عناصر الخطبة
1/تساؤلات مهمة مع انتصاف شهر رمضان 2/المداومة على الطاعات وبعض قصص السلف في ذلك 3/ضرورة العمل للإسلام على كافة الأصعدة 4/بعض أضرار المعاصي 5/سلامة الصدر من الغل والحقد 6/رمضان شهر البر والإحساناهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: رحل النصف الأول من رمضان، ولئن كنا فرطنا فلا ينفع ذواتنا بكاء ولا عويل، وما بقي أكثر مما فات، فلنري الله من أنفسنا خيراً، فالله الله أن يتكرر شريط التهاون، وأن تستمر دواعي الكسل، فلقيا الشهر غير مؤكدة، ورحيل الإنسان مُنتظر، والخسارة مهما كانت بسيطة ضعيفة، فهي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد:
أيها المسلمون: هاهو النصف الأول من رمضان رحل أو أوشك على الرحيل، وثمة حديث يخالج النفس في ثنايا هذا الوداع، تُرى ماذا حُفظ لنا؟ وماذا حُفظ علينا؟
إن ثمة وقفات تبعثها النفس في غمار هذا الوداع.
كم تبلغ مساحة هذا الدين من اهتماماتنا؟ هل نعيش له؟ أم نعيش لأنفسنا وذواتنا؟ كم نَجهد من أجله؟ كم يبلغ من مساحة همومنا؟
إن العيش في حد ذاته يشترك فيه الإنسان مع غيره من المخلوقات، ولا ينشأ الفرق إلا عندما تسمو الهمم، وتكبر الأهداف.
وعلى أعتاب العشر الثانية آمل أن لا يكون نصيبي ونصيبك: قول الله -عز وجل-: (رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ) [التوبة: 87].
إن حرارة الفرحة التي عشناها في مقدم رمضان تُسائلنا: هل لا زالت قلوبنا تجل الشهر وتدرك ربيع أيامه؟ أم أن عواطفنا عادت كأول وهلة باردة في زمن الخيرات، ضعيفة في أوقات الطاعات؟
ورحم الله سلفنا الصالح، فلكأنما تُقص سيرهم علينا عالماً من الخيال، حينما تقول: قال الأوزاعي: "كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كانت لأحد من التابعين، لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة، عشرين منها لم ينظر إلى قفى إنسان -أي في الصف الأول-.
وكانت امرأة مسروق، تقول: "والله ما كان مسروق يصبح ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام، وكنت أجلس خلفه فأبكي رحمة له إذا طال عليه الليل، وتعب صلى جالساً، ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف كما يزحف البعير من الضعف".
وفي ظل هذه الأخبار تُرى كم من صلاة في الجماعة ضاعت وفي رمضان؟ وكم نافلة في صراع الأعمال تاهت وفي رمضان؟ تُرى كم من لحوم إخواننا هتكناها بأنيابنا وفي رمضان؟ تُرى كم هي الخيانة التي عاثتها أعيننا في رحاب المحرمات وفي رمضان؟ كم خطّت أقدامنا من خطو آثم وفي رمضان؟ كم وكم من عالم الحرمات هتّكت فيه الأسوار بيننا وبين الخالق وفي رمضان؟ وكلها في رمضان! فماذا سنفعل بعد رمضان؟
أيها المسلمون: هل مازلنا نمارس نوعاً من الجهالة في معاملة ربنا؟
إن خلوات الليل أياً كانت في نظرك، فهي في منظورها الصحيح هتك للستر الذي بينك وبين الله -تعالى-، ونسيان لمعاني الربوبية التي اتصف بها ربك، ومكابرة من مخلوق ضعيف لا يملك شيئاً أمام جبروت الرب، وسلطان الخالق، وقهر الواحد الأحد.
هذه هي النظرة الصحيحة لها، ومن يسلي نفسه بغير هذا، فليصحح النظرة، وليفكّر في عظمة من عصى.
اعلم -يا عبد الله- أن فرص التوبة لا تتكرر، وقد يحول الله -تعالى- بينك وبين التوبة جزاء التسويف والتأخير، وما يدريك فمن جعلته أصغر الناظرين إليك، قد يرصد لك في وقت غفلة، ويرديك في وقت جذوة، فالله الله في زمن المهلة، فلا شهر أعظم من هذا! ولا وقت أنفس من هذا الوقت! والهالك لن يهلك إلا عن بينة، وحينئذ لا تأسف عليه.
أيها المسلمون: القلوب المتنافرة أما آن لها أن تتصافح؟ هل لا زالت معاندة للفطرة السوية، هل لا زال الكبر يوقد ضِرامها ويشعل فتيلها؟ أما نجح رمضان في أن يعيد البسمة لشفاه طال انغلاقها؟
إن هذه القلوب يُخشى عليها إن لم تفلح المواعظ في ليها للحق، فإن لفح جهنم هو القادر على أن يكسر مكابرتها، ويلوي عناقها، ويرغم أنف باطلها.
لهؤلاء أن يسمعوا هذه النصوص، وأن يضعوا أنفسهم في الترتيب اللائق بها عند ذلك؛ فهذا رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- سئل من أفضل الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" [أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني].
لقد وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطيباً قبل موته، فقال: "ألا فمن كنت جلدت له ظهراً فليستقد، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد"[رواه الطبراني في الأوسط].
ورحم الله أبا دجانة، رئي وجهه يتهلل عند موته فسئل عن ذلك، فقال: "كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً".
ألا فما أحرى القلوب أن تنتفع بوعيد النبي المبلغ عن ربه خير واعظ حين قال: "هجر المسلم كسفك دمه".
وحين قال: "تُعرض الأعمال على الله كل اثنين وخميس، إلا المتخاصمين، فيقول الله: أنظروا هذين حتى يصطلحا"[رواه مسلم].
وإن لم يُفلح رمضان في إزالة صلابة هذه القلوب، فوعيد الله -تعالى- غير بعيد حين قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[محمد: 22 - 23].
أيها المسلمون: إن رمضان شهر البر والصلة والصدقة، والأنفس الأبية هي التي تعطف على الفقراء، وتبذل لهم شيئاً من المعروف، فإن من معاني الصيام تذكر حالة البائسين والمعوزين والعطف عليهم ومواساتهم بالمال والإحسان.
إن المحسن -أيها المسلمون- من يسعى في رمضان وغير رمضان لرحمة يتيم يترقرق الدمع في عينيه أن لا يجد من يواسيه فقد أبيه! أو لرحمة أسرة فقدت مُعيلها، وضاعت خيراتها، أو رحمة كسير ومريض أقعده المرض وأجبره على نزف دموع الفقر والحاجة، أو رحمة أخ غريب بينكم، نأت به الديار عن أهله وذويه، ولئن بت آمناً في بيتك، معافاً في بدنك، بين أهلك وأسرتك، فإنما يعيش هو وحيداً بلا أنيس، وفقيراً بلا معين، يتابع الإعلام فيرى صورة يهودي يهدّم بيته ومأوى أسرته في فلسطين، أو يسمع صوت قنبلة أطاحت ببعض أهله أشلاء مفرقة في بلاد الشام.
أيها المسلمون: رحل النصف الأول من رمضان، ولئن كنا فرطنا فلا ينفع ذواتنا بكاء ولا عويل، وما بقي أكثر مما فات، فلنري الله من أنفسنا خيراً، فالله الله أن يتكرر شريط التهاون، وأن تستمر دواعي الكسل، فلقيا الشهر غير مؤكدة، ورحيل الإنسان مُنتظر، والخسارة مهما كانت بسيطة ضعيفة فهي في ميزان الرجال قبيحة كبيرة.
رحل النصف الأول وبين صفوفنا الصائم العابد، الباذل، المنفق، الجواد، نقي السريرة، طيب المعشر، فهنيئاً له رحلة العشر بخيرات كهذه.
ورحل النصف الأول وبين صفوفنا صائم عن الطعام والشراب، يبيت ليله يتسلى على أعراض المسلمين، وتقامر عينه شهوة محرمة يرصدها في ليل رمضان، يده امتدت إلى عامل فأكلت ماله، أو حفنة ربا فاجتالتها دون نظر إلى عاقبة أو تأمل في آخرة.
رحل النصف الأول وبين صفوفنا من فاتته صلوات وجماعات، وقد آثر النوم والراحة على كسب الطاعة والعبادة، رحل النصف الأول وبين صفوفنا بخيل شحيح، أسود السريرة، سيء المعشر، دخيل النية، فأحسن الله عزاء هؤلاء جميعاً في عشرهم الأول، وجبرهم في مصيبتهم، وأحسن الله لهم استقبال البقية، وجعلهم في ما يستقبلون خيراً مما ودعوا، والله المسؤول أن يصلح نياتنا، وأن يغفر لنا.
بارك الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: في شهر الصيام وقعت الغزوة الكبرى التي انتصر فيها الإسلام، والتي سميت في القرآن بيوم الفرقان، والتي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن حضرها: "لعل الله أطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة"[رواه ابن حبان في صحيحه].
في السنة الثانية من الهجرة فرض صيام شهر رمضان، وفي أول رمضان يصام في الإسلام وقعت غزوة بدر الكبرى في يوم الجمعة السابع عشر منه، فقد شاء الله -تعالى- أن تقع هذه الغزوة في شهر الصبر الذي يطلب فيه من أهل الإيمان أن يغتنموه بالعبادة، وكثرة الصلاة، وقراءة القرآن، والذكر والصدقة والإحسان، وهكذا أضاف ذاك الجيل المبارك من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى كل ذلك، جهاداً بالنفس والمال لإعلاء كلمة الله وقمع عصابة الشرك والطغيان.
لقد علّمهم النبي -عليه الصلاة والسلام- أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، وعلمهم أنه بالصبر يظهر الفرق بين أصحاب العزائم والهمم وأهل الجبن والضعف، وعلمهم أن العبادة لا تُؤدى كما أمر الله إلا بالصبر، وأن المعاصي لا تجتنب إلا بالصبر، وأن على المؤمن أن يصبر على ما قدره الله وقضاه، فلا يتسخط ولا يضجر عند نزول البلاء، وتلا عليهم قول الله -تعالى-: (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) [النحل: 126].
وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
أي اصبروا على الطاعة ولازموها، واصبروا عن الشهوات، وامتنعوا عنها ورابطوا، إما في الثغور في مواجهة العدو، أو انتظار الصلاة في المساجد، ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط".
وبالصبر يتحقق النصر -بإذن الله- فهاهم أهل بدر عندما وقفوا في وجه أعداء الله، خاطبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ) [آل عمران: 124].
لقد رأى أهل بدر أن عدوهم يبلغ ثلاثة أضعاف عددهم، وتتوفر معه مؤونة وسلاح، وأنه جاء مستعداً متهيئاً للقتال، بينما هم على العكس من ذلك، لقد كان الموقف حرجاً جداً، فقريش في عز قوتها، والمسلمون في ضعف مادي شديد، ولذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض".
فلو انهزم المسلمون في بدر لما قامت للإسلام قائمة، ولذلك بشّر النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل بدر بنزول ثلاثة آلاف من الملائكة، وأنهم إن صبروا على شدة الحرب، وثبتوا في المعركة، فإن الله -تعالى- يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة، قال الله -تعالى-: (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران:125].
روى البخاري في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب".
وقاد النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين في غزوة بدر، وشارك بنفسه في القتال، عن علي -رضي الله عنه- قال: "لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أقربنا من العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً".
فكان يجاهد بالدعاء والتضرع إلى الله -تعالى-، ويقاتل ببدنه جمعا بين المقامين الشريفين.
وحقق الله -تعالى- لعباده المؤمنين الصابرين النصر على عدوهم رغم قلة عَددهم وعُددهم، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران: 123].
بسبب قلّتهم، ولكن الله -تعالى- نصرهم لصبرهم وثباتهم، والله -تعالى- ينصر المؤمنين الصابرين الصادقين.
اللهم ...
التعليقات