عناصر الخطبة
1/ منزلة حديث: إنما الأعمال بالنيات 2/ شرح الحديث 3/ أهمية النية 4/ مفهوم النية 5/ بلوغ المعذورين مراتب العاملين بالنية الصادقة 6/ نية الاحتساب تحوِّل العادات الدنيوية لعباداتاهداف الخطبة
اقتباس
فعلى العبد أن ينوي نية كلية شاملة لأموره كلها قاصدًا بها وجه الله، والتقرب إليه، وطلب ثوابه، واحتساب أجره، والخوف من عقابه؛ ثم يستصحب هذه النية في كل فرد من أفراد أعماله وأقواله وجميع أحواله، وأن يكون في كل عمل حريصًا على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما ..
أيها الإخوة: حديث عظيم طالما درسناه وتدارسناه، وكلام جميل من كلام النبوة حفظناه في مدارسنا منذ نعومة أظفارنا وربما ما فقهناه؛ حديث تواتر نقله عن الأئمة الأعلام بعموم نفعه، وعظيم موقعه، قال عنه أبو عبيد -رحمه الله- وهو من كبار العلماء بالحديث والفقه والأدب: ليس في الأحاديث أجمع ولا أغنى ولا أنفع ولا أكثر فائدة منه؛ واتفق جمع من أهل العلم على أنه ثلث العلم، ومنهم من قال: ربعه.
هل عرفتموه أيها الإخوة؟! إنه الحديث الذي رواه عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه-: قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ ورَسُولِه، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ ورَسُوْلِهِ؛ ومَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
ولقد اتَّفقَ العُلماءُ على صحَّته وَتَلَقِّيهِ بالقَبولِ، وبه صدَّر البخاريُّ كتابَه الصَّحيح، وأقامه مقامَ الخُطبةِ له، إشارةً منه إلى أنَّ كلَّ عملٍ لا يُرادُ به وجه الله فهو باطل، لا ثمرةَ له في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ ولهذا قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ مهدي: "لو صنَّفتُ الأبوابَ، لجعلتُ حديثَ عمرَ في الأعمالِ بالنِّيَّةِ في كلّ بابٍ"، وقال أيضًا: "مَنْ أَرادَ أنْ يصنِّفَ كتاباً، فليبدأ بحديثِ: "إنما الأعمال بالنيات"
عن أبي عُبيدٍ قال: جَمَعَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جميعَ أمر الآخرةِ في كلمةٍ: "مَنْ أحدثَ في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وجمع أمرَ الدُّنيا كلَّه في كلمةٍ: "إنّما الأعمالُ بالنِّيات"؛ يدخلان في كل باب.
ووجْه البيهقي في كونه ثلث العلم بأنّ كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها وأرجحها؛ لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها محتاج إليها.
أيها الإخوة: لقد اهتم علماء الإسلام -على اختلاف فنون علومهم- بأمر النيات؛ وذلك لأهمية النية في الأخلاق والفقه والأصول والتوحيد، واعتنى بها شراح الحديث، ومفسرو القرآن.
ومما يدل على تعظيمهم لأمرها اعتناؤهم بهذا الحديث الذي يعتبر الأصل في موضوع النيات: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ".
أيها الأحبة: لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكى إلا العالِمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون؛ فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير صدق وتحقق هباء.
واعلموا أن على العبد أن يتعلم النية أولاً، ثم يصحح بها العمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص. قال النووي -رحمه الله-: "كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل". وقال آخر: "اطلب النية للعمل قبل العمل. وما دمت تنوي الخير فأنت بخير".
والنية -أيها الإخوة- القصد للعمل تقربًا إلى الله، وطلبًا لمرضاته وثوابه، فيدخل في هذا نية العمل، ونية المعمول له.
أما نية العمل: فلا تصح الطهارة بأنواعها ولا الصلاة والزكاة والصوم والحج وجميع العبادات إلا بقصد نيتها؛ فينوي تلك العبادة المعينة أولاً، ثم إذا كانت العبادة تحتوي على أجناس وأنواع نوى النوع، مثل الصلاة، منها ما هو فرض كالظهر والعصر فلا بد أن ينويه، ومنها النفل المعين والنفل المطلق، فالنفل المطلق يكفي فيه أن ينوي الصلاة، وأما النفل المعين كالوتر والراتبة فلا بد فيه مع نية الصلاة أن ينوي ذلك المعين؛ وهكذا بقية العبادات.
ولا بد أن يميز المسلم العادة عن العبادة؛ فمثلاً الاغتسال يقع نظافة وتبردًا، ويقع عن الحدث الأكبر وللجمعة ونحوها، ولكل امرئ ما نوى، ويمكن للمسلم أن ينوي الواجب والمسنون في عمل واحد، ويحصل له الأجران -إن شاء الله-.
أيها الإخوة: أما نية المعمول له فهو الإخلاص لله في كل ما يأتي العبدُ وما يذر، وفي كل ما يقول ويفعل؛ قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة:5]، وقال: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:3].
فعلى العبد أن ينوي نية كلية شاملة لأموره كلها قاصدًا بها وجه الله، والتقرب إليه، وطلب ثوابه، واحتساب أجره، والخوف من عقابه؛ ثم يستصحب هذه النية في كل فرد من أفراد أعماله وأقواله وجميع أحواله، وأن يكون في كل عمل حريصًا على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده من الرياء والسمعة وقصد المحمدة عند الخلق ورجاء تعظيمهم.
بل إن حصل شيء من ذلك فلا يجعله العبد قصده وغاية مراده؛ بل يكون القصدُ الأصيلُ منه وجهَ الله، وطلب ثوابه، من غير التفات للخلق، ولا رجاء لنفعهم أو مدحهم؛ فإن حصل شيء من ذلك دون قصد من العبد لم يضرّه، بل قد يكون من عاجل بشرى المؤمن.
أيها الإخوة: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"، أي: إن الأعمال لا تحصل ولا تكون إلا بالنية، وإن مدارها على النية.
ثم قال: "وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"، أي: إنها تكون حسب نية العبد من حيث صحتها وفسادها، وكمالها أو نقصانها، فمن نوى فعل الخير وقصد به المقاصد العليا وهي ما يقرب إلى الله فله الثواب والجزاء الكامل الأوفى، ومن نقصت نيته وقصده نقص ثوابه، ومن توجهت نيته إلى غير هذا المقصد الجليل فاته الخير وحصل على ما نوى من المقاصد الدنيئة الناقصة.
ولهذا ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلاً ليقاس عليه جميع الأمور فقال: "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ ورَسُولِه فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ ورَسُوْلِهِ"، أي: حصل له ما نوى ووقع أجره على الله، "ومَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"، وخص في هذا المثال المرأة التي يتزوجها بعدما عمم جميع الأمور الدنيوية لبيان أن جميع ذلك غايات دنيئة ومقاصد غير نافعة.
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وقد اشتهرَ أنَّ قصَّةَ مُهاجر أمِّ قيسٍ كانت سببَ قولِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ كانت هجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها أو امرأةٍ ينكِحُها"، وذكر ذلك كثيرٌ من المتأخِّرين في كُتُبهم، ولم نر لذلك أصلاً بإسنادٍ يصحُّ، والله أعلم.
جعلني الله وإياكم من المخلصين بالقول والعمل إنه جواد كريم...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: والأعمال إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العامل من الإيمان والإخلاص، حتى إن صاحب النية الصادقة -وخصوصًا إذا اقترن بها ما يقدر عليه من العمل- يلتحق صاحبها بالعامل، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:100].
وفي الصحيح مرفوعًا: "إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا".
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالاً مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ؛ حَبَسَهُمْ الْمَرَضُ". رواه مسلم، وفي رواية: "حبسهم العذر".
أيها الإخوة: وإذا هَمَّ العبد بالخير ثم لم يقدر على العمل كتبت له همته ونيته حسنة كاملة، والإحسان للخلق بالمال والقول والفعل خير وأجر وثواب عند الله؛ ولكنه يعظم ثوابه بالنية، قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ -أي: فإنه خير- وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]؛ فرتب الأجر العظيم على فعل ذلك ابتغاء مرضاته.
وفي البخاري مرفوعا: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ".
فانظر كيف جعل النية الصالحة سببًا قويًّا للرزق وأداء الله عنه، وجعل النية السيئة سببًا للتلف والإتلاف!
أيها الإخوة: وكذلك تجري النية في المباحات والأمور الدنيوية، فإن قصد بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية الاستعانة بذلك على القيام بحق الله وقيامه بالواجبات والمستحبات واستصحب هذه النية الصالحة في أكله وشربه ونومه وراحته ومكاسبه انقلبت عاداته إلى عبادات، وبارك الله للعبد في أعماله، وفتح له من أبواب الخير والرزق أمورًا لا يحتسبها ولا تخطر له على بال.
ومن فاتته هذه النية الصالحة لجهله أو تهاونه، فلا يلومن إلا نفسه، وفي الحديث الصحيح: "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعله في في امرأتك". أي فمها.
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-: وليجاهد نفسه على ذلك. أي: على استصحاب النية الصادقة. فإنه لا يزال يمرنها حتى تألف الخير وترغب به، فإذا ذهب إلى دكانه نوى مباشرة البيع والشراء المباح، وقصد الصدق والنصح في بيعه وشرائه، وفعل ما يسهل عليه من محاباة وإحسان إلى مَن يعامله، وتجنب الغش بكل أنواعه، ونوى بذلك كله قوام نفسه وعائلته ومَن له حق عليه، وسأل ربه أن يبارك له في معاملته.
وكذلك إذا باشر حرثه أو صناعته أو مهنته التي يتعاطها فليستصحب النية الصادقة، وليستعن بربه في حركاته كلها، ويرجو رزقه وبركته؛ فإن الرجاء وانتظار الفضل من الله من أجلّ عبادات القلب، وأكبر الأسباب للبركة هذه النية الصادقة، والصدق والتوكل على الله.
وبعد:
أيها الإخوة: علم بهذا أن هذا الحديث جامع لأمور الخير كلها، فحقيق بالمؤمن الذي يريد نجاة نفسه ونفعها أن يفهم معنى هذا الحديث، وأن يكون العمل به نصب عينيه في جميع أحواله وأوقاته.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من العاملين به؛ إنه جواد كريم.
التعليقات