د. محمد بن سعد الشويعر
خلق الله الموت والحياة، ليبلو عباده أيهم أحسن عملاً {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (37) سورة الأنفال. فجعل الحياة مزرعة للعمل: فإن كان خيراً جُني خيراً، وإلا هلك المرء وما جنى إلا على نفسه، يقول عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
وقد حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على التوقّي من النفاق، كما حصل من حذيفة رضي الله عنه، لأن النفاق داء عضال، ومرض يتأصل في القلوب، ولا شفاء منه، إلا بالإيمان الحقيقي، ومحاسبة النفس، يقول سبحانه عن المنافقين: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً} (10) سورة البقرة، وقد ورد مرض القلب في كتاب الله (12) مرة، فيها تأصيل النفاق، لندرك من هذا أن القلب يمرض، ويموت رغم أن صاحبه حي يرزق، وهذا المرض على حالتين:
مرض حسي وهو ما ندركه في حياتنا اليومية، وفي أخبار البشر في كل مكان، حيث توفرت المستشفيات ومراكز البحث، بل خصصت مستشفيات لعلاج هذه الأمراض، ومنها ما كان مستعصياً من قبل: كتصلب الشرايين، وثقب الحاجز، وتلف الصمام، وغيرها من أمور يجدها من يتتبع الأخبار والنتائج الطبية في الكتب والمجلات المتخصصة، وقد مكّن الله الأطباء بما وهبهم من علم وفهم، إلى نتيجة تعتبر من معجزات الطب هذا الزمان، وذلك بزراعة قلب مكان قلب، واستبدال قلب إنسان مريض تالف، حتى لو كان أميّا بقلب إنسان مات حديثا في حادث أو مرض، وبقي القلب سليماً، فيبقى التفكير واستذكار المعلومات عند من زُرع القلب المغاير له، كحالتها الأولى لدى هذا المريض، بدون تبدّل.
أما المرض الآخر، فهو مرض معنوي، ولكنه أشد خطراً، وأعمق فساداً في نتائجه على الإنسان، وأضرّ على المجتمع، إنه مرض القلب، ومن شواهده قول الشاعر:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثّعلب
ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم علامات تدل على صاحبه: (إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر) فمرض القلب ألم معنوي يحصل فيه، كالغيظ من نعمة جاءتك من الله، وسعي في إزالة هذه النعمة، والتمني بأن يصيبك أو يحل بالمجتمع، ما يسرّه ويسوء الآخرين، أو أشد من ذلك أن يكون هذا على الدين وأهله. فإن حصول المصائب للآخرين إذا كنت تتأمل فيها، وكل حريص على دينه، فإنها عند المنافق نعمة كبيرة تفرح أعداء دين الله، وقد رسم الإسلام طريقاً يُعرف به، ووضع منهجاً يدل على المنافق وصفاته وأعماله. إذ نزلت سورة تتلى إلى يوم القيامة باسم المنافقين، ونزلت سورة تفضح أعمالهم، سمّاها بعض المفسرين الناضحة، إنها سورة التوبة وتكررت آيات كريمات، تحذر من أعمالهم، وتوضح عِظم عقابهم عند الله في القرآن الكريم، وصفات بينها رسول الله.
فكان من المعالجة ما ذكره الله: {يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} (14) سورة التوبة. فيتم شفاء المؤمنين من الألم، ويقال: فلان شفى غيظه، مثلما في القود وتنفيذ الحدود شفاء للأولياء، ولمن ذاق قلبه ألم المصيبة، إذ في ألم المصاب بالجريمة شفاء من الغم والغيظ والحزن، ومن كل ما يؤثر في القلب. كما أن الشك مرض لا يزيله إلا حصول اليقين، ومثله الجاهل حتى يحصّل العلم، وقد عالج رسول الله الجهل بقوله: (هلاّ سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال)، رواه أحمد وأبوداود، ومن هذا التوجيه يقال للعالم، الذي يجيب بما يجلّي الحقيقة: لقد شفاني بجوابه. وأمراض القلوب المعنوية كثيرة، وعلاجها في صيدلية الإسلام: إيماناً ودعاء وحسن استجابة، ورضاء بقدر الله، وبالوصفات الشرعية في دين الله: قرآناً يتلى وسنة تتبع وقدوة صالحة تحتذى.
وفي هذا يمكن معرفة ما يطرأ على القلب، بميزان الخير والشر، فمن أحب الباطل الضار، فهو مريض قلبه، كما قال الإمام أحمد رحمه الله لمن سأله: (لو صَحَحْتَ لم تخف أحداً). أي إن خوفك من مرض فيك كمرض النفاق والشرك والذنوب.
والنفاق مرض لأن القلب يعمى عن الحق، ويجعل صاحبه يعمل في الإضرار والإفساد، والإساءة لمن ينتمي للإسلام، والظلم بأنواعه الثلاثة من أمراض القلوب.
وضعف الإيمان بالاتجاه إلى المعصية، مرض قلبي، وهكذا سائر الأمور المباعدة عن المنهج التي تحث عليها تعالم الإسلام: كالعقوق للوالدين، وقطيعة الرحم وتعمد الحلف كاذباً، وأكل مال اليتيم وغير ذلك من المعاصي كلها من مرض القلوب الذي هو شر.
والإسلام يحث على تنمية الخير، ويحث على البر والإحسان، والصدقة لأن أعمال الخير تقوي الإيمان. وتزيل عن النفوس شكوكها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في رسالته: أمراض القلوب وشفاؤها: والمرض دون الموت، فالقلب يموت بالجهل المطلق، ويمرض بنوع من الجهل، فله موت ومرض وحياة وشفاء، وحياته وموته وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته، ومرضه وشفائه، فلهذا مرض القلب، إذا ورد عليه شبهة أو شهوة، قوّت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه، قال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} (53) سورة الحج.
لأن ذلك أورث شبهة عندهم، والقاسية قلوبهم، لبسها فأولئك قلوبهم قاسية عن الإيمان، فصار فتنة لهم. (أمراض القلوب وشفاها لابن تيمية ص15-16).
وإذا كان كثير منا لا يعرف أثر العلاج الطبي، وتفاعل كل دواء مع المرض الموصوف له في أجسامنا، إلا بما يوضحه الأطباء المختصون، نتيجة لما توصلوا إليه بالمران والتجربة، ودراسة الخصائص والتركيبات. ولا نعرف طريقة تحلل الغذاء في الجسم البشري، وتوزع مركّباته وفائدة كل جزء في الجسم منه، من مكونات كل نوع من هذا الغذاء، ولا كيف يتحلل وكيفية اتجاه كل جزئية صغيرة منه، إلى المكان المخصص لها في هذا الجسم بدقة وإحكام، إلا بما يقوله المخبريّون والمحللون، والعارفون بالخصائص الدقيقة لهذا الغذاء، وأثره في تكوين خلايا وأنسجة الجسم، فسبحان القائل: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (50) سورة طـه.
لأن هؤلاء وأولئك، هم الذين جنّدوا أنفسهم في اتجاههم العلمي، والعملي في هذه الحياة إلى متابعة النواحي المادية في الجسم، حيث يولونها جهدهم، وبالتتبع تبرز أمامهم النتائج ويستعملون في ذلك أجهزة ومعادلات ومركّبات، تحليلها يزيدهم تحققاً من النتيجة، التي سعوا إليها، وقد يتخلل تلك الأعمال بعض الأخطاء والتجاوزات، لأن العصمة لله سبحانه.
إذا كان هذا بارزاً أمامناً، بما يعطينا أصحاب التخصص المادي، ونصدقهم رغم أننا ما لمسناه بأيدينا، أو ظهرت لنا جزئياته عياناً، فإن الأثر العلاجي من أمراض القلوب، وأدواء النفوس المعنوية، ندرك حقيقته بما جاء في النصوص الشرعية، التي لا يتطرق إليها الشك، ولا تحتمل الأخطاء، ثم بما يشرحه لنا الثقاة من العلماء الذين أنار الله قلوبهم، وفتح على العلم بصائرهم، لأنهم يدركون الأثر ويصفون العلاج.. ألا ترى أن الإنسان، إذا مر به أزمات نفسية، أو مشكلة من المشكلات ثم توضأ وصلى ركعتين وفتح المصحف ليتلو ما تيسر له من كتاب الله، كيف ينشرح صدره ويجف وقع الأزمة عليه، ويهونها الله عليه، وبالتأمل والدعاء وذكر الله كذلك والمواساة فيما بين الناس، ولذا شُرعت التعزية، ذلك أن من أكثر من ذكر ودعاء كيف يطمئن قلبه، وتخف الأزمة عنده، ويهون وقعها مصداقاً لقوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28) سورة الرعد. وأن وقع المصيبة بفقدان شخص غالٍ يخف وطأه بالذكر والمواساة من المعزين وغير ذلك مما يستحضر الإنسان نتائجه في نفسه من حقيقة تعاليم الإسلام: صبراً وتأسياً واحتساباً.
وفي تاريخ الإسلام وتعاليمه، نجد ناساً أعطاهم الله إدراكاً وبصيرة فعرفوا أسرار القلوب، وطريق علاجها، مثلما نلمس في كل عصر ومصر، مهارة الأطباء في اختصاصات معينة.
ومن علماء الإسلام المبرزين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصحابة الكرام، وخيار التابعين، ومن تبعهم بإحسان كالإمام أحمد والإمام الشافعي، ومالك وأبي حنيفة، والثوري والأوزاعي وابن تيمية وغيرهم كثير.
نسأل الله أن يشفي قلوب المؤمنين، وينير قلوب غير المسلمين، ليخرجوا من ظلمات الشرك، إلى نور دين الله الحق، فهو القادر على كل شيء، إذ تطمئن القلوب، وترتاح النفس بقوة الإيمان، وتفهّم آيات الله سبحانه التي بانت في القرآن الكريم لأنه يريح القلوب {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}.
التعليقات