النفاق العملي (مخالفة الأفعال للأقوال)

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2023-07-10 - 1444/12/22
التصنيفات:

 

د. طه فارس

 

النِّفاق في اللغة: فعل المنافق، وهو مصطلح إسلامي لم تعرفه العربُ بالمعنى المخصوص به، وإن كان أصله في اللغة معروفًا، يُقال: نافَقَ يُنافِق مُنافقة ونِفاقًا، إذا أظهر الإسلامَ لأهله وأضمر غير الإسلام وأتاه مع أهله، وهو يدلُّ على إخفاء شيء وإغماضه؛ لأنَّ المُنافق يُظهِر خلافَ ما يخفي في سِرِّهِ، والنِّفاقُ: هو الدُّخول في الإسلام من وَجْه والخروُج عنه من آخر، والمنافق: هو الذي يَسْترُ كُفْرَه ويظهر إيمانَه[1].

 

أمَّا في الاصطلاح، فهو إظهار الإيمان باللسان وكتمان الكفر بالقلب[2]؛ وهذا هو النفاق الاعتقادي، وأمَّا إن تخلَّق بخُلُق من أخلاق أهل النِّفاق، أو فعلَ فعلًا من أفعالهم، دون أن يبطن كفرًا، فإنَّ نفاقه يكون نفاق عمل، لا نفاق اعتقاد، ولا يُقَال له: مُنافق في الإسلام[3].

 

ومن صفات أهل النفاق العملي: الكذب، إخلاف الوعد، خيانة الأمانة، الغَدر، الفجور في الخصومة، بذاءة اللسان، وغير ذلك من صفات أهل النفاق.

 

ومخالفة الأفعال للأقوال أمرٌ يبغضه الله تعالى ويمقته أشدَّ المقت، وهو صورة من صور النفاق العملي، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف:2-3]؛ أي: عَظُمَ ذلك في المَقْت والبغض عند الله؛ أي: إنَّ الله يبغض بغضًا شديدًا أن تقولوا مَا لا تَفْعَلون؛ وذلك بأن تَعِدوا من أنفسكم شيئًا، ثمَّ لم توفوا به[4]، ففي الآية ضرب من التعجُّب والاستعظام[5].

 

والمقت: هو البغض الشَّديد، وهو هنا بمعنى اسم المفعول، والتقدير: كبر ممقوتًا قَولُكم ما لا تفعلونه[6]، وفي الآية مذمَّة المخالفين في القتال، وهم الذين وعَدوا بالقتال ولم يقاتِلوا[7]، إلَّا أنَّ العبرة بعموم لفظها.

 

وعن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبدالله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل تعالى: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: ١، ٢]، قال عبدالله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سلام، قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة، قال ابن كثير: فقرأها علينا الأوزاعي، قال عبدالله: فقرأها علينا ابن كثير[8].

 

وهي تشبه بالمعنى قولَه تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: ٤٤]؛ أي: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر - وهو جِماع الخير - أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون النَّاس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتَعلمون ما فيه على من قَصَّر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتَنتَبِهوا من رَقدتكم، وتَتَبَصَّروا من عمايتكم[9].

وممَّا لا يُنكر أنَّه يقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخَير وهو لا يأتيه، أو ينهى عن سوء وهو يفعله[10].

 

قال الفخر الرازي: وسبب التعجُّب وجوه:

الأول: أنَّ المقصود من الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عمَّا يوقعه في المفسدة، والإحسان إلى النفس أَولى من الإحسان إلى الغير، وذلك معلوم بشواهد العقل والنَّقل، فمَن وعظ ولم يتَّعظ، فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل.

الثاني: أنَّ من وعظ النَّاس وأظهر علمَه للخلق ثمَّ لم يتَّعظ، صار ذلك الوعظ سببًا لرغبة النَّاس في المعصية؛ لأنَّ الناس يقولون: إنَّه مع هذا العلم لولا أنَّه مطلع على أنَّه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية، فيصير هذا داعيًا لهم إلى التَّهاون بالدِّين والجراءة على المعصية، فإذا كان غرض الواعِظ الزجر عن المعصية ثمَّ أتى بفعل يُوجِب الجَراءة على المعصية، فكأنَّه جمع بين المتناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء.

الثالث: أنَّ من وَعظَ، فلا بدَّ وأن يجتهد في أن يصير وعظُه نافذًا في القلوب، والإقدام على المعصية ممَّا ينفِّرُ القلوب عن القبول، فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء، ولهذا قال علي رضي الله عنه: "قصم ظهري رجلان: عالم مُتَهتِّك، وجاهل مُتَنَسِّك"[11].

 

قال بلال بن سعد: "المنافق: يقول ما يُعْرَف، ويعمل ما يُنْكَر"[12]، وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إنَّ النَّاسَ قد أحسنوا القولَ، فمن وَافَق قولَه فعلُه، فذاك الذي أصابَ حظَّه، ومن خالف قولَه فعلُه، فذاك إنَّما يوبِّخُ نفسَه"[13].

 

من أعمال أهل النِّفاق العملي:

قد رُويت عِدَّة أحاديث تذكر جملة من صِفات أهل النِّفاق، من ذلك: الكذب في الحديث، والخلف في الوعد، وخيانة الأمانة، ونقض العهد، والغدر، والفجور في الخصومة، والجدال بالباطل، والتلون والتردُّد، والتخشع الكاذب في العبادة:

• فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رَسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آيةُ المُنافقِ ثلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعدَ أخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))[14]، وفي رواية لمسلم: ((وَإنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أنَّهُ مُسْلِمٌ)).

 

• وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيه، كَان مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيه خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))[15].

 

• وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ أخوفَ مَا أخافُ على أمَّتي كل منافقٍ عليم اللسان))[16].

 

• ومثله عنْ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أخْوَفُ مَا أخَافُ عَلَيْكُمْ جِدالُ مُنَافِقٍ عَليم اللِّسان))[17].

 

• وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثَل المنافقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ العَائِرَة بينَ الغَنَمين، تعيرُ[18] إلى هذه مَرَّةً وإلى هذه مَرَّةً))[19]، والعائرة: المترددة الحائرة لا تَدري أيهما تتبع، فشبَّه تردُّدَ المنافق بين الطائفتين من المؤمنين والمشركين تبعًا لهواه، وقصدًا لغرضه الفاسد، وميلًا إلى ما يبتغيه من شهواته - بتردد الشاة العائرة، وهي تطلب الفحل فتتردد بين الثلَّتين، فلا تستقر على حال، ولا تثبت مع إحدى الطائفتين[20]، وكما قال الله تعالى في وصف المنافقين: ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾ [النساء: ١٤٣].

 

• عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ شَرَّ النَّاس ذُو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوَجهٍ))[21].

 

• عن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه أنَّه قال: "تَعَوَّذُوا بِالله مِن خُشُوعِ النِّفَاق"، قال: قيل: يا أبا الدَّرْدَاء، وَمَا خُشُوعُ النِّفَاق؟ قال: "أَنْ تَرَى الْجَسَدَ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعٍ"[22].

 

قال الإمام النووي: "أجمع العلماء على أنَّ من كان مصدِّقًا بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال - لا يُحكم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النَّار، فالذي قاله المحقِّقُون والأكثرون، وهو الصحيح المختار: أنَّ معناه: أن هذه الخصال خِصال نفاق، وصاحبها شَبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومُتَخلِّق بأخلاقهم؛ فإنَّ النِّفاق هو إظهار ما يبطن خلافَه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حقِّ مَن حدَّثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من النَّاس، لا أنَّه مُنافق في الإسلام"[23].

 

عقوبة أهل النفاق العملي:

1- كراهة إطلاق لقب السيادة عليهم:

فعن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَقُولُوا لِلْمُنَافِق: سَيِّدٌ؛ فَإنَّهُ إنْ يَكُ سَيِّدًا، فَقَدْ أسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عزَّ وجلَّ))[24]؛ أي: أغضبتموه لأنَّه يكون تعظيمًا له، وهو ممَّن لا يستحق التعظيم، فكيف إن لم يكن سيدًا بأحد من المعاني، فإنَّه يكون مع ذلك كذبًا ونفاقًا[25].

قال النووي: إن كان فاسقًا، أو متهمًا في دينه، أو نحو ذلك، كُره له أن يقال: سيِّد[26].

 

2- تُقرَض شفاههم يوم القيامة بمقارض من نار:

عن أنس بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى رِجَالٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُم بِمَقَارِيضَ مِن نَارٍ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟))[27].

 

3- يعذَّبون في نار جهنم وتندلق أحشاؤهم فيدورون حولها كما يدور الحمار في الرَّحى:

عن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُؤتى بالرجل يومَ القيامة فيُلقى في النار، فتَندلِق أقتابُ بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرَّحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكُ تأمر بالمعروف وتَنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنتُ آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه))[28].

قوله: ((فتَندلِق أقتاب بطنه))؛ أي: تَخرج أمعاؤه من جوفه، فيدور ذلك الرجل حول أمعائه كما يدور الحمار في الرَّحى، فتلتف عليه أمعاؤه، ويبقى هكذا يدور وهي تدور عليه عبرة ونكالًا[29].

[1] انظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 454، 455)، مفردات ألفاظ القرآن؛ للراغب (2/ 448)، لسان العرب (10/ 357) مادة: نفق، المصباح المنير ص (311).

[2] انظر: مفردات ألفاظ القرآن (2/ 448)، التعريفات ص (311).

[3] انظر: شرح صحيح مسلم (11/ 58، 59).

[4] انظر: تفسير البغوي (8/ 108).

[5] انظر: تفسير ابن عجيبة (6/ 464).

[6] انظر: تفسير التحرير والتنوير (28/ 175).

[7] انظر: تفسير الرازي (29/ 528).

[8] أخرجه الترمذي برقم 3309، والحاكم في المستدرك (2/ 248)، برقم 2899، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

[9] تفسير ابن كثير (1/ 246).

[10] البحر المحيط؛ لأبي حيان (1/ 339).

[11] انظر: تفسير الرازي (3/ 485)، مع بعض التصرف.

[12] جامع العلوم والحكم، ص (433).

[13] الفوائد، ص (147).

[14] أخرجه البخاري في الإيمان برقم 33، ومسلم في الإيمان برقم 59.

[15] أخرجه البخاري في الإيمان (3/ 1160)، برقم 3007، ومسلم في الإيمان (1/ 78)، برقم 58.

[16] أخرجه أحمد في المسند (1/ 22)، برقم 143، وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 445)، برقم 886، وقال: رواه البزار وأحمد وأبو يعلى، ورجاله موثقون.

[17] أخرجه الطبراني في الكبير (18/ 237)، برقم 15303، وابن حبان في صحيحه (1/ 281)، برقم 80، وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 445)، برقم 885، وقال: رواه الطبراني في الكبير والبزار، ورجاله رجال الصحيح.

[18] تعير: تتردد وتذهب.

[19] أخرجه مسلم، برقم 2784.

[20] انظر: شرح المشكاة للطيبي (2/ 510).

[21] أخرجه البخاري، برقم 6757، ومسلم، برقم 2526.

[22] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (14/ 59)، برقم 36861.

[23] شرح صحيح مسلم (11/ 58، 59).

[24] أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ص (267)، برقم 760، وأبو داود، برقم 4977، وقد ذكر النووي في رياض الصالحين أن إسناده صحيح.

[25] عون المعبود (13/ 221).

[26] الأذكار للنووي، ص (559)، وانظر: الفتاوى الحديثية؛ لابن حجر الهيتمي، ص (100).

[27] أخرجه أحمد في المسند (3/ 120)، برقم 12232، وابن أبي شيبة في مصنفه (14/ 308)، برقم 37731، وأبو يعلى في المسند (7/ 69)، برقم 3992، والطبراني في الأوسط (8/ 144)، برقم 8223، وابن حبان في صحيحه (1/ 249)، برقم 53، وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 542)، برقم 12182، وقال: رواها كلها أبو يعلى والبزار ببعضها والطبراني في الأوسط، وأحد أسانيد أبي يعلى رجاله رجال الصحيح.

[28] أخرجه مسلم، برقم 2989.

[29] انظر: دليل الفالحين؛ لابن علان (2/ 193).

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life