت في نفوس أهلها البغضاء بعد أن كانت تظللها المحبة والألفة والإخاء (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)[المائدة:14].
وصدق الله (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:50].
أقول هذا القول...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإننا إذ نحمد الله ونشكره على ما ننعم به من أمن في الوطن وتلاحم بين الرعاة والرعية وتآلف في القلوب، وما ننعم به من إقامة شريعة الله والقيام بأداء الشعائر وعبادة الله دون تضييق أو حجر.. ومع التأكيد على أن الدين هو الدافع لكل خير والرادع عن كل شر، وأن به وحده تتآلف القلوب وتصفو النفوس.
مع هذه كله فلا ننسى أن هناك من يسعى لهدم جدار تلاحمنا وتصديعه بالإشاعات المغرضة والحملات الجائرة والتشويهات المتعمدة واستغلال الأحداث للنيل من هذه البلاد وتآلفها ووحدتها.
هناك أعين حاقدة ترمق أرضنا الطاهرة بنظرات الحقد والكراهية والكيد والمكر الكبار..
هناك أقلام مأجورة تخوض بالسب والشتم والصيد في الماء العكر وتتبع الزلات وتهميش الفضائل والمكرمات..
يستغلون حادثة قتل كلنا ينكرها، والشريعة تغلظ فيها، والإنسانية ترفضها تخطيطا وتنفيذا وطريقة لكن أن تجعل شماعة للنيل من بلاد الحرمين والتحريض عليها واستهدافها في عقيدتها ووحدتها وتلاحمها؛ فذلك الذي يجب أن نقف في وجهه جميعا حفاظا على ما حبانا الله من نعم من قبل أن نعض أصابع الندم..
إن العجب لا ينقضي من أمم مغرضة تريد النيل من بلادنا مستغلة حادثة قتل وهي التي تلطخت أيديها بدماء الآلاف من المسلمين، وهي التي يقتل على أرضها طلابنا، ويؤسر آخرون دون أن تكشف عن قاتل أو تحقق في جريمة أو تنصف مظلوما..
إن حادثة القتل قد آلمتنا جميعا ولكننا واثقون من السنة الربانية "بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين" وواثقون بأن يد العدل والحزم ستنال القاتلين كبروا أم صغروا، اختفوا أم ظهروا، قربوا أم بعدوا، وواثقون من صدق البيانات الصادرة والإجراءات المتبعة.
ومن هنا نؤكد بأن الظروف الحالية والحملات المتتابعة تتطلب من الجميع وقفة صادقة واعية تدرك الأبعاد والمآلات، وتصد تلك الحملات بوأد الشائعات وتوثيق الصلة بالبلاد وولاتها وأهلها؛ تلاحما ونصرة ودعوة ونصحا ودعاء، وعدم الاستجابة والتفاعل مع كيد الكائدين ومكر الماكرين.
وأخيراً: ولكي يصبح المغرضون على ما أسروا في أنفسهم نادمين لا بد أن يدرك شبابنا الغيور أن العبد لا يعلم أين يكون الخير والشر فيما يقتضيه الله -سبحانه- إلا في ضوء ما علمه الله لعباده من السنن والثواب، ومن هنا فلا ينبغي للعبد أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في جوانبها؛ متجرداً في ذلك لله -عز وجل-، مهتدياً بالسنن والموازين والسنن الثابتة التي ذكرها الله في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشراً عليهم وعلى أمتهم! وكم من أناس استعجلوا البلاء قبل أوانه فلما أصبحوا تحت وطأته ضعفوا وانتكسوا -والعياذ بالله-!.
فما أحرانا أن نتحلى بالصبر، وأن نشتغل بالبناء للنفس والنا؛س دعوة ودعاء وصلاة وعبادة وأمراً بمعروف ونهياً عن المنكر وتربيةً للنفس وتزكية لها؛ لكي تكون قادرة على مواجهة الشدائد والفتن والمحن.
لوحة التآلف الجميلة نرسمها نحن بأيدينا ونصنعها بقلوبنا حينما نتخلق بالوعي ونستشعر عظم هذه النعمة وخطورة فقدها.. نصنعها حينما نتعامل مع الواقع بميزان الشرع والعقل بعيداً عن الأهواء والعواطف والرغبات الشخصية.
إنه مع إقرارنا بوجود أخطاء وزلات إلا أنه ومن منطلق إيماننا بعقيدتنا فإن الإصلاح والتغيير لا يكون إلا بما شرع الله من الوسائل المباحة التي تبني ولا تهدم، وتجمع ولا تفرق، وتصلح ولا تفسد، وما كانت المظاهرات والمهاترات يوما لتحقق أملا أو تصلح خللا، وإن لباسا يلبسه غيرنا ليس بالضرورة أنه يناسبنا.
إن شبابنا أذكى وأعقل وأكبر من أن يصبحوا أداة يسيرها أهل العمائم ودعاة الفتن؛ ليلقوا بأبنائنا في أتون الفتن ونار الابتلاء وينعموا هم في الأجواء الباردة والقصور الفارهة..
إن المستفيد الأول من هذه الحركات الخائبة والحملات الهزيلة هم دعاة الضلال من الرافضة وأهل البدع ودعاة الشقاق، وإن السبيل الأمثل لحل قضايانا ومشاكلنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب بالوسائل المشروعة المباحة؛ من زيارات وبرقيات وحوارات فإن تحقق ما يراد وإلا فإنما عليك البلاغ، وإذا فاتك شيء من حطام الدنيا فلا تبحث عنه بالابتلاء وتذكر الأثر "لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه، قيل وكيف يذل نفسه، قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق" وإذا فاتك شيء من الدنيا وحطامها فتذكر وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لصحابه "إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".
نسأل الله أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح أحوالنا ويجمع على الحق شملنا ويكفينا شر أعدائنا..
اللهم صل وسلم..
التعليقات