عناصر الخطبة
1/ العبودية مركب دائم وآمن 2/ خطورة التفلت من الدين 3/ التحذير من الانفلات الأمني 4/ أهمية الانضباط الأخلاقي في المجتمع 5/ فضائل التمسك بمكارم الأخلاق 6/ تحريم الخوض في أعراض المسلمين والمسلمات 7/ خُلق الإسلام الحياء 8/ وسائل اكتساب أفضل الأخلاق 9/ أهمية الترابط بين المسلمين وتحقيق الأخوة الإيمانية 10/ ضرورة الاعتصام بالكتاب والسنة والتحذير من الفُرقة والاختلاف 11/ كن مباركًااهداف الخطبة
اقتباس
من عبوديتك لله أن تراقب الله في سمعك، فلا تستمع إلا إلى ما يرضيه، أن تراقب الله في بصرك فلا تنظر إلا إلى ما يرضاه، أن تراقب الله في قلبك فلا تشرد في التفكير في شيء يسخطه عليك، بل تفكر في الذي يرضيه عنك، تفكر في الذي يقربك منه سبحانه وتعالى.. فتدرب على مكارم الأخلاق من صدق حديث، وصبر على القضاء، وحياء وعفة نفس، وطيب طعمة وشراب، تدرب على ..
الحمد لله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق أطوار وقسم بينهم الأخلاق كما قسم بينهم الأرزاق، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله نبي كريم ذو خلق عظيم عليه صلوات الله وسلامه، وعلى آل بيته وعلى صحبه الكرام ومن اتبع سنته.
أما بعد: أيها الإخوة بارك الله فيكم في هذه الأجواء التي تمر على أمة محمد علينا أن نوقن جميعًا أننا عبيد لله سبحانه، لسنا بأحرار نفعل ما شئنا ونترك ما شئنا، بل نحن عبيد لله سبحانه وتعالى، كل جوارحنا معبدة لله سبحانه وتعالى، ألسنتنا معبدة لله، أسماعنا معبدة لله، أبصارنا معبدة لله، بل وفؤادنا كذلك ما استطعنا إلى ذلك منه سبيلا..
فنحن عبيد لله، لسنا بأحرار نفعل كل ما نريد، بل لنا ضوابط تُضبط بها أخلاقنا وتُضبط بها أقوالنا، وتُضبط بها أعمالنا، ففي ظل هذه الثورات التي تمر بأمة محمد صلى الله عليه وسلم علينا أن نحافظ على عبوديتنا لله ولنحذر من الانفلات في أي باب كان، فلنحذر من الانفلات في الدين، ذلكم الانفلات الذي يدمر ويردي ويهلك ويعمي، والعياذ بالله تعالى..
فالانفلات في الدين الذي يؤول بأهله إلى أن يكونوا ليبراليين لا دين لهم، أو علمانيين يفرقون بين الدين والدولة، أو مدنيين يتحللون من الدين كذلك، أو ديمقراطيون يقولون حكم الشعب للشعب!!
هذا الانفلات لا شك يردي ويدمر ويؤول بأهله إلى أن يكونوا كلابًا، قال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175- 176].
لقد قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: "ليكونن في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه" والكَلَبُ هو المرض الذي يُصاب به من عضَّه الكلب المسعور..
"ليكونن في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه فلا يدع منه مفصلاً إلا دخله".
فالحذر من الانفلات في ديننا، والحذر الحذر من الانفكاك عن عبودية سبحانه الله تعالى، وكذا فلنحذر من الانفلات الأمني الذي بسببه تُسفك الدماء، وبسببه تُنهب الأموال، وبسببه تُنتهك الأعراض.
فعلينا أيضًا بالانضباط الأمني، فهذا الأمن نعمة ينعم الله بها على العباد، كما قال ممتنًا على قريش (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 3- 4].
وقال ممتنًا سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67] فالحذر الحذر من الانفلات الأمني، وجدير بالجميع أن يتعاونوا بإحلاله وعلى نصرة المظلوم والأخذ على يدي الظالم.
وثَم انضباط لزام أن يكون، وهو الانضباط الأخلاقي وعدم الانفلات في الأخلاق، وهذا قد تفشى في زماننا، أعني أن الانفلات الأخلاقي تفشى في هذا الزمان، ولا يخفى عليكم قول نبيكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما من شيء أثقل في الميزان يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر".
فعلينا أن نتحلى بمكارم الأخلاق فقد بُعث النبي عليه الصلاة والسلام متممًا لها، قال: "إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق"، هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يأمر بها في بدايات بعثته وفي أوساط البعث وفي نهايات البعثة، كل ذلك يأمر بجميل الخلاق ومكارم الأخلاق عليه الصلاة والسلام.. يأمر بالصدقة والصلة والعفاف والصلة عليه صلوات الله وسلامه.
فجدير بنا أن نضبط أخلاقنا ولا نتركها تنفلت فليس لنا أن نتكلم بما نريد إنما نتكلم بما يرضي الله ويقرب منه سبحانه وتعالى، ليس لنا أبدًا أن نطعن في أعراض المسلمين والمسلمات إلا إذا دعت ضرورة لذلك من مصلحة شرعية، فكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذه، ألا هل بلغت! اللهم فاشهد".
فليس لك أبدًا أن تستطيل في عِرْض إخوانك المؤمنين، ولا أن تنال منهم بسوء أو مكروه، فإن فعلت فقد ظلمت نفسك فضلاً عن ظلمك للعباد، إن فعلت لوثت صحيفتك يوم تلقى الله سبحانه وتعالى، إن فعلت وطعنت في الأعراض واغتبت جلبت لنفسك العذاب في قبرك..
إذا سعيت بالنميمة بين الناس وقد قال صلوات ربي وسلامه: ومر بقبرين وقال:" إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير"، ثم قال: "بلى إنه كبير" أي أنه إن لم يكن كبيرًا في أنظاركم فهو كبير عند الله" أما أحدهما فهو يمشي بين الناس بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله".
فإياك والخوض في أعراض المسلمين والمسلمات، وإياك والخوض في أعراض العلماء وأهل الفضل، احذر الخوض في الأعراض، لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أقوامًا لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فسأل جبريل من هؤلاء؟ قال: "هؤلاء الذين يقعون في أعراض الناس"، هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم.
فإياك إياك أن يجني عليك لسانك، "هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم"، فالحذر الحذر من الانفلات، الحذر من انفلات اللسان والحذر من انفلات الجوارح والأركان..
علينا جميعًا أن نتحلى بمكارم الأخلاق من حياء ووقار وصدق وعفاف، وبر وصلة، فهذا سمت ديننا، وهذه صبغتنا التي صبغنا الله عليها وأرادنا أن نكون عليها، أن نكون على خُلق عظيم خلق الأنبياء والمرسلين..
ومن الأخلاق الكريمة التي ينبغي أن نتحلى بها، وقد قصر مفهومها لدى بعض الناس، وقد نُزعت من عند الكثيرين ألا وهو خُلق الحياء، حياء من الله وحياء من خلق الله، وحياء من النفس، وحياء من الملائكة المقربين..
واعلموا أولاً أن ربكم عز وجل حيي كريم كما في الأثر "إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفر خائبتين".
ومن توابع ذلك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام وسأله معاوية بن قرة يا رسول الله "عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟" قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو مما ملكت يمينك"، قال يا رسول الله: أحدنا يغتسل عريانًا، قال "الله أحق أن يُستحى منه من الناس".
هكذا قال عليه الصلاة والسلام: "الله أحق أن يستحى منه من الناس"، فعليك بالحياء من الله الذي يغدوك بنعمه ويغزوك بها صباحًا ومساء، فتتقلب في نعمه، وتتقلب في مننه، وتتقلب في ستره، وهو يسترك ويرزقك، وتبادره أنت بالعصيان!! وتبادره أنت بالطغيان!! وتبادره أنت بظلم العباد!! فكن على حياء من خالقك، كن على حياء من رازقك.
إن صحابة النبي الكريم رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يبالغون في هذا حتى آل الأمر ببعضهم إلى أنهم كان إذا أتى أهله بالغ في التستر وإذا ذهب لقضاء حاجاته بالغ في التستر، أنزل الله تعالى (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [هود: 5].
فحياؤك من الله يمنعك من العصيان ومن التمرد عليه، ولقد قال عليه صلوات الله وسلامه مبينًا فضل هذا الخُلق الكريم الذي ينبغي أن نتدرب عليه، وأن نتحلى به وأن نكتسي به، فضلاً عن سؤالنا الله إياه، فنسأله أن يرزقنا الحياء.
قال عليه الصلاة والسلام "الحياء شعبة من الإيمان"، وقال "الحياء لا يأتي إلا بخير"، وكذا تتوالى النصوص لإثبات فضيلة هذا الخلق الكريم الذي يحملنا على الأعمال الصحيحة وعلى الأخلاق الصريحة "إن ملائكة الله تستحي، ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة "، وإذا كانت تستحي فجدير بنا أن نستحي منها فإنها لا تفارقنا (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار: 10- 12].
فإذا هممت بمعصية وأنت في خلوة من الخلوات فاستحِ من الله واستحِ من ملائكة الله (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ) [الانفطار: 10- 11]، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]، (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف: 80].
لقد كان أنبياء الله عليهم السلام من ذوي الحياء، كانوا على حياء عظيم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن موسى: "إن موسى كان حييًّا وكان لا يغتسل عريانًا".
وأيضًا قال عن نبي الله أيوب نفس المقولة أو قريبًا منها، وهو عليه الصلاة والسلام كان أشد حياء من العذراء في خدرها، فعلينا أن نكتسي بهذا الخلق الكريم المؤدي لكل خير، وكذا فلنكتسِ بسائر الأخلاق الكريمة من صدق الحديث، وعفة النفس، وعفة الفرج، وغض البصر، فجدير بنا أن نكتسي بكل ذلك، فنحن عبيد لله ولقد قال ربكم: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء: 36].
فمن عبوديتك لله أن تراقب الله في سمعك، فلا تستمع إلا إلى ما يرضيه، أن تراقب الله في بصرك فلا تنظر إلا إلى ما يرضاه، أن تراقب الله في قلبك فلا تشرد في التفكير في شيء يسخطه عليك، بل تفكر في الذي يرضيه عنك، تفكر في الذي يقربك منه سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة: نحن دومًا عبيد لله، لسنا بمنسلخين عن ديننا، ولسنا بمنسلخين عن أخلاقنا، ولسنا بمنسلخين عن تعاليم رسولنا عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة: إن الأخلاق الكريمة لزامًا أن تصاحبنا حتى نقترب بها من رسولنا الأمين محمد، فقد قال عليه الصلاة والسلام، "إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن من أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون".
الثرثار كثير الكلام، فأنت كمسلم عليك أن تدرك أنك عبد لله، أنك مستسلم لأوامر، أنك مطيع له وتتخلق بالأخلاق الجميلة التي أمرك الله بها وحثك عليها فالأخلاق تنال بأمرين:
الأمر الأول: أن تسأل الله إياها، فقد كان من دعاء نبيكم عليه الصلاة والسلام: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها؛ لا يصرف عني سيئها إلا أنت".
وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ قائلاً: "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء" فاسأل الله حسن الخلق، اسأله سبحانه أن يرزقك ذلك.
ثم تتأتى الأخلاق أيضًا بالتدرب عليها كما قال عليه الصلاة والسلام: "ومن يتصبر يصبره الله "، فتدرب على الصبر وعدم الشكاية للناس، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه مرض، وأنَّ أنينًا فقال له قائل: "يا إمام إن طاوسًا يقول: إن الأنين يُكتب؛ لأن الله قال: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 6]، فما أنَّ الإمام أحمد حتى مات.
فتدرب على الصبر يصبرك الله، تدرب على صدق الحديث تُكتب عن الله صديقًا، وإن كلفك الصدق شيئًا من المشقة في دنياك فالزمه وتدرب عليه، فمآلك إلى خير، قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عن الله صديقًا"، فتدرب على الصدق واسأل الله إياه.
تدرب على العفاف وعدم السؤال؛ فإن النبي قال: "ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله".
فتدرب على مكارم الأخلاق، فإنما الحلم بالتحلم، والعلم بالتعلم، ومن يتحرى الخير يؤته، ومن يتوق الشر يوقه.
فتدرب على مكارم الأخلاق من صدق حديث، وصبر على القضاء، وحياء وعفة نفس، وطيب طعمة وشراب، تدرب على كل جميل فأنت مسلم عبد لله لا تترك للسانك العنان يخوض في عرض من شاء، ولا تترك ليدك العنان تبطش كيف شاءت، ولا تترك لرجلك العنان تمشي إلى حيث شاءت، بل ولا تترك لأذنك الاستماع تستمع حيث شاءت، ولا تترك لعينيك العنان تنظر كيف شاءت، بل ولا تترك للقلب العنان يفكر كيفما أراد، بل اضبطه لا تجعله يسترسل في التفكير في المحرمات، بل اجعله يسترسل في التدبر في آلاء الله وفي مرضات الله.
أيها الإخوة: استقيموا ولن تحصوا، وطهروا أنفسكم ظاهرَا وباطنًا، طهروا أنفسكم طاهرة الظاهر، فحافظوا على الوضوء فلا يحافظ عليه إلا مؤمن، والطهور شطر الإيمان، وطهروا قلوبكم بالاستغفار والتوبة والإنابة دومًا، وكذا ردوا المظالم إلى أهلها..
ألا فاستغفروا ربكم إنه كان غفارًا..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فمن عبوديتنا لله سبحانه ومن لوازم إسلامنا أن نعتقد تمام الاعتقاد ونوقن تمام اليقين بقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10] وبقول النبي عليه الصلاة والسلام: "المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ منكم من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه".
علينا أن نوقن بقوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه"، فعليك أن تلزم نفسك بهذه النصوص ولا تغرنك الأماني ولا يغرنك بالله الغرور، عليك أن تنزل نصوص الكتاب العزيز ونصوص السنة المباركة على نفسك، وتنظر هل أنت لها ممتثل؟ هل أنت منها قريب؟ أم أنك في وادٍ ونصوص الكتاب العزيز في وادٍ.
أنزل على نفسك قول النبي عليه الصلاة والسلام "من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة"، فهل أنت تسعى في الستر على المسلمين وفي المحافظة على أعراضهم؟ أم أنك تترقب الأخبار التي تسيئهم وتفضحهم وتنشرها بين الناس، إن كنت كالأخير فتعوذ بالله فأنت على خطر عظيم، وإن كنت من الذين يسترون على المسلمين ويتألمون ويتوجعون لمصابهم فاعلم أنك على خير، فرسولك الكريم قال: "أهل الجنة ثلاثة: رجل رحيم رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ".
أما إذا كنت تحب شيوع الفاحشة في الذين آمنوا، وتحب أن يفتضح أمر المؤمنين، فانظر قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19]، إن كنت تذكر ما يُصاب به إخوانك في بلاد المسلمين كسوريا التي ابتُليت وابتُلي أهلها بحاكم جائر ظالم، فإذا كنت تشعر بالرقة لما يُصاب به أهل الإسلام، وتشعر بالحزن وتبذل من الوقت والجهد والقنوت والدعاء، وقتًا وجهدًا ومالاً فأنت على خير..
أما إذا كنت لا تبالي ولا تلوي على ذلك، فراجع نفسك، فالمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، هكذا ورد بالحديث "المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله"، "ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
فادعوا الله لإخوانكم المنكوبين والمبتلين في سوريا وفي سائر بلاد المسلمين، ادعوا الله أن يخفف عنهم، وأن يكشف عنهم الكرب، وأن يزيل عنهم كل مكروه، وأن يزيل عنهم كل بلاء وكل سوء. وكذلك ادعوا ربكم لبلادكم أن يسلمها الله من كيد الكائدين ومكر الماكرين..
عباد الله: الحذر الحذر من الفُرقة والاختلاف الذي يؤول بنا إلى الفشل، ويؤول بنا إلى الدمار، قال تعالى أمرا (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، وقال تعالى محذرًا: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105] وقال تعالى ذكره: (لَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
إن أمة محمد المرحومة أمة تجتمع ولا تكاد تفترق، قال تعالى ذكر (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود: 118] إلا من رحم ربك، فمن رحمهم ربي يحرصون على الاجتماع على كتابه، يحرصون على الاجتماع على سنة رسوله.
أيها الإخوة الكرام: كونوا مباركين على أهليكم وعلى بلادكم وعلى إخوانكم في أي مكان حللتم به، في أي مكان نزلتم فيه، كونوا مباركين، معكم الخير، ويصحبكم الخير، إن عيسى عليه السلام نطق في المهد قائلاً: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم: 31].
ومن بركات عيسى عليه السلام أنه كلما نزل مكانًا بُورك في هذا المكان، وصحبه الخير فيمسح على الأعمى فيبرأ بإذن الله، ويمسح على الأبرص فيبرأ بإذن الله، ويسأل ربه فيُعطَى بإذن الله؛ فكونوا مباركين، إذا نزل أحدكم مكانًا فليكن مباركًا على أهل هذا المكان، يعلّم الجاهل ويطعم الجائع، ويرشد الضال، ويصلح بين المتخاصمين، ويؤلف بين المتباعدين.
كن مباركًا تشهد جنازة، تعود مريضًا، ترشد ضالاً، تصلح بين متخاصمين، تحث على وصل رحمك، تحض على إطعام مسكين.
كن مباركًا تصلح بين زوجين، تصلح بين والد وولده، كن مباركًا في أي مكان تنزل فيه لا تكن شؤمًا على الأماكن التي تنزل فيها، لا يجد بك القوم ثمرات الشقاق وثمرات الخلاف إذا نزلت منزلا، ووشاية وفتنة إذا نزلت منازلهم.
بل يجدوا منك كل خير وكل بركة، فمن بركاتك أنك إذا حللت مكانًا تحرص على أن يستفيد منك أهل المكان إن كنت ثريًّا موسعًا عليه أكرمْ أهل المكان، إن صحبك القوم في السفر وأنت ثري أكرمهم، فقد أوصى الله بالصاحب بالجنب وهو المسافر معك، على قول..
إن كنت عالما وحللت مكانًا فعلّم الناس ما ينفعهم ويقربهم من الله، إن كنت من ذوي الوجهات فأصلح بين الناس واستعمل وجاهتك في مرضاة الله، إن كنت فقيرًا، فتبسمك في وجه أخيك صدقة، وكلمتك الطيبة صدقة، فكونوا مباركين أينما كنتم.
في جزيرة من جزر البحر الأحمر قالوا: غفر الله لعمر بن عبدالعزيز وهو الخليفة الراشد، وقالوا: ورحم الله الحجاج الثقفي لماذا، والحجاج كان سفاكًا للدماء وعمر بن عبدالعزيز كان خليفة راشدًا..
انظروا إلى إجابتهم: قالوا: إن عمر بن عبدالعزيز كان فاضلاً وكان عالمًا، وكان حاكمًا قويًّا ينفي البغاة، وينفي أهل الظلم فنفى رجلاً باغيًا إلى جزيرتنا فتضررنا به، فكان رجل شقيًّا أينما كان فتضررنا به، أما الحجاج فكان شقيًّا وكان ينفي الفضلاء، فنفى إلينا رجلاً فاضلاً فعلّمنا ديننا وأصلح بيننا وبين المتخاصمين وقرب بين المتباعدين وأصلح..
فاحرص على أن تكون مباركًا أينما كنت، أينما حللت، احرص على ذلك تمام الحرص.
أيها الإخوة ونحن عبيد لله لا ننفك أبدًا في كل حركاتنا وفي كل سكناتنا عن النظر في كتاب الله وسنة رسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
التعليقات