عناصر الخطبة
1/ تأملات في شدة الحر ودلالاتها 2/ مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان بالحوض 3/ وصف الحوض 4/ أسباب الشرب من حوض النبي وأسباب الطرد عنه 5/ أصناف المنكرين للحوض وعقابهم 6/ التحذير من رد النصوص الشرعية.اهداف الخطبة
اقتباس
ورود الناس الحوض وشربهم منه يوم العطش الأكبر بحسب ورودهم لسنته -صلى الله عليه وسلم- وشربهم منها، فمن وردها في هذه الدار وشرب منها وتضلع ورد هناك حوض النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وشرب منه وتضلع منه.. فمن عاش مع الله طاب عيشه، ومن عاش مع نفسه وهواه طال حسابه وطيشه، أيطمع أقوام أعرضوا عن هديه -صلى الله عليه وسلم- وهجروا سنته وتنكَّبُوا سبيله وهجروا الوحي الذي نزل عليه وتثاقلوا عن الصلوات المفروضة التي هي قرة عينه أن يشربوا من حوضه؟!..
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
وبعد فاتقوا الله أيها الناس، فتقوى الله هي الأمان يوم الخوف وهي الثبات يوم تزل الأقدام (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج:1].
عباد الله: في مثل هذه الأيام تشتد حرارة الجو، ويشعر المرء أنه بحاجة إلى الماء والظل في كل ساعة من ساعات يومه، وكأنه بهذا يدلل على ضعفه، ويتذكر ساعة وقوفه بين يدي ربه حين لا ينفعه إلا عمله (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34- 37].
فلعله في حرارة الجو يتذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ".
إذا اشتد الحر فلعل في اشتداده من المنافع التي أوجبها الله -عز وجل- أن يتذكر الإنسان ما قال الله -عز وجل- (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 35- 41].
أيها المسلمون: الناس لهم يوم لا ريب فيه يبعث من في القبور، ويحصل ما في الصدور، يقوم الناس لرب العالم حفاة غير منتعلين وعراة غير لابسين وغرًّا غير مختونين، تدنو منهم الشمس حتى تكون كمقدار ميل، ويعظم الهول ويشتد الكرب ويكون العرق منهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى وسطه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا، في ذلك اليوم يفر الناس إلى من يسكِّن خوفهم، ويبحثون عما يروي ظمأهم.
فأما الكفار والمنافقون والفجار فيا خيبتهم أعمالهم كسراب بقيعة (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) [الفرقان:23].
أهل البدع والتحريف والكبائر يُزَادون عن موارد الشرب والشرف إلى أماكن العذاب والتلف، أما أهل الإيمان الذين يؤمنون بالغيب ويقومون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون، الذين يطيعون الله ورسوله فيَرِدُون حوض المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في عرصات القيامة؛ كما ثبت ذلك فيما رواه الصحابة يزيدون عن خمسين صحابيًّا حوض النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- مربع الشكل طوله شهر، وعرضه شهر يشرب منه أتباعه شربة لا يظمئون بعدها أبداً.
عن سهل بن سعد قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا.." (رواه البخاري ومسلم).
وفي صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي".
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر قال: صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات، وكانت في آخر حياته -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة، إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم"، قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر.
حوض النبي -صلى الله عليه وسلم- حوض عظيم ومورد كريم لا يعلم سعته على الحقيقة إلا الله -تعالى-، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأشد بردًا من الثلج وأطيب ريحًا من المسك من يشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً.
حوض في غاية الاتساع على جوانبه المسك واللؤلؤ وقضبانه الذهب وفيه من الأباريق والأواني كعدد نجوم السماء وآنيته من ذهب وفضة الجنة.
في صحيح البخاري ومسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن, وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها فلا يظمأ أبداً".
هذا الحوض يمد من الكوثر، قال الله -تعالى-: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر: 1- 3].
وفي صحيح البخاري عن أبي عبيدة قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- عن قوله -تعالى-: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: "هو نهر أعطيه نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، شاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم".
وفي صحح البخاري عن أنس قال: "لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: "أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفًا، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ".
هذا الحوض الآن موجود نظر إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إني والله لأنظر إلى حوضي الآن"، يرده أهل الحق الذين يتمسكون بسنته ويقيمون شعائر الدين، ويؤمنون بالله ورسوله، ويعملون الصالحات، بالغيب يؤمنون، وعلى الصلوات يحافظون، وهم من خشية الله مشفقون، بربهم لا يشركون، عن اللغو معرضون، وللزكاة فاعلون، وفي صلواتهم خاشعون، وإلى الخيرات يسارعون، وعن الشبهات يبتعدون، وعلى ذكر الله وتلاوة كتابه والصيام يداومون، يردون على الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حوضه فيشربون والناس عطاش، ويسعدون وأقوام في شقاء تنزل على هؤلاء السعداء السكينة والرحمة وأناس في خوف وفزع وهلع (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا) [الإنسان:22].
فمن عاش مع الله طاب عيشه، ومن عاش مع نفسه وهواه طال حسابه وطيشه، أيطمع أقوام أعرضوا عن هديه -صلى الله عليه وسلم- وهجروا سنته وتنكَّبُوا سبيله وهجروا الوحي الذي نزل عليه وتثاقلوا عن الصلوات المفروضة التي هي قرة عينه أن يشربوا من حوضه؟!
الجزاء من جنس العمل (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية:21].
أيها المسلمون: ورود الناس الحوض وشربهم منه يوم العطش الأكبر بحسب ورودهم لسنته -صلى الله عليه وسلم- وشربهم منها، فمن وردها في هذه الدار وشرب منها وتضلع ورد هناك حوض النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وشرب منه وتضلع منه.
في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني على الحوض حتى أنتظر من يرد عليَّ منكم، وسيؤخذ أناس دوني، فأقول: يا رب مني ومن أمتي. فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم"، فكان ابن أبي مليكة -رحمه الله يقول-: "اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا".
قال السفاريني في شرحه: " الحاصل أن من الذين يزادون عن الحوض: جنس المفترين على الله -تعالى-، وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- من المحدثين في الدين من الروافض والخوارج وسائر أصحاب الأهواء والبدع المضلة، وكذلك المسرفون من الظلمة المفرطون في الظلم والجور وطمس الحق، كذلك المتهتكون في ارتكاب المناهي، والمعلنون في اقتراف المعاصي".
فيا أيها الطالب لنجاته! يا أيها الراجي لورود حوض النبي الكريم! إنك عن عملك مسئول وإلى ربك سائر فاسترضي ربك قبل أن تلقاه (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الانشقاق:6].
وحاذر الذنوب فإنها تحجب الواصل وتقطع السائر ولربما موقف خزي في القيامة لم يخطر على بال الإنسان.
اللهم سلمنا من أهوال الحشر، اللهم يا حي يا قيوم اجعلنا ممن يرد حوض نبينا الكريم، اللهم أسقنا من حوضه، وثبتنا على سنته واجعلنا من أنصار دينه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
وبعد: فقد اتفق سلف الأمة على إثبات حوض النبي -صلى الله عليه وسلم- كما جاءت بذلك النصوص الشرعية فلا عبرة بأهل البدع المنكرين بالحوض القائلين بجحوده، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده كما قال بعض السلف: "من كذَّب بكرامة لم ينالها".
وقد أنكر الحوض المعتزلة والخوارج وزمر من الذين حكموا عقولهم القاصرة في مثل هذه المغيبات، نسأل الله العفو والعافية.
قال العلماء: "وأما الحوض فقد صحت الآثار فيه، وهو كرامة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولمن ورد عليه من أمته، ولا ندري لمن أنكره متعلقًا".
أيها المسلمون: ففي ما سبق من ذكر الحوض، ومن يرد عليه ويحرم منه عبرة للعقلاء أن يجتهد الإنسان في اتباع السنة، وأداء ما افترض الله عليه، وأن يغتبط بما من الله عليه به من الإيمان بالغيب وتصديق ما يكون في عرصات القيامة.
كما وعلى الإنسان أن يحذر من سوء الخاتمة، وأن يغتر بعمل بل يرجو رحمة الله -عز وجل-، ألا ترى إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليردن عليَّ ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختُلجوا دوني –أي: أخذتهم الملائكة بعيدًا عن الحوض-، فأقول: أصحابي، فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك"؟
وهؤلاء من المنافقين والمرتدين، وكل من أحدث في الدين، فليحذر الذين يطعنون في السنة النبوية بأقلامهم وألسنتهم أن يكونوا من هؤلاء الذين يُطرَدون عن حوض المصطفى ويزادون عنه، وإنما الأعمال بالخواتيم.
قال الحسن البصري: "يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله مشهده أن يطول حزنه".
أيها المسلمون: لنتق الله في أنفسنا وفيمن تحت أيدينا، فهل بقي مكان لغفلتنا؟! والإنسان يرى العبر بعينيه ويسمع المواعظ بأذنيه، ويوقن بما هو صائر إليه! عجبًا لقلوب لهت وأجسام من الحرام شبعت، ونفوس عن الآخرة غفلت.
شيع بعض الصالحين جنازة فلما وضعت في لحدها ضج أهلها وبكوا، فقال: "ما يبكون؟ أما والله لو عاينوا ما عاين ميتهم لأذهلتهم معاناتهم عن ميتهم، وإن له فيهم لعودة ثم عودة حتى لا يبقى منهم أحداً".
اللهم يا حي يا قيوم تب علينا أجمعين ..
التعليقات