عناصر الخطبة
1/ الهمة العالية وتفاوت الناس في ذلك 2/ دور الهمة العالية في تطوير الذات 3/ نماذج رائعة في علو الهمة 4/ بعض الأمور المعينة على علو الهمةاهداف الخطبة
اقتباس
لا يكن همك ما تأكل وما تشرب، وما تلبس، وما تنكح، وما تسكن وما تجمع، كل هذا همّ النفس والطبع، فأين هم القلب، همك ما أهمك، فليكن همك ربك -عز وجل- وما عنده.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الذي خلق الخلق واصطفى منهم المؤمنين، ودلهم على ما فيه سعادتهم بقوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 63].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الإخوة المؤمنون: إن للهمة لشأنًا عظيمًا، وتأثيرًا كبيرًا في حياة صاحبها، سواء أكان في سن الشباب أم تجاوزه إلى الكهولة وما بعدها، ممن يطلب الدنيا أم من طلاب الآخرة: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى: 20].
ولكن آية الإسراء تكشف لنا شرط هذه الإرادة: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) [الإسراء: 19].
إذًا، هي إرادة مقرونة بسعي يليق بعظمة الجنة ونعيمها، ألا إن سلعة الله غالية، ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر.
فمن كانت همته عالية علو السماء طلب الآخرة، وسعى لها، ومن كانت همته دنيئة سافلة اكتفى بطلب الدنيا، وذهب إلى أهله يتمطى.
وحسبنا اليوم أن نتحدث عن الهمة العالية، تلك التي -كما يقول ابن القيم -رحمه الله- لا تقف معها النفس دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بديلاً منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية.
والعجيب أن صاحب الهمة العالية في طلب سفاسف الأمور إذا اهتدى كان صاحب همة عالية في طلب معاليها: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" [رواه البخاري].
نعم، يتفاوت الناس في فهمهم، فتتفاوت على هذا أعمالهم وحظوظهم ودرجاتهم، وإذا أردت أن تعرف مراتب الهمم، فانظر إلى همة ربيعة بن كعب الأسلمي قال: "كنت أبيت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: "سل" فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "أو غير ذلك؟" قلت: هو ذاك، قال: "فأعن على نفسك بكثرة السجود" [رواه مسلم].
له همم لا منتهى لكبارها *** وهمته الصغرى أجلّ من الدهر
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني لغلامه: "يا غلام لا يكن همك ما تأكل وما تشرب، وما تلبس، وما تنكح، وما تسكن وما تجمع، كل هذا همّ النفس والطبع، فأين هم القلب، همك ما أهمك، فليكن همك ربك -عز وجل- وما عنده"، ويقول آخر: "إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متقدة تكون في ضرامها -على الأقل- مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابنًا مريضًا، ولا تدعه حتى تجره إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئًا يسد به رمق حياة أولاده فتقلقله وتضطره إلى بذل الجهد والسعي".
على قدر العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
وإن الهمة العالية هي العمود الفقري لكل إنجاز نحب أن نحققه في حياتنا، ورأس ذلك العبادة المحصنة، وطلب العلم هما أجلّ ما نتقرب لخالقنا -سبحانه-، واستمع -يا مسلم- إلى معاذ بن جبل -رَضي الله عنه- وهو على فراش الموت يعلمنا فيم تستحق الحياة أن تعاش، يقول: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، وظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر"، وقد كان يعيش في دمشق فعلا بهمته عما فيها من مغريات وجمال.
وهذا الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- يروي عنه الإمام ابن القاسم أنه كان يأتيه لطلب العلم قبل الفجر، فيجد منه انشراح الصدر، يقول: فتوسدت مرة في عتبته فغلبتني عيني، فنمت، وخرج مالك إلى المسجد فلم أشعر به، فركلتني سوداء له برجلها، وقالت لي: مولاك لا يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة أي العشاء.
وقد تحسر ابن الجوزي -رحمه الله- على قوم "يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا، إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة، وهي تجري وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الزمان، وتهيئوا للرحيل، فالله الله في مواسم العمر، والبدار البدار قبل الفوات، ونافسوا الزمان" انتهى كلامه رحمه الله.
فيا طلاب العلم: الله الله في أوقاتكم، فإنها ليست ملككم، ولكنها ملك أمتكم، فاستشعروا المسؤولية العظمى المناطة بأعناقكم، واعلموا أن الدقيقة التي ترحل من بين أيديكم لا تعود مرة أخرى، وهي خزانة من خزانة من خزائنكم يوم القيامة، فاملؤوها بالخير تجدوه (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 – 89]، فإنكم إن تذروها فارغة كانت على البعيد حسرة وندامة، وإن ملئت بالشر فيا فداحة الخسارة، ويا خزي الموقف؟!
لقد كان للنووي كل يوم اثنا عشر درسًا، وكان يقول: "وبارك الله في وقتي"، وكلنا نعلم كيف ألف خلال عمره القصير من المؤلفات المباركة؛ مما لا يكاد يخلو منه مسجد أو بيت مسلم؛ كالأربعين النووية، وشرح صحيح مسلم، ورياض الصالحين، ونحوها.
وكان ابن الجوزي يقول: "ولو قلت إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب".
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
بل (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90].
رب اغفر وارحم وأنت خير الغافرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أهل الثناء والمجد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه.
أيها الأحبة في الله: وإذ عرفنا أهمية الهمة العالية في الاستفادة من الزمان، والترقي في سلم المجد الأخروي والدنيوي، فإن السبيل لتنميتها والرقي بها أمر مطلوب، ويتأكد ذلك عند علماء الأمة ومفكريها ودعاتها ومعلميها، وأهل الاختصاص النافع فيها؛ كالطبيب والمهندس، وكل من في يده مهنة ينفع بها أمته وبلاده؛ وهذه جملة أمور تساعد على تطوير الهمم، بإذن الله -تعالى-:
أولاً: المجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69]، فالمجاهدة أولاً لتحصل الهداية.
وهل سيحصل الإنسان على مطلوب نفيس وهو متقاعس خامل، يكثر النوم والأكل والفسحة بين الملاهي.
ثانيًا: الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله -تعالى-، فهو المسؤول سبحانه أن يقوّي إرادتنا، ويعلي همتنا، ويرفع درجاتنا.
ثالثًا: اعتراف الشخص بقصور همته، وأنه قادر بإذن الله على أن يكون من أهل الهمة العالية، فالأمثلة التي ضُربت من قبل.. بشر من لحم ودم مثلنا.. ونستطيع أن نكون مثلهم.
رابعًا: قراءة سير السلف الصالح من أهل الجد والاجتهاد والهمة العالية، الذين صان الله بهم الدين، ففيهم القدوة الصالحة.
خامسًا: مصاحبة صاحب الهمة العالية؛ إذ كل قرين بالمقارن يقتدي، والنظر في أحواله وما هو عليه، وكيف يُختصر له الزمان اختصارًا.
ومن أسباب الحصول على الهمة العالية: الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يضيع الزمان، ويبعثر الهمم؛ كالإكثار من الزيارات بدون هدف مرموق، والانهماك في الدنيا وملذاتها، وكثرة التمتع بالمباحات والترف الزائد، والانصراف الكلي إلى الصوارف الأسرية التي لا تنتهي، فمرة يذهب بأهله إلى السوق، ومرة إلى التفسح، ومرة لقضاء الحوائج، ومرة لزيارة الأقارب والجيران، وهكذا دون وعي بأن هذه الأمور وإن كانت مباحة بل بعضها من الواجبات والصلات، ولكنها يجب أن تكون في حدود المعقول.
وهنا أحذّر أهل الهمم من أن يغتروا بكثرة المفرطين من الناس، وما يسمع عنهم من صرف الوقت كله فيما يقطع الحياة دون فائدة، و (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20].
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم آمنا في أوطاننا، واكفنا شر شرارنا، واحفظ ولاة أمورنا بشرعك، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق، وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك، حربًا على أعدائك.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات