اقتباس
يوصينا الإسلام أن لا ننهار أمام الشدائد والمحن، أو نتهور ونندفع فى طيش وعشوائية ومجازفة مجهولة العواقب، وإنما نواجه ذلك بالثبات والتماسك، وجعل للثبات وسائل مادية (أسباب) ووسائل إيمانية حتى يخرج المؤمن بسلام من كل شدة ومحنة.
• فقه الثبات:
الثبات قوة فى التحمل، وعدم انهيار عند المفاجأة، وإنما تماسك وصمود وقدرة على المواجهة، وصبر على المكاره. ويوصف الإنسان بالثبات إذا استقر رأيه واطمأن لوجهة محددة، ولم يتحير أو يتردد إذا فاجأه ما يزعج، قال الله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173].
وقد أمرنا الله -عز وجل-باتخاذ وسائل للثبات والقوة فى مواجهة المحن:
• وسائل تحقيق الثبات:
الوسائل المادية:
1- القوة؛ فالضعيف لا يثبت أمام القوى، لذلك أمرنا الله بالتزود من القوة بكل طاقتنا، وأمرنا أن نستنفد كل ما فى وسعنا من الإعداد والتدريب والأخـذ بأسبـاب القوة، قـال الله تعـالى: (أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60].
2- العمل والإنتاج؛ فالفقير لا يثبت أمام الغنى، لذلك حارب الإسلام الفقر عن طريق العمل والزكاة والتكافل الاجتماعى، ولنا أسوة حسنة فى سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكيف حوَّل الرجل السائل القادر على العمل إلى طاقة إنتاجية، حين باع النبى -صلى الله عليه وسلم- متاعه واشترى له أدوات العمل، وحوله إلى طاقة منتجة.
3- العلم؛ فالجهل لا يثبت أمام العلم، لذلك حثنا الله -عز وجل- على العلم، قال الله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11].
4- التماسك والوحدة؛ فالتشتت لا يثبت أمام الاتحاد، لذلك أمرنا الله -عز وجل- بالتكتل والاعتصام، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103].
وأما الوسائل الإيمانية:
فقد جمعها الله فى آية سورة الأنفال قوله: : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45].
• ولا يخفى على وعى المؤمن أثر الذكر فى تقوية القلب بما ينزل عليه من سكينة وطمأنينة واستقرار نفسى يتيح للمؤمن أن يتعامل مع الأزمة بعقل وحكمة، فيقرأ الواقع قراءة صحيحة، ويقف على ميزان القوة لدى عدوه، ويدرك أسباب الخلل وكيف السبيل إلى تداركها.
• ولقد عرفت الأمة فى أوقاتها المعاصرة الذكر اللساني القولى، فالواحد يجلس ويقول مائه مرة، أو ألف مرة: سبحان الله، والحمد لله، والله اكبر، ونحو ذلك، وهذا طيب، وهذا مطلوب، ولكن ينبغي أن يفهم المؤمن أن ذكر الله لا يقتصر عند حد الذكر اللساني القولى، وقد بينت كتب التفسير وكتب اللغة، أن القرآن الكريم أرشد إلى دلالات كثيرة من معنى ذكر الله -عز وجل-، من بينها الذكر العملي بإحياء هدى القرآن الكريم وإحياء سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحين تكمل فينا الأسوة والقدوة نكون من أهل الذكر الحقيقى.
فمثلاً فى العمل حينما نتكلم عن معايير الجودة فى الإسلام، فهي لون من ألوان الذكر العملي، وحين نعرف معنى الإتقان فى العمل، فهذا لون من ألوان الذكر العملي أيضًا.
أن يكون لنا الاكتشاف العلمي والمصالحة مع كون الله عز وجل الذى وصلنا الله به، فإن التخلف العلمي جريمة فى حق المسلمين فى حياتنا المعاصرة، فالذكر العملي يمتد إلى هذه الشئون كلها.
• ثم يقول ربنا جل جلالـه مبينًا أسباب التماسك وعدم الانهيار أمام الشدائد والمحن قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
• وإذا أحبت الأمة أن تجتمع على شيء يجمع شملها ويوحد أمرها، فهو القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تبتعد الأمة عن التنازع والفرقة والخلاف.
• فكفانا تفرقًا، وكفانا تمزقًا وتشتتًا، إن أهل الباطل اصطلحوا واجتمعوا على باطلهم، فأولي بأهل الحق أن يتحدوا لحماية حقهم وصيـانتـه، يـقول الله -عز وجل-: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) أى تضعـفـوا (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أى قوتكم.
• ثم يقول لنا ربنا عز وجل فى التوجيه الأخير: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) والصبر هنا ليس كما يفهم البعض أنه شيء سلبي كالاستسلام ونحو ذلك، إنما الصبر قوة فى التحمل لإنجاز طموحات وآمال الأمة، وقوة فى التماسك وعدم الانهيار أمام الفتن والأعداء.
• هكذا يوجهنا الله تبارك وتعالى إلى أسباب النصر كي يتأتى للأمة أن تكون فى المقدمة.
• إن المحن البشعة التى تصيب الأمم يتخذ منها العقلاء دافعًا للتصحيح، وينبغي للأمة أن تهتدي بهدى القرآن الكريم، وأن تعمل بأسباب النصر التي أمر الله -عز وجل- بها، فالقرآن موجود ورب القرآن موجود، والسنة موجودة، والذي غاب عن منظومة التفوق ومنظومة التقدم هو الإنسان.
• القرآني الذى يعمل بالقرآن ويتخلق بالقرآن، ويتأدب بالقرآن، ويتأسى بنبى القرآن صلى الله عليه وسلم.
• مواقف الأنبياء فى الثبات:
1- موقف النبى -صلى الله عليه وسلم- والذين معه بعد غزوة أحد حين أرسل إليهم أبو سفيان أنه سيرجع إليهم بعد حشد الحشود كى يستأصلهم عن آخرهم فلما بلغتهم الرسالة قالوا كما قص القرآن علينا: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]. ورجع أبو سفيان ولم يحاربهم.
2- موقف النبى -صلى الله عليه وسلم- فى الغار، قال الله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40].
3- موقف النبى -صلى الله عليه وسلم- الذى رواه جابر -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى غزوة ذات الرقاع، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة ظليلة، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة، فاخترطه المشرك وقال: من يمنعك منى؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الله». فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السيف فقال: «من يمنعك منى؟» فقال المشرك: كُن خير آخذ. فقال صلى الله عليه وسلم: «تشهد أن لا إلا الله، وأنى رسول الله ؟» قال: لا، ولكنى أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى النبى -صلى الله عليه وسلم- سبيله، فأتى الرجل أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس.
4- موقف نبى الله موسى عليه السلام حين حاصره جيش فرعون فكان البحر أمامه وجيش فرعون من خلفه، فقال له قومه: إنَّا لمدركون، إمَّا أن يصيبنا الغرق فى البحر، وإما أن يهلكنا جيش فرعون ويقضى علينا، فكان الثبات من سيدنا موسى عليه السلام ليقينه فى الله تعالى وتوكله عليه، فأجابهم قائلاً: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
5- موقف سيدنا إبراهيم -عليه السلام- لما ألقاه قومه فى النار، فقال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173].
6- موقف سيدنا يعقوب عليه السلام ومصابه فى ابنه يوسف -عليه السلام- وأولاده، وصبره وقوله لهم: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[يوسف: 18]. وأمله الكبير فى الله -عز وجل-وشدة يقينه فى فرج الله بعد اشتداد الكرب وسجن ابنه الثانى، وهذا أعلى درجات اليقين والإيمان بالله، وكلما ازدادت المحنة ازداد الأمل فى وجه الله, وبعد مُصَابه فى ابنه الثانى قال عليه السلام: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا) [يوسف: 83].
• مواقف المؤمنين فى الثبات:
1- عند مواجهة الأعداء تكرر سؤال الثبات من الله، انظر إلى قولـه عز وجل (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 250].
2- موقف أم سلمة – رضى الله عنها – لما مات عنها زوجها أبو سلمة، وقولها: ومن خير من أبى سلمة؟ فتزوجها النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: لقد أبدلنى الله خيرًا.
3- علمنا القرآن الثبات فى مواجهة الشدائد والمحن، قال تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 156-157].
4- قول المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لم تصب بمصيبتى، عندما مر عليها النبى صلى الله عليه وسلم وهى تبكى جزعًا أمام قبر ابنها، فأمرها أن تكف عن البكاء وتصبر وتحتسب، فلم تستجب له، فلما عرفت أنه النبى صلى الله عليه وسلم قالت: أنا صابرة يا رسول الله، فأجابها النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى».
5- ومواقف الصالحين كثيرة، لو تقصينا مواقفهم ما انتهينا.
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ
• لوذوا بالله .. يا أهل البلاء
من سنن الله الجارية فى الأفراد والجماعات والأمم: سنة الابتلاء، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2-3].
والمتأمل لآيات الذكر الحكيم عن هذه السنة الإلهية: سنة الابتلاء والمحنة والفتنة، يجد أن هناك أمورًا ثلاثة ارتبطت ببعضها فى محيط الفتنة والابتلاء:
الأول: أمر الفتنة والابتلاء.
الثانى: الصبر على الابتلاء.
الثالث: البشارة والفرج.
وحين نتدبر الآيات القرآنية نجد أن هذه الثلاثة كلها من الله عز وجل. فالابتلاء من الله الحكيم، والصبر هبة من الله، ولا يفلح العبد فى الصبر على البلاء إلا بتوفيق الله وعونه وتأييده، لقوله تعالى مخاطبًا نبيه: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ) [النحل: 127].
والبشارة إنما هى فضل ونعمة من الله. فماذا بقى للعبد؟!
وهذا يؤدى بالعبد - إذا فقه هذه الحقيقة الإيمانية- إلى التسليم والرضا.
ومن الحقائق التى تتعلق بهذه الأمور أن البشارة لا تتأتى إلا إذا امتثل العبد أمر ربه وأيقن أن الأمر كله لله، وأن الخلق كله لله، وأن الله يفعل ما يشاء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كيف لا؟! وربنا قد بيَّن ذلك فى قرآنه قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155-157).
وإذا ما انتبهنا إلى أن اللام فى (لله) للملكية، بمعنى أننا ملك لله، فالعبد وما ملكت يداه ملك لسيده ومولاه، وللمالك أن يتصرف فى ملكه كيف يشاء.
من هنا ندرك أن الابتلاءات فى الأفراد والجماعات والأمم لا تُرفَع إلا بالامتثال لأمر الله، والصبر على المكاره، وعدم السخط على قدر الله.
ومن حقائق الابتلاء فى القرآن الكريم أن الابتلاء لا يكون بالشر وحده، وإنما يكون بالخير أيضًا، لقول ربنا تبارك وتعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]، بل إن نعمة الحياة كلها اختبار وابتلاء ليميز من يحسن ومن يسىء، من يشكر ومن يكفر: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) [الملك: 2].
ومن حقائق الابتلاء فى السنة النبوية أن الابتلاء لا يكون فقط عقوبة بسبب الذنوب والآثام، بل هو سبب رحمة، به تغفر الخطايا وترفع الدرجات، وفى الحديث:
عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْت:ُ يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا! قَالَ: "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ". قُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: "أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ, مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا". [البخارى، ك: المرضى: 5216]
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ". [البخارى، ك: المرضى: 5210]
والمتأمل المتدبر يرى أن الفتن والابتلاءات فى هذا العصر فتن خطيرة، فتن كقطع الليل المظلم، فأنت تجد ما يراه الشباب من عرى وافتضاح يُرَغِّب إليهم الرذيلة، ويُحَبِّب إليهم المعصية، ومن الفتن أيضًا: أن تكون المقدمة فى المجتمع لمن ليس أهلاً لها، فالنجومية والمثل الأعلى ليست فى العلماء ولا فى الكادحين الجادين من أهل العمل، لكنها - فى الأعم الأغلب - فى أناس أحوالهم تتنافى مع هذه القيم، وأصبح الإنسان فى المجتمعات المعاصرة يكتسب قدره من مستوى السيارة التى يركبها، أو الشقة التى يسكنهـا، أو رصيده المالى، لا لـعلم ولا لتقـوى ولا لصلاح!!!
• ومن الفتن المعاصرة التضييق على أهل الصلاح والعلم، وإفساح المجال وإتاحة الفرصة لغير أهل الكفاءة ولا عجب، فالنبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" فلما سئل صلى الله عليه وسلم: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسِّد الأمر غير أهله، فانتظر الساعة". [البخارى: ك العلم: 57].
وينبغى على المؤمن ألا ينهار أمام هذه السلبيات، بل يصبر، ويرى فيما عند الله عوضًا عن كل مفقود، امتثالاً لقول الله تعالى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(القصص: 60)، (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً) (مريم: 76).
• ومن أخطر الفتن أن يكون حال الأمة وحال المسلمين ضد الإسلام، يصد عن سبيل الله. فحين يرى غيرُ المسلم المسلمَ يكذب ويخون الأمانة ولا يلتزم بإتقان عمل ولا معاير جودة، هنالك يصبح المسلم غير الملتزم عبئًا على الإسلام وفتنة لغير المسلمين. وهذه أخطر الفتن: أن نصد عن دين الله عز وجل.
• من الفتن أيضًا: غياب الأسوة والقدوة بين دعاة الأمة، حتى صار العلم فى الأعم الأغلب للكسب والشهرة، وليس للتربية وللهداية والإصلاح كما كان.... وابتعدنا عن الإخلاص وعن همومنا فحجبنا الله عز وجل.
• عدة المؤمن فى مواجهة الابتلاء:
• لقد أخبرنا القرآن الكريم أن الإنسان فى معركة الحياة يواجه كثيرًا من الصعاب والشدائد، ويتعرض لكثير من المحن والابتلاءات، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن هدانا وأرشدنا إلى سبل النجاة:
• أولها: الاستعانة بالله عز وجل عن طريق الصبر والصلاة، ولنا أسوة فى ساداتنا الأنبياء، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أحزنه أمر أسرع إلى الصلاة ونادى: "أرحنا بها يا بلال" [أبو داود: ك: الأدب: ].
• وسيدنا يعقوب- عليه السلام- يعلمنا الصبر وألا نفقد الأمل، فهذا الشيخ الآمل لما عاد إليه أولاده بخبر سيدنا يوسف عليه السلام أنه أكله الذئب كان جوابه: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، وبدلاً من أن يعودوا بابنه الغائب إذا به يفقد ابنًا آخر وَيُضاف جرح جديد إلى جرحه القديم، لكنه يعلمنا ألا نفقد الأمل، فبالإيمان يتجدد الأمل، فقال عليه السلام حين أخبروه بفقد ابنه الثانى: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ) [يوسف: 83].
ولنا عظيم الأسوة والموعظة فى شأن سيدنا أيوب عليه السلام وما حلَّ به من بلاء فى أهله ونفسه وماله، فكان منه الصبر والرضا، ولاذ بربه ومولاه داعيًا بأدب النبوة قائلاً:(أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الانبياء: 83]. فماذا كانت النتيجة وماذا كانت الثمرة؟
إنه الفيض الإلهى والرحمة الربانية والحنان الودود من رب العالمين قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء: 84].
وهذا سيدنا يونس عليه السلام لما ذهب غاضبا من قومه وركب السفينة، فلما هاجت أمواج البحر واضطربت السفينة اضطروا إلى التخفيف من حمولتها، فألقوا أمتعتهم فى البحر، ولم يكن ذلك كافيًا كى تأمن السفينة من الغرق فتشاوروا فى إجراء قرعة على إلقاء أحد ركاب السفينة فى البحر، ووقعت القرعة بعد إعادتها مرارًا على نبى الله يونس عليه السلام، ولم يكن فى ظنه أن القرعة ستقع عليه، فألقى بنفسه فى عرض البحر، فالتقمه الحوت، فنادى فى الظلمات (ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت):(لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
فكان الإنقاذ الإلهى والنجدة الربانية قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء: 84].
وبين الله سبحانه وتعالى أنه لولا دعاؤه ما فاز بالنجاة، قال تعالى: (فَلَوْلاَ أَنْ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِيْنَ*لَلَبِثَ فِىْ بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُوْنَ) [الصافات: 43-44].
كل هذا يعلمنا ويؤكد لنا أن طريق النجاة فى أن نلوذ بالله رب العالمين.
• من وسائل النجاة عند الابتلاء الثبات.
إن الثبات أمام الشدائد والمحن درس قرآنى؛ ففى غزوة أحد، تلك الغزوة التى بدأت بنصر للمسلمين وانتهت بـهزيمتهم بسبب مخالفة الرماة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهم لمواقعهم وانشغالهم بجمع الغنائم واستشهد فى هذه الغزوة حمزة ومصعب بن عمير، وأشيع أن النبى صلى الله عليه وسلم قد قُتِل.. كانت المشاعر بعد هذه الغزوة فى حزن وألم, وإذا بأبى سفيان يرسل إليهم رسالة يتوعدهم فيها بأنه يحشد الحشود ويجمع الجموع ليرجع إليهم فيبيدهم ويستأصلهم عن آخرهم.
وهنا نتعلم درس الثبات فى مواجهة الشدائد والمحن من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث جمع الصحابة وأفهمهم أن الله لم يتخلَّ عنه، وأن ما حدث كان نتيجة لمخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم المواقع خالية، فانكشف ظهر جيش المسلمين، ورفع النبى صلى الله عليه وسلم همة الصحابة فكان جوابهم: أنـهم سيواجهون أبا سفيان وجيشه وحشوده، فلما علم أبو سفيان بهمتهم وحسن استعدادهم للقتال رجع ولم يحارب، وأنزل الله فى ذلك قرآنًا يتلى؛ ليعظِّم من قيمة هذا الدرس الإيمانى: درس الثبات وعدم الانهيار فى مواجهة المحن والشدائد، قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ) [آل عمران: 173].
لقد علمنا القرآن الكريم أن نلوذ بالله فى أوقات المحن والشدئد، قال تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 156].
فبالصبر والرضا تحصل المثوبة والمعونة والبشرى بالفرح من الله عز وجل.
أما السخط والضجر فلا ينال العبد منه إلا خسران الثواب وفقدان معونة الله عز وجل.
والمتأمل لأحوال الناس فى البلاء يرى أن تعب كل أحد من الخلق إنما يكون على قدر منازعته لمقادير الله سبحانه وعدم صبره وعدم رضاه.
فالسخط باب الكدر والنكد, والرضا باب النعيم والفرج، ويؤكد هذا المعنى حديث النبى صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ, وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا, وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ ". [الترمذى، ك: الزهد: 2398]
• ومن المواقف التطبيقية التى تبين ثمار الصبر والرضا هذه المواقف الإيمانية من السنة النبوية:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَان.َ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَال:َ "أَعْرَسْتُمْ اللَّيْلَةَ؟" قَال:َ نَعَمْ. قَال:َ "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا". فَوَلَدَتْ غُلامًا. قَالَ لِي أَبُو طَلْحَة:َ احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.َ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَال:َ "أَمَعَهُ شَيْءٌ؟" قَالُوا: نَعَمْ, تَمَرَاتٌ. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَضَغَهَا ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِى الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. يقول راوى الحديث وكان من نسله عشرة من الولد كلهم يحفظ القرآن. [البخارى: العقيقة: 5048]
• عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَت:ْ أَتَانِي أَبُو سَلَمَةَ يَوْمًا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلا فَسُرِرْتُ بِهِ. قَالَ: "لا تُصِيبُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُصِيبَةٌ فَيَسْتَرْجِعَ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلا فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَحَفِظْتُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ اسْتَرْجَعْتُ وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْنِي خَيْرًا مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي، قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لِي خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟! فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتِي اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَدْبُغُ إِهَابًا لِي فَغَسَلْتُ يَدَيَّ مِنْ الْقَرَظِ وَأَذِنْتُ لَه,ُ فَوَضَعْتُ لَهُ وِسَادَةَ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَقَعَدَ عَلَيْهَا فَخَطَبَنِي إِلَى نَفْسِي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا بِي أَنْ لا تَكُونَ بِكَ الرَّغْبَةُ فِيَّ وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ فِيَّ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ, فَأَخَافُ أَنْ تَرَى مِنِّي شَيْئًا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ بِهِ، وَأَنَا امْرَأَةٌ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ، وَأَنَا ذَاتُ عِيَالٍ، فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ الْغَيْرَةِ فَسَوْفَ يُذْهِبُهَا الله -عز وجل-مِنْكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ الَّذِي أَصَابَكِ, وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي، قَالَتْ: فَقَدْ سَلَّمْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَقَدْ أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِأَبِي سَلَمَةَ خَيْرًا مِنْهُ (أى من أبى سلمة) رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم". [مسند أحمد: 15752]
• أيضًا من سبل النجاة لأهل البلاء: التوسل بصالح الأعمال إلى الله -عز وجل-لكشف الضر وتفريج الكرب.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَرَجَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ فَأَصَابَهُمْ الْمَطَرُ فَدَخَلُوا فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنِّي كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَرْعَى ثُمَّ أَجِيءُ فَأَحْلُبُ فَأَجِيءُ بِالْحِلابِ فَآتِي بِهِ أَبَوَيَّ فَيَشْرَبَانِ ثُمَّ أَسْقِي الصِّبْيَةَ وَأَهْلِي وَامْرَأَتِي, فَاحْتَبَسْتُ لَيْلَةً فَجِئْتُ فَإِذَا هُمَا نَائِمَانِ, فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ, فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفُرِجَ عَنْهُمْ وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّي كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ فَقَالَتْ: لا تَنَالُ ذَلِكَ مِنِّى حَتَّى تُعْطِيَنِى مِائَةَ دِينَارٍ, فَسَعَيْتُ فِيهَا حَتَّى جَمَعْتُهَا, فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً. فَفَرَّجَ عَنْهُمْ الثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ فَأَعْطَيْتُهُ، وَأَبَى ذَاكَ أَنْ يَأْخُذَ فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ، فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعْطِنِي حَقِّى، فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا فَإِنَّهَا لَك,َ فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟! فَقُلْتُ مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ وَلَكِنَّهَا لَكَ, اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا. فَكُشِفَ عَنْهُمْ". [البخارى, ك: البيوع: 2063]
• حسن الظن بالله تعالى:
ما أحوج أهل البلاء إلى حسن الظن بالله تعالى، فالله حكيم وفعل الحكيم كله حِكَمٌ وأسرار، قد يدرك العبد بعضها وقد تخفى عليه، وإياك أن تظن أن الله قد ابتلاك لهوانك عليه، بل إن الله ابتلاك ليؤهلك إلى ما أعده لك من المنازل العالية فى الجنة فى رفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
نعم ابتلاك الله أيها الإنسان؛ لتنال فضل الصابرين، فتعطى من فضل الله فى يوم القيامة بغير حساب, قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
وفى الأثر: قال ابن مسعود: "إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير بقوله: سَّبنى فلان .. أهاننى فلان, وما هو إلا فضل الله عز وجل. وفى الحديث النبوى الشريف عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: إن من عبادى من لا يُصلح إيمانه إلا الفقر، وإن بسط عليه أفسده ذلك؛ وإن من عبادى من لا يُصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك؛ وإن من عبادى من لا يُصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك؛ وإن من عبادى من لا يُصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من يطلب بابًا من العباد فأكفه عنه لكيلا يدخله العجب، إنى أدبر أمر عبادى بعلمى بما فى قلوبهم إنى عليم خبير".
• أهل البلاء ينتظرون إحدى الحسنيين:
من حلَّ بساحته البلاء فرضى بالقضاء، وصبر على البلاء، وأحسن الظن بالله، وأسلم أمره إلى الله تعالى، فإنه يفوز بإحدى الحسنيين، إما أن ينال مطلوبه ويتحقق مراده بكشف البلوى، وإما أن ينال الأجر والإحسان فى الآخرة (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 17]، (وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [النحل: 41].
ومن يدرى؟ فكم من فوائد تكمن فى الشدائد، قال الله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَيَجْعَل اللهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيْرًا) [النساء: 19]. وقال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوْا شَيئًا وَهْوَ خَيْرٌ لَكُم) [البقرة: 216].
• شبهة مردودة:
ولا يذهبن الوهم إلى أنا نريد بما قدمنا أن المسلم إذا أصابه مرض يرضى ويصبر ويستسلم فيدع الدواء والتداوى، وإذا اعتدى معتدٍ على نفسه أو ولده أو ماله أو أهله أو على أية حرمة من حرماته يرضى ويصبر ويستسلم فلا يخاصمه ويدافعه بكل ما فى الإمكان من وسائل الدفاع المشروعة، وإذا هجم عدو على أرض الوطن يرضى ويصبر ويستسلم فلا يحاربه ويسترد الحق المسلوب بكل قوة.
كيف نريد شيئًا من هذا وقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم تداوى من مرضه وأمر بالتداوى، فإنه تعالى كما خلق الداء خلق الدواء، وإن الله تعالى شرع الحدود والأحكام والتقاضى؛ لحفظ الحقوق ورد المظالم وردع الظالم، وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بأن "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد" [الترمذى, ك: الديات: 1341]، وشرع الله الجهاد للدفاع عن الإسلام وأهله، وحرماته وأوطانه.
وإنما نريد منه إذا نابته نائبة ونزلت به جائحة أن ينتزع من قلبه السخط على قضاء الله وقدره، والتبرم بأمره وحكمه، واليأس من رحمة الله وفرجه, ويملأ قلبه إيمانًا بالله ورضًا بقضائه، وصبرًا على بلائه ويأخذ فى أسباب كشفها إذا كانت النائبة مما يستطاع دفعها متوكلاً بذلك على الله معتمدًا عليه فى كشفها. وقد علم أن التوكل لا ينافى الأخذ بالأسباب وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اعقلها وتوكل" جوابًا لمن قال: أتوكل فلا أعقلها، وأن الله تعالى كما شرع المسببات شرع الأسباب وأمر بالجرى على سننه فى الخلق، فاعرف ذلك واعمل به، والله الموفق والمعين.
• شبهة أخرى:
بعض الناس تدور برأسهم أفكار، وتعتريه خواطر وتساؤلات من بينها: لماذا الصبر؟ وبخاصة فى المواقف التى يكون فيها الإنسان على حق. لماذا لا نبطش؟ لماذا لا ننتقم؟ وما الحكمة فى الأمر القرآنى المتكرر بالتحلى بالصبر، ثم أليس الصبر موقفًا سلبيًّا وضعفًا فى الشخصية؟! .. ونحو ذلك من تساؤلات وأفكار.
أقول وبالله التوفيق:
أولاً: إن من أدب الإيمان أن نكون على يقين كامل بأن الله تعالى حكيم، وأمر الحكيم وفعله كله حكمة، وقد يعجز العقل البشرى عن إدراك هذه الحكمة لكنه يؤمن بـها؛ لأن مرجعها إلى الله الحكيم الخبير البصير.
ثانيًا: إن نظرة الإسلام للصبر نظرة إيجابية؛ فالصبر الإيمانى قوة صامتة تمكِّن الإنسان من التحكم فى نفسه والسيطرة على نوازع الهوى ومغريات الدنيا.. إنه سمو بمشاعر النفس؛ لترتبط بتوجيه الله تعالى وتستجيب لأمره.. إنه طاقة إيمانية تُخَلِّصُ الإنسان من دوافع الانتقام والانكباب وراء الصيت والشهرة. ولنا خير أسوة وأفضل قدوة فى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه قط، وإنما كان يغضب إذا انتهكت حرمة من حرمات الله عز وجل.
ونصوص القرآن والسنة النبوية المطهرة توضح أبعاد نظرة الإسلام الإيجابية للصبر:
• فعن الصبر كقوة تسيطر على النفس ونوازعها، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرُعَة، وإنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب". [البخارى، ك: الأدب: 5649]
وعن الصبر كطاقة فى التحمل، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ". [الترمذى، ك:الفتن: 2186]
• وعن الصبر كطاقة دافعة لنيل العلا وتحقيق الطموحات، يقول الله تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 32].
وعن الصبر كلون من الثبات أمام الكوارث المفاجئة، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى". [البخارى، ك: الجنائز: 1203]
ومن هنا يظهر لنا أن الصبر فضيلة لا يتأتى لضعفاء النفوس إدراكها؛ لأن ضعفاء النفوس ملكتهم أنفسهم، وسيطرت عليهم أهواؤهم، فأصبحت تصرفاتـهم ردود فعل حمقاء ليس لها ضابط إلا إرضاء نفوسهم وغرورهم.
أما المؤمنون الصادقون فإنـهم يملكون نفوسهم عند الغضب، ويثبتون أمام المحن والكوارث دون سخط أو ضجر, ويتأدبون بأدب القرآن، قال الله تعالى:
(الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ) [البقرة: 157،156].
وحسب الصابرين من الفضل أن الله جعل جزاءهم يوم القيامة بلا حدود، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
التعليقات