عناصر الخطبة
1/حاجة القلب لليقين وماهيته 2/فضائل اليقين 3/وسائل تحصيل اليقين في القلوب 4/مراتب اليقيناقتباس
أيها المؤمنون: اليقين منزلته من الدين علية، ومكانته فيه رفيعة؛ فإنه متى عُمرت به القلوب، وزكت به النفوس صلُح حال الإنسان، واستقام أمره على طاعة الرحمن. واليقين إنما تحصله القلوب بأمور ثلاثة لابد من عناية عظيمة بها: الأول: تدبر القرآن، فالقرآن هو كتاب اليقين، والسعادة والفلاح، والرفعة في...
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله؛ بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذرها منها؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه مراقبة عبدٍ يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه.
أيها المؤمنون: إن من أعظم المطالب وأجلِّها: أن يُعمر القلب باليقين؛ فإنه روح الأعمال، ومنزلته من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد.
واليقين -يا معاشر العباد- هو استقرار القلب وطمأنينته بالعلم وانتفاء الشك والريب، قال الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)[الحجرات: 15] أي أيقنوا ولم يشكُّوا .
وفي القرآن الكريم -عباد الله- آيٌ كثيرة فيها ذكر لليقين، وصفة أهل الإيمان به، وأن قلوبهم عامرةٌ باليقين ليس في قلوبهم شكٌ ولا ريب، وخصهم سبحانه بالانتفاع بالآيات والبراهين، فقال تعالى: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ)[الذاريات: 20]، وقال تعالى: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[البقرة: 118]، وفي القرآن أيضا وصفٌ للكفار أهل النار بأن قلوبهم خاليةً منه ليس فيها شيء من اليقين: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)[الجاثية: 32]؛ هذه حال أهل الكفر أهل النار، أما اهل الإيمان فإن قلوبهم باليقين عامرة، وبطمأنينة الإيمان مستقرة، وبالأنس بالله -تبارك وتعالى- مطمئنة: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
أيها المؤمنون: اليقين هو خير ما عُمِرت به النفوس، روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "خير ما أُلقي في القلب اليقين"، وجاء في المسند وغيره من حديث أبي بكر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَلُوا اللهَ الْيَقِينَ وَالْمُعَافَاةَ، فَإنه لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خيرٌ مِنَ الْمُعَافَاةِ".
أيها المؤمنون: اليقين منزلته من الدين علية، ومكانته فيه رفيعة؛ فإنه متى عُمرت به القلوب، وزكت به النفوس صلُح حال الإنسان، واستقام أمره على طاعة الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
عباد الله: وهذا اليقين إنما تحصله القلوب بأمور ثلاثة لابد من عناية عظيمة بها: الأول: تدبر القرآن، فالقرآن هو كتاب اليقين، والسعادة والفلاح، والرفعة في الدنيا والآخرة، قال الله -تبارك وتعالى-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص: 29].
والأمر الثاني -عباد الله-: التأمل في آيات الله التي جعلها في الأنفس والآفاق تدبرًا يهدي القلوب إلى عظمة من خلقها وكمال من أوجدها وجلال من أبدعها سبحانه وتعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[فصلت: 53].
والثالث -عباد الله-: العمل بالعلم؛ فإن العمل بالعلم يثبِّت اليقين ويقرره في القلب، ومخالفة العلم يثمر ضعف اليقين ولربما زواله.
أيها المؤمنون: باليقين فلاح العبد عند الله وسعادته في دنياه وأخراه: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[البقرة: 4-5].
جعلنا الله أجمعين من أهل اليقين والإيمان والطمأنينة بذكر الرحمن، وأصلح لنا قلوبنا وشأننا كله، وهدانا إليه صراطًا مستقيما.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرا، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى-.
عباد الله: واليقين مراتب بعضها أعلى من بعض، ومراتبه ثلاثة كلها ذكرها الله في القرآن، وهي: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ)[الحاقة: 51]، وقال سبحانه وتعالى: ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ )[التكاثر: 5-6].
وعلم اليقين -عباد الله-: هو العلم الذي يحصِّله العبد من طريق الخبر.
وعين اليقين: هو العلم الذي يحصِّله ويدركه بحاسة البصر.
وحق اليقين: هو العلم الذي يحصِّله بالمباشرة والذوق، ونحو ذلك.
فمثلا: عِلمُنا الآن بالجنة والنار هذا "علم اليقين"، فإذا عاينها الناس يوم القيامة وشاهدوا الجنة عندما تُزلف للمتقين، والنار عندما تبرَّز للغاوين فإن العلم حينئذ يكون "عين اليقين"، وإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، كان علمهم حينئذ "حق اليقين".
نسأل الله الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بالله من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين. اللهم انصر من نصر دينك، وكتابك وسنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال، وصالح الأعمال.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعليقات