اقتباس
وكان أستاذي المرحوم الدكتور (محمد عبد الله دراز) -رحمه الله -تعالى- يَفتح عيوننا أثناء الدراسة الجامعيَّة على موضوع السورة وفكرتها العامَّة، ويَعرض موضوعاتها في سلك واحد كأنها حبَّات عِقْد مُكتمل، أحكمته يد السميع العليم القائل في كتاب الكريم: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1]..
1 – معنى كلمة سورة:
القرآن الكريم (114) سورة، وفي كل سورة من سور القرآن الكريم روح يَسري في آياتها، ويُسيطر على مبادئها، وأحكامها، وتوجيهاتها، وأسلوبها.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله -تعالى-:
"اختلف في معنى السورة مِمَّ هي مُشتقَّة؟ فقيل: من الإبانة والارتفاع، فكأنَّ قارئ القرآن يَنتقل من مَنزلة إلى مَنزلة، وقيل: لشرفها وارتفاعها، كسور البلدان، وقيل: سُمِّيت سورة لكونها قطعة من القرآن وجزءاً منه، مأخوذ من سؤر الإناء وهو البقيَّة، وعلى هذا فيكون أصلها مهموزاً وإنَّما خُفِّفت الهمزة فأبدلت الهمزة واواً لانضمام ما قبلها. وقيل: لتمامها وكمالها، لأنَّ العرب يُسمون الناقة سورة.
قلت: ويحتمل أن يكون من الجمع والإحاطة لآياتها، كما يُسمى سور البلد، لإحاطته بمنازله ودوره.
وجمع السورة (سُوَر) بفتح الواو، وقد يجمع على: (سورات) و(سوارات).
2-أسماء السور:
السورة قطعةٌ من القرآن وجزء منه، وهي سُورٌ يحيطُ بالآيات التي تحتويها. ونلاحظ أنَّ السورة تسمَّى بأغربِ شيء فيها، أو أهمِّ شيء فيها:
1-فسورة البقرة سميت بهذا الاسم؛ لاشتمالها على قصَّة البقرة، وذلك أنَّه قُتل قتيل في بني إسرائيل ولم يُعلم قاتله، فذهب القوم إلى موسى -عليه السلام- يَطلبون منه بيان القاتل، فأمرهم الله -تعالى- أن يَذْبحوا بقرة، وأن يَضربوا القتيل بجزءٍ منها فتردَّ إليه الحياة، ويقوم ويقول قَتلني فلان، ثم يعود مَيْتاً، قال -تعالى-: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة:73].
2-وسورة آل عمران اشتملت على قصة مريم ابنة عمران، وقد حملت مريم بأمر الله -سبحانه-، وكانت ولادة عيسى -صلى الله عليه وسلم- أغرب ولادة في التاريخ، حيث خلقه الله -تعالى- بقدرته من غير أبٍ، وخَلَقَ حواءَ من غيرِ أم، قال الله -تعالى-: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران:59]
3-وسورة النساء اشتملت على ذكر أحكام النساء والوصية بهنَّ، وأوجبت لهنَّ الميراث، وكانت المرأة لا تَرِث في الجاهلية. وقد بيَّنت المحرَّمات من النساء، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وتسمى سورة النساء الكبرى تمييزاً لها عن سورة النساء الصغرى وهي سورة الطلاق.
4-وسورة المائدة اشتملت على قصة المائدة في الآيات 111 - 115، حيث طلب الحواريون من عيسى -صلى الله عليه وسلم- مائدة من السماء؛ ليأكلوا منها وتطمئنَّ قلوبهم بصدق عيسى -صلى الله عليه وسلم- في دعوته: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ*قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ). [المائدة:114-115].
5-وسورة الأنعام تعرَّضت لذكر الأنعام وأنواعها الثمانية: وهي الشاة والخروف والتيس والماعز والثور والبقرة والجمل والناقة، وذلك في الآيات 142-144من السورة، قال الله -تعالى-: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ). [الأنعام143-144].
6-وسورة الأعراف تعرَّضت لذكر الأعراف، وهو حاجز مُرتفع بين الجنَّة والنار، عليه رجال استوت حسناتهم وسيئاتهم. قال -تعالى-: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) [الأعراف:46].
7-وسورة الأنفال تعرَّضت لذكر الأنفال وهي الغنائم، وكان المسلمون قد اختلفوا في طريقة توزيعها بعد غزوة بدر، فبيَّنت السورة أنَّ النصر كان من عند الله -تعالى-، وأنَّ الواجب يقضي بتقوى الله وإصلاح ذات البين وجمع الشمل، قال -تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال:1].
8-وسورة التوبة، ذُكر فيها توبة الله -سبحانه- على المؤمنين وعلى المتخلِّفين عن الغزو، حين عَلِمَ الله -تعالى- منهم صدقَ التوبة والندم الشديد. قال -تعالى-: (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ*وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). [التوبة:117-118].
9-وسورة يونس تعرَّضت لذكر نبي الله يونس -صلى الله عليه وسلم-، وقد أرسله الله -تعالى- إلى مائةِ ألفٍ أو يزيد، فآمنوا به فنجَّاهم الله -سبحانه- من العذاب، ومتَّعهم في الدنيا إلى نهاية أجلهم، قال الله -تعالى-: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].
10-وسورة هود ذَكرت رسالة هود -صلى الله عليه وسلم- إلى قومه في قوله -تعالى-: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) [هود:50]، ثم وضَّحت رسالات الرسل إلى قومهم فذكرت رسالة صالح -صلى الله عليه وسلم- إلى ثمود، ورسالة شعيب -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل مدين، ورسالة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، ولوط -صلى الله عليه وسلم- وموسى -صلى الله عليه وسلم- إلى قومهم.
11-وسورة يوسف دارت كلها تقريباً حول قِصَّة يُوسف -عليه الصلاة والسلام.
وهكذا نجد أنَّ الأساس العام في تسمية السورة هو أهم شيء ذُكر فيها، أو أغرب شيء تحدَّثت عنه.
وأحيانا تطرق السورة عِدَّة مَوْضُوعات وتختارُ واحداً من بينها ليكون عنواناً لها، فسورة هود تناولت قصص كثير من الأنبياء أولهم نوح -صلى الله عليه وسلم-، ولكن نوحاً ذكر في سورة مُستقلة، وثانيهم هود وبه سمِّيت السورة، ثم تحدَّثت عن صالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى -عليهم السلام.
3-السورة وأسلوب القرآن:
كان الرجل إذا حفظ سورة (البقرة) عَظُمَ في أعين المسلمين، وكان عليه الصلاة والسلام يخطب الجمعة بسورة (ق)، حتى قالت النساء ما حفظنا سورة (ق) إلا من خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بها، فالسورة لوحة هَادفة، ورسالة مُعبِّرة في كتاب الله الحكيم، وقد ذكر العلماء وجوه إعجاز القرآن، وبيَّنوا أنَّ من خصائص الأسلوب القرآني ما يَأتي:
1-إرضاؤه العامَّة والخاصَّة.
2-إرضاؤه العقلَ والعاطفة.
3-مسحة البداوة مع اشتماله على بسائط الحضارة.
4-جودة السبك وإحكام السَّرْد.
5-براعته في تصريف القول.
6-جمع القرآن بين الإجمال والبيان.
7-القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى.
8-عدم الاختلاف والتناقض بين معانيه.
4-وحدة النَّظم في القرآن الكريم:
من إعجاز القرآن اتساقُ عبارته وإحكام نظمه، واتحاد طريقته في الإبداع والقوَّة، كأنَّما وضع جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوتٌ أو تباين.
"ومردُّ ذلك إلى روح التركيب التي تَنعطف عليها جوانب الكلام الإلهي، وتلمح جمال هذا التركيب في نظم الكلمة وتَأليفها، ثم في تأليف هذا النظم فمن هنا تعلَّق بعضه على بعض، وخرج في معنى تلك الروح صفة واحدة هي إعجازه في التركيب، وإن كان فيما وراء ذلك مُتعدِّد الوجوه التي يتصرَّف فيها من أغراض الكلام، ومناحي العبارة على جملة ما حصل به جهات الخطاب، كالقصص والحكم والتعليم وضرب الأمثال إلى نحو مما يدور عليه". (إعجاز القرآن للرافعي).
فأنت ما دمت في القرآن حتى تخرج منه لا ترى غير صورة واحدة من الكمال، وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب ومَواضع التأليف، وألوان التصوير وأغراض الكلام، كأنها تفضي إليك جملة واحدة.
وقد ذهب العلماء إلى أنَّ ألفاظ القرآن الكريم مُتميِّزة من جنسها، بحيث إذا وجدت تركيباً قرآنياً في نسق الكلام دلَّ على نفسه، وأرشدت محاسنه إليه لما له من صفة إلهيَّة: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ*وَمَا هُوَ بِالهَزْلِ). [الطًّارق:13-14].
5-وحدة الفكرة:
من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم أنَّ معانيه تجري في مُناسبة الوضع وإحكام النظم مجرى ألفاظه، ولا يعدم المفكر وجهاً صحيحاً من القول في ربط كل كلمة بأختها، وكل آية بضريبتها، وكل سورة بما إليها، وهو عِلمٌ عجيب أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره، وقد قال: إنَّ أكثر لطائف القرآن مُودعة في الترتيبات والروابط.
ويقال إنَّ أول من أظهر هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري. وكان غزير المادة في الشريعة والأدب، وكان يقول في تفسيره: "لِمَ جُعلت هذه الآية إلى جنب هذه، وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة"، وكان يُزري على علماء بغداد؛ لأنَّهم لا يعلمون هذه المناسبات.
وللشيخ مجد الدين أبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي الشيرازي المتوفي سنة1414هـ كتاب قيم عنوانه: (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)، قام بطبعه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة في عِدَّة أجزاء. وقد حقَّق الجزء الأول منه الأستاذ محمد علي النجَّار. ويتميز هذا الكتاب بإيراد الأفكار والمبادئ والوصايا والأحكام التي تَشتمل عليها كل سورة على حدة.
ومن عنوان الكتاب نلمح أنَّ المؤلف قد حرص على جمع اللطائف التي اشتمل عليها القرآن الكريم، وهو يبدأ بسورة البقرة ثم بسورة آل عمران وهكذا، ويذكر تحت كل سورة تعريفاً بها والحكمة في تسميتها، ويبين المعاني والأفكار المشتملة عليها، والآيات المتشابهة فيها، التي تكرَّرت في سورة أخرى، والسحر في تميِّز الآية في سياق سورة عنها في سياق سورة أخرى.
وللإمام برهان الدين بن عمر البقاعي - المتوفى في سنة 885هـ - تفسير طُبع حديثاً بالهند اسمه: (نَظْم الدُّرَر في تناسب الآيات والسور)، وهو تفسير جليل جمع فيه من أسرار القرآن ما تتحيَّر فيه العقول، واهتمَّ ببيان ارتباط الجمل بعضها ببعض، وتناسق الآيات واتساق المعنى وترابطه.
وفي مطلع القرن العشرين ظهر تفسير (المنار) للشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا، وعُني تفسير المنار ببيان الوحدة الموضوعيَّة للسورة، وبيان التناسب بين آياتها، وبيَّن أنَّ الموضوع يجب أن يكون أساساً في فهم الآيات التي نزلت فيه.
وكان السيد رشيد يُتْبِعُ تفسيرَ كلِّ سورة بملخص لأهمِّ موضوعاتها والأحكام التي وردت بها.
وكان أستاذي المرحوم الدكتور (محمد عبد الله دراز) -رحمه الله -تعالى- يَفتح عيوننا أثناء الدراسة الجامعيَّة على موضوع السورة وفكرتها العامَّة، ويَعرض موضوعاتها في سلك واحد كأنها حبَّات عِقْد مُكتمل، أحكمته يد السميع العليم القائل في كتاب الكريم: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1].
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: (مجلة الوعي الإسلامي: ربيع الأول 1402 -العدد 207).
التعليقات