النِفاق.

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2023-07-13 - 1444/12/25
التصنيفات:

 

 

الدكتور محمد راتب النابلسي

 

ولماذا كانَ هذا الموضوع؟

 هناكَ أسباب وجيهةٌ وخطيرةٌ تدعو إلى معرفة هذا المرض الخطير الذي يصيب المؤمنين، ولا أدلَّ على خطورة هذا الموضوع، من أنَّ سيدنا عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه قال لحذيفةَ بن اليمان رضي الله عنه: يا حذيفة، ناشدتك بالله، هل سماني لكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم - أي من المنافقين -؟ قالَ: لا ولا أُزكّي بعدكَ أحداً، ولا أدلَّ على خطورةِ هذا الموضوع، من أنَّ الحسنَ البصري رضي الله عنه قال: ما أمِنَ النِفاقَ إلا مُنافق، وما خافَ النفاقَ إلا مؤمن، فيجب أن نعرفَ هذا المرض الخطير الذي يصيب المؤمنين.

 

 أيها الأخوة الأكارم ؛ النِفاقُ داءٌ عُضالٌ باطن، ومعنى باطن: أنه قد يكون مستشريّاً في نفس المؤمن وهو لا يدري، فمن كانَ مطمئناً من هذا المرض ربما كانَ منافقاً، قد يمتلئُ منه الرجل وهو لا يشعر، فإنه أمرٌ خَفي على الناس، وكثيراً ما يخَفى على من تلبسَّ به، فيزعم أنه مصلح، وهو في الحقيقة مُفسد، أحدنا إذا كان يخاف على سلامة إيمانه، إذا كانَ يخاف على مكانته عِندَ ربه، إذا كانَ يخشى الله واليومَ الآخر، إذا كانَ يخشى أن يُحبطَ الله عمله، إذا كانَ يخشى أن يكونَ له صورة وله حقيقةٌ أخرى لا يرضاها الله عزّ وجل، فليُدقق في هذا الدرس.

 

أنواع النفاق:

 

 العلماء قالوا النِفاق نوعان: نوعٌ أكبر ونوعٌ أصغر.

 

 النوع الأكبر: يوجِبُ الخلودَ في النار في دركها الأسفل، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾[سورة النساء الآية: 145]

 

 المشكلة: المنافق يصلي مع الناس، ويصوم مع الناس، وله زيٌّ إسلامي، ويحضر جماعاتهم.

 فالنوع الأكبر: يُوجب الخلودَ في النار في دركها الأسفل.

 لأنَّ المنافقَ هذا يُظهر للمسلمين ؛ إيمانه بالله، وإيمانه بالملائكة، وبالكتب، وبالرسل، وباليوم الآخر، وهو في الباطن مُنسلخٌ من ذلك كله، لا يؤمن بأنَّ الله تكلّمَ بكلامٍ أنزله على بشر، يهديهم بإذنه، ويُنذرهم بأسه، ويُخوّفهم عِقابه، هذا الإنسان المُنافق هَتكَ الله سِترهُ وكشفَ سِرّه، وجلّى لعباده أمره، ليكون الناسُ منه على حذر.

 وذكر الله سبحانه وتعالى كما تعلمون في القرآن الكريم، وفي مطلع سورة البقرة أربعَ آياتٍ تتعلق بالمؤمنين.

 أصناف العالمين أصنافٌ ثلاثة ؛ مؤمنٌ وكافرٌ ومنافق.

 فالمؤمنون خصّهم بأربع آيات:﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[سورة البقرة الاية: 1-5]

 والكفار خصّهم بآيتين:﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[سورة البقرة الآية: 6-7]

 

 وأما المنافقون: فتحدثَ عنهم في ثلاث عشرة آية لخطورتهم، ولاستشراء النِفاق في صفوف المؤمنين.

 لذلك المؤمن القضية سهلة، مؤمن، مستقيم، عقيدته صحيحة، مخلص، مُقبل، مُنيب، مُحب، ورع.

 والكافر لا يستحي بكفره من كلامه، من تعبيراته، من حركاته، من سكناته.

 فأنتَ تعرفُ المؤمن وتعرفُ الكافر، ولكن هذا الشخص الثالث الذي يُظهر لكَ من الإيمان ما فيه الكفاية وهو مُنافق، قال: هذا النوع الثالث هو النوع الخطر.

 الله سبحانه وتعالى خصّه بثلاث عشرة آية لكثرتهم، لكثرة المنافقين، ولِعموم الابتلاء بهم، وشِدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإنَّ بليّة الإسلام بهم، والذي يقوله الناس دائماً: أخشى ما نخشاه على الإسلام لا من أعدائه بل من أدعيائه المنافقين، لأنَّ هؤلاء المنافقين يفجرونه من داخله، إذا هاجمه أعداء الدين، أخذَ المؤمنون الحيطة، ولكنَّ المنافقين في صفوف المؤمنين، بينهم، في مساجدهم، معهم، في أعمالهم.

 

 قال: فكم من معقلٍ للإسلام قد هدموه؟ وكم من حِصنٍ له قد قلعوا أساسه وخرّبوه؟ وكم من عَلمٍ قد طمسوه؟ وكم من لواءٍ له مرفوعٍ قد وضعوه؟ وكم ضربوا أساسه بالمعاول فهدّموه؟ لذلك ربنا عزّ وجل قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾[سورة البقرة الآية: 11-12]

 

﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[سورة الصف الآية: 8]

 

 أربع آياتٍ للمؤمنين، آيتان للكفار، ثلاث عشرة آية للمنافقين لكثرتهم، ولخطورتهم، ولإفسادهم، ولانحرافهم، ولأنَّ الناسَ قد يَلبَسُ عليهم أمرهم.

 

من صفات المنافقين:

 

1-مفارقة الوحي:

 

 أول صِفة من صفات المنافقين، قال: اتفقَ المنافقونَ على مفارقة الوحي، كلام الله عزّ وجل عِندَ المؤمنين له شأنٌ عظيم، بينما كلام الله عزّ وجل عِندَ المنافق، يتحرك في الحياة لا وفقَ كلام الله بل وفقَ هواه، ما أمرَ الله به، ما نهى عنه، ما وضحهُ، ما بينّهُ، ما سَنّهُ، تراه ينطلق من مصالحهِ، من ثقافته أحياناً، من طموحاته غير المشروعة، ولا يعبأ بكلام اللهِ، ولا بحدوده، ولا بأوامره، ولا بنواهيه، ربنا عزّ وجل وصفهم فقال:

 

﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾[سورة المؤمنون الآية: 53]

 

 عِندهم آراء، وعقائد، ومواقف، وتنظيمات لا تمت للدين بصِلة، ﴿كلُّ حِزبٍ بما لديهم فرحون﴾ هؤلاءِ هم المنافقون.

 

2- يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا:

 وأيضاً: يوحي بعضهم إلى بعضٍ زُخرفَ القولِ غروراً، والذي يجمعهم جميعاً: أنهم اتخذوا هذا القرآن مهجوراً، قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[سورة البقرة الآية: 221]

 

 فإذا طرقَ بابه خُطّابٌ كثيرون، يختار الغني ولا يعبأ بالمؤمن، إذاً: قال الله عزّ وجل:﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾[سورة البقرة الآية: 276]

 

 لا يُبالي بهذه الآية، يأكل الرِبا ويوكِله، هذا هو النِفاق، لعلكَ تراه يصلي، لعلكَ تراه يصوم، لا قيمة لهذه الصلاة ولا لهذا الصيام.

 اتخذوا هذا القرآن مهجوراً؛ ما هجرَ تِلاوته، ولكن هجرَ تطبيق أحكامه، ما جعله في حياته، جعله وراء ظهره، جعله خارج اهتمامه، فالإنسان الذي لا يعبأ بكلام الله، ولا يتخذه دستوراً، ولا ينطلق في حياته من أحكامه، فهذا منافقٌ منافقٌ منافقٌ.

 

3-صم بكم عمي فهم لا يرجعون:

 

 صِفةٌ أخرى من صفات المنافقين: قالَ الله عزّ وجل:﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾[سورة البقرة الآية: 18]

 

 عيناه لا تريه آيات الله عزّ وجل، تريه مباهج الدنيا، عينه تلتقط المباهج، الزخارف، المٌتع، المال، ما فيها من زينة، أما أن تلتقط عينه آيات الله الدالة على عظمته، ليسَ هذا من صفات المنافق: ﴿صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون﴾

 إن ألقيتَ عليه الموعظة كانَ كالأصم، إن تكلّمَ تكلّمَ بالدنيا، لسانه يتلعثمَ في ذِكر الله، لا يذكر الله إلا قليلاً، يذكر الدنيا، إذا ألقيت عليه حديثاً عن الله عزّ وجل تململ وتثاءب، وقال: دعكَ من هذا الحديث، أما إذا ألقيت عليه حديث الدنيا، أصغت أذناه، وبرقت عيناه، وتألّقَ، ربنا عز وجل.

 قال: صمٌ بكمٌ عميٌ؛ أصمّ عن سماع الحق، أبكم عن أن يذكروا الله عزّ وجل، عمي عن آيات الله الكونية، فهم لا يرجعون إلى الله عزّ وجل، أتلفت قلوبهم الشبهات والشهوات.

 يا أخي ما قولك في إيداع المال في مصارف أجنبية؟ هناك من أفتى بهذا، هذا شُغله الشاغل، ما قولك بهذا الكتاب؟ قراءات معاصرة، هذا شغله الشاغل، ما قولك بهذه الفتوى للعالم الفلاني بجواز أكل الرِبا بنسبٍ قليلةٍ؟ أتلفَ قلبه الشبهات والشهوات، وغَلَبت نواياهم السيئة على مقاصدهم الحسنة، فكأنه كما قال الله عزّ وجل: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾[سورة البقرة الآية: 10]

 

 الأمراض التي في قلوبهم انقلبت إلى أعمال، فكيف يزداد المرضُ مرضاً إذا استحكمَ في النفسِ وانقلبَ إلى سلوك؟.

 

4-الرياء:

 

 لهم علامات يُعرفون بها، باديةٌ لمن تدبرها، من أوضحها الرياء، وهو أقبحُ مقامٍ يقفه الإنسان، الازدواجية، لهم ظاهر ولهم باطن، لهم موقف مٌعلن، ولهم موقف حقيقي، لهم عبادةٌ يعبدون الله بها في بيوتهم، ولهم عبادة يعبدون الله بها أمام الناس، أساس مواقفهم الرياء، وقعدَ بهم الكسلُ عمّا أُمروا من أوامر، فأصبح الإخلاص عليهم ثقيلاً.

 كيفَ وصفهم الله عزّ وجل؟ قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾[سورة النساء الآية: 142]

 

 درسنا الآن:

 بعض الآيات التي تصف المنافقين، هذا كلام الله عزّ وجل، فإذا الإنسان بريء من هذه الأوصاف، فأنعم به وأكرم، وليحمد الله عزّ وجل، ونرجو الله جميعاً أن نكونَ ممن نجاهم الله من النِفاق، وإن كانَ متلبّساً ببعض الصفات والقلب ينبض، إذاً: المجال مفتوح، باب التوبة مفتوح، باب الإخلاص مفتوح، باب الإصلاح مفتوح.

 

 الصِفة الرابعة: أنهم يراؤون الناس، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى.

 

5-التذبذب والحيرة:

 

 من صفات المنافقين: التذبذب والحيرة، مع هؤلاء أم مع هؤلاء؟ مع رفاق السوء أم مع المؤمنين؟ مع دورِ العِبادة أم مع دورِ اللهو؟ لا يسخو لا بهذا ولا بذاك:

 

﴿في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً﴾

 قالَ أحدهم: كالشاة العائرة بين الغنمين، تعيرُ إلى هذه مرةً وإلى هذه مرةً، ولا تستقر مع إحدى الفئتين.

 إذا كان أحد الناس جلس مع المؤمنين طابَ له المجلس، فإذا جلسَ مع الكفار، أو مع أهل الدنيا، أو مع أهل البُعدِ، فسُرَّ معهم واستمرأَ حديثهم، وطابت له جلستهم، فهذه علامة النِفاق، لو كانَ مؤمناً حقاً لا يرتاح للكفار، ولا لحديثهم، ولا لمزاحهم، ولا لأنماط سلوكهم، ولا لأوضاعهم.

لذلك النبي الكريم وصف المنافقَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً، لا تَدْرِي أَهَذِهِ تَتْبَعُ أَمْ هَذِهِ؟))

 

قال تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾[سورة النساء الآية: 143]

 

 هو وزوجته، زوجته نوعاً ما مُحجبّة، يجلس في مكان عام، حيث الغناء والطرب والاختلاط والمشروبات، هذا المكان ليسَ مكانك، أنت مسلم، أنت مؤمن، أنت مع المؤمنين، لا تسخو نفسه بترك هذه الحفلات.

 والله سمعت بعض النِسوة المحجبّات، يذهبنَّ إلى حفلاتٍ في الفنادق، حفلة مختلطة، فيها شرب الخمر، كيف تسوغُ لنفسكَ أن تأتي مع امرأتك إلى هذا المكان؟ هكذا وصف المنافقين ؛ كالشاة العائرة بين الغنمين، تيعرُ إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، ولا تستقرُ مع إحدى الفئتين.

 

﴿مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء﴾

 ومن يضلل الله فلن تجدَ له سبيلاً.

 

6- يتربصون الدوائر بأهل الكتاب والسنة:

 

 صِفةٌ أخرى من صفات المنافقين: يتربصون الدوائر بأهلِ الكتاب والسُنّة، دائماً على حسد، دائماً على تربص، فإن كانَ لهؤلاء المؤمنين فتحٌ من الله، قالوا: ألم نكن معكم؟ نحن معكم يا أخي، نحن مؤمنون، نحن أعنّاكم، نحن دعمناكم، قال: فإن كانَ لهم فتحٌ من الله، قالوا: ألم نكن معكم؟ وأقسموا على ذلك بالله جهدَ أيمانهم، وإن كانَ لأعداء الكتاب والسُنّة من النُصرة نصيب، قالوا: ألم تعلموا أنَّ عقدَ الإخاءِ بيننا وبينكم مُحكم، نحن معكم ضد المؤمنين، وأنَّ النسب بيننا قريب؟ ربنا عزّ وجل قال:﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾[سورة النساء الآية: 141]

 

 هذا الموقف المتذبذب مع الأقوى دائماً، مع الأعز، هذا موقف المنافق.

 

7- الازدواجية:

 

 الحقيقة: المنافق قد يُعجبُ السامعُ بقوله، لحلاوته، ولينه، ويُشهد الله على ما في قلبه، يقول لك: شَهِدَ الله أني أُحبك، يُشهِد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾[سورة البقرة الآية: 204]

 

 خصم عنيد، خصم شديد، عدو لدود، ومع ذلك له كلام أحلى من العسل، وله قلبٌ أمرُّ من الصبر، هذه من صفات المنافق، تكاد تكون الازدواجية مِحور أساسي في هذه الصفات، المؤمن الحق ما في قلبه على لسانه، وما قاله بلسانه في قلبه، وعلانيته كسريرته، وسريرته كعلانيته، وباطنه كظاهره، وظاهره كباطنه، المؤمن متوّحد في اتجاه، المنافق مزدوج.

 فهذه نصيحة لكل أخ مؤمن؛ اجعل الصلاة في البيت كما هي في المسجد، غضُ بصركَ في الطريق وأنتَ وحدك كما لو كنت بين المؤمنين، راقب الله عزّ وجل، لا تأخذكَ في الله لومة لائم، لا تعبأ بكلام الناس، لا تأخذ مواقف أمام الناس، لا تكن لكَ مواقف أخرى في البيت.

 

((من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا، لم يعبأ الله بشيء من عمله))

 

((ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعةٍ من مُخلّط))

 

8-الفساد في الأرض: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾[سورة البقرة الاية: 205]

 

 يُفسد العلاقة بين الزوجين، أخته متزوجة وزارها، ماذا قدّمَ لكِ زوجك في العيد؟ ما قدّمَ لكِ شيئاً؟ هذا السؤال أفسدَ العلاقة بينَ الزوجين، إن جلس مع شريك، ماذا يُعطيك شريكك فقط 30 %؟ والله قليل!! كيف ترضى معه بهذا الشكل؟ أفسدَ العلاقة بين الشريكين، بين الزوجين، بين الأخوين، بين الجارين: ﴿وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسدَ فيها ويهلكَ الحرثَ والنسل والله لا يُحب الفساد﴾

 

9-الصد عن حكم الله وعن حكم رسول الله:

 

 المنافق كلام الله عليه ثقيل، لا تركن نفسه إلى كلام الله، لا ينصاعُ له، إذا حاكمتهم إلى صريح الوحي، وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حُكم كتاب الله وسُنّة رسوله، رأيتهم عنه مُعرضين، ربنا عزّ وجل قال:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً﴾[سورة النساء الاية: 61]

 

 كتاب الله بيننا، ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام بيننا، المنافق لا يرضى لا بكتاب الله ولا بكلام رسول الله، يرضى برأيه الشخصي، أو بحكم القاضي، أو برأي المحامي.

 

10-كثرة حلف الأيمان:

 

 المنافق من علاماته: كثيرُ حلفِ الأيمان بلا سبب، كثرةُ حلفه للأيمان دليل خلل داخلي، فأحدهم تسبقُ يمينه كلامه، لم يكذبكَ أحد، ما أحد كلّفكَ أن تحلف اليمين، ما أحد دعاك إلى حلف اليمين، يحلف الأيمان الكاذبة دون أن يُستحلف، لاعتقاده الداخلي أنَّ الناسَ لا يصدقونه، هناك خلل داخلي في شخصيته، فربنا عزّ وجل قال:﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾[سورة المجادلة الآية: 16]

 

 اتخذوا أيمانهم وقايةً، دريئةً يدرؤون بها تشكيكَ الناس في أقوالهم، هذه كلها آيات قرآنية، كثرة حلف الأيمان، الصدُّ عن حُكم الله وحُكمِ رسوله، الفساد في الأرض، إفساد العلائقَ بينَ الناس، له كلامٌ أحلى من العسل، وقلبٌ أمرُّ من الصبر، يتربصون بالمؤمنين الدوائر، مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يراؤون الناسَ، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى، لا يذكرون الله إلا قليلاً، هذه صفاتهم المُستنبطة من آيات الله البيّنات.

 

11-النكثة:

 

 المنافق كأنه إنسان سارَ في رحلة في الصحراء، بعد حينٍ: من الوقت أو بعدَ مسافةٍ من المكان شعرَ بالتعب والإعياء فنكثَ راجعاً، لم يتابع المسير. فربنا عزّ وجل قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾[سورة المنافقون الاية: 3]

 

 بعد ما آمن، رأى في الإيمان قيوداً، حدوداً، وتكاليف، ومجالس علم، وغض بصر، وهذه حرام وهذه حلال، بعدَ أن عاهدَ الله عزّ وجل، وسارَ في أولِ طريق الإيمان، رأى الإيمان عِبئاً عليه، رآه ثقيلاً، رأى التكاليف تكاليف باهظة، لذلك انتكثت روحهُ، وعاد القهقرى، وتركَ المؤمنين يتابعون الطريق، قال تعالى: ﴿ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطُبعَ على قلوبهم فهم لا يفقهون﴾

 بعد أن آمن كفر، وهذا واضح، بعد ما حضر مجالس العلم سنة، انتكث وعادَ إلى شهواته وأهوائه، وعادَ إلى رفاق السوء، وعادَ إلى انطلاقه إلى المعاصي كيفما يشاء، فهذه النكثة هيَ نكثات المنافقين.

 

12-قد تعجبك أجسامهم لكن قلوبهم مغايرة لها:

 

 قد يكون هذا المنافق حَسَنَ القامة، له جسم رائع، له قامة مديدة، له وجه وسيم، له عضلات مفتولة، له ذكاء، له لسان طليق، له بيان ساحر، قال الله عزّ وجل: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾[سورة المنافقون الآية: 4]

 

 شخصية، شكل وأناقة وعطر، رفاه وجلسات متقنة وكلام متقن.

 

﴿وإن يقولوا تسمع لِقولهم كأنهم خُشبٌ مُسندة يحسبونَ كلَّ صيحةٍ عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون﴾

 عن الغذاء وليس لها ثمر ومُسندّة، يعني أيّ دفع يجعلها في الأرض، من أروع التشابيه، المؤمن ليسَ ساذجاً، يؤخذ بشخص طويل القامة، أنيق المظهر، طليق اللسان، ذكي العقل، لكن خبيث النفس، ضعيف الإيمان، شهواني، له خلفيّة سيئة، المؤمن ذو بصيرة، اتقوا فِراسةَ المؤمن فإنه ينظر بنور الله.

قال سيدنا علي: نحن نعرف الرجالَ بالحق ولا نعرف الحقَ بالرجال، المؤمن مقياسه دقيق جداً، يعني أن يفعل المؤمن فعلاً منافياً للشرع، هذا الشخص ساقطٌ بنظر المؤمن، أن يعتقدَ اعتقاداً مخالفاً لكتاب الله، هذا الشخص ساقطٌ في نظر المؤمن، أما الذي يُعجب بالناس، بأجسامهم، بأطوالهم، بحركاتهم، بسكناتهم، بفصاحتهم، بطلاقتهم، ولا ينظر إلى انحرافاتهم، وإلى أخطائهم، وإلى بُعدهم عن أمر الله عزّ وجل وعن سُنّة النبي، فهو إنسان ساذج.

 

13- يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول:

 

 قال: يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول، فالصبح عِندهم طلوع الشمس، والعصر عِندهم الغروب، وينقرونها نقرَ الغراب إذ هيَ صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، يلتفتون فيها التفات الثعلب، ولا يشهدون الجماعة، بل إن صلى أحدهم، صلى في البيت أو في دكانه، يهجر المسجد، هذه صفة المنافقين.

 

14- إذا أصابَ المؤمنون عافيةٌ ونصرٌ وظهورٌ ساءهم ذلكَ وغمهمم:

 من علامة المنافقين: إذا أصابَ المؤمنين عافيةٌ ونصرٌ وظهورٌ ساءه ذلكَ وغمهُ، على المستوى الفردي: لك أخ مؤمن، الله عزّ وجل رفع شأنه، تتألم، أطلق لسانه، تتألم، تتضايق، جعل له شأن في المجتمع تتضايق، تبحث عن عيوبه، تبحث عن سقطاته، تُبرزها للناس، هذه علامة النِفاق.

 من علامة الإيمان:

 أنَّ المؤمن إذا رأى أخاه المؤمن، قد أطلق الله لسانه، ورفع شأنه، يفرحُ له، ويكون في خدمته وعونه، الحق واحد، لأنه إذا عزَّ أخوكَ فهُن أنت، المؤمنون شركاء في أعمالهم الصالحة، الإنسان إذا عمل عملاً صالحاً دعم بعمله أخاه المؤمن، مؤمنون كانوا في زيارة شخص أحدهم، انطلقَ في الحديث عن الله عزّ وجل، إذا سكتَ الباقون، لهم مِثلُ أجره، لأنَّ العِبرة أن يصل هذا الحق إلى هذا الإنسان، أما التنافس والتنطع وعرض العضلات ليسَ هذا من صفات المؤمن، أخوك انطلقَ في الدعوة إلى الله كُن معه أنت، كُن معيناً له، كُن دعماً له، لا تحاول أن تُبرز سقطاته الموهومة عِندك، ربنا عزّ وجل قال:

 

﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾

 

[سورة آل عمران الآية: 120]

 

 يتضايق، يُعلن عن حسده، يُعلن عن غيرته، يُعلن عن ضيقه، لا يتمنى لهذه الدعوة أن تنتشر، لا يتمنى لهذا المؤمن أن يظهر، لا يتمنى له أن يعلو عِندَ الناس.

 

﴿إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيئةٌ يفرحُوا بها﴾

 يعني فإذا أصابَ هذا المؤمن مصيبة، يفرح المنافق، وقد يُعلن عن فرحه، إذا فرح عاقبه الله عزّ وجل، فإذا أعلن عن فرحه ازدادَ العِقاب، الله عزّ وجل كرهَ طاعتهم، لِخُبثِّ قلوبهم، وفسادِ طواياهم، ثبطهم عنها، أقعدهم، أبغضَ قربهم منه، لميلهم لأعدائه، طردهم عنه، وأبعدهم، أعرضوا عن وحيه فأعرضَ عنهم، أشقاهم وما أسعدهم، حكمَ عليهم بُحكمٍ عدلٍ لا مطمعَ لهم في الفلاحِ بعده.

 

﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾[سورة التوبة الآية: 46]

 

 لأتفه سبب يترك مجالس العلم، لماذا ربنا ثبّطَ عزائمهم؟ قال: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، يوهنون القِوى، يوهنون العزائم، يضعِفون المعنويات، يُيئسوا، لهم كلمات فيها استهزاء، لهم كلمات فيها تجريح، هم ميالون للدنيا، قال: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾[سورة التوبة الاية: 47]

 

15-أن النص القرآني ثقيل عليهم:

 

 المنافق من دلائل نِفاقه: أنَّ النص القرآني ثقيلٌ عليه، قال: ثَقُلت عليهم النصوص فكرهوها، أعياهم حملها، ألقوها عن أكتافهم ووضعوها، تفلتت منهم السُنن فلم يحفظوها، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾[سورة محمد الآية: 9]

 

 إذا الله عزّ وجل أمرَ بأمر، وأنت شعرت بكراهية لهذا الأمر، فهذه علامة النِفاق، المؤمنون يفرحون بما أُنزل إليهم، أما المُنافق يرى أمرَ الله ثقيلاً عليه.

 

16-ولتعرفنهم في لحن القول:

 

 هم أسرّوا النِفاق، لكن الله عزّ وجل أظهرَ بعضَ علاماته على صفحات وجوههم، وظهرَ نِفاقهم من فلتاتِ لسانهم، أحياناً: فلتات اللسان تُعبّر عن الجنان، قاعدة.

 شخص لا تحبه أنت، وجاء ذِكره، وشخص حي يُرزق، تقول: الله يرحمه لم يمت، ما مات، معنى هذا: أنكَ تتمنى موته، هذه فلتات اللسان، أحياناً: تحضر قائم حُزن، تتكلّم بكلمة، وكأنك تتمنى لهذا الحُزن أن يستمر، لا تنتبه، هذه فلتات اللسان، لها عِندَ علماء النفس معانٍ كثيرة جداً، فالمنافقون من صفحات وجوههم، ومن فلتات لسانهم، يعبّرونَ عن ما في قلوبهم، ربنا عزّ وجل قال: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾[سورة محمد الآية: 29-30]

 

 تجد المؤمن وجهه مُشرق، فيه براءة بوجهه، فيه نور، فيه صفاء، فيه إقبال، وجه المنافق تجده في نوع من الغَبَرَة، وجهه أسود، سواد معنوي، وجهه فيه قتامة، وجهه فيه انحباس، قال:﴿أم حَسِبَ الذين في قلوبهم مرضٌ أن لن يُخرجَ الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول﴾

 لحن القول هو: فلتات اللسان. ﴿والله يعلم أعمالهم﴾

 

17-مآلهم يوم القيامة:

 

 من صفات المنافقين أيضاً: لمّا ربنا عزّ وجل قال في سورة الحديد:﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[سورة الحديد الآية: 13-14]

 

 المنافقون في الدنيا كانوا مع المؤمنين، معهم في مساجدهم، في أفراحهم، في أتراحهم، في الحج، في رمضان، في الصيام، هم معهم، مختلطونَ معهم، يوم القيامة يتوقف بهم المسير على الصراط المستقيم، فيقولون للمؤمنين:

 

﴿انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً﴾

 لم تكن أعمالكم في الدنيا صالحة، لم تكن هِممكم في الدنيا عالية، لم تكن نواياكم مُخلصة، الدنيا مكان العمل، وفيها يُقتبسُ النور.

 ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، قالوا: ألم نكن معكم؟ قالوا: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم بالدنيا، وتربصتم، وارتبتم، وغرّتكم الأماني حتى جاء أمرُ الله وغَركم بالله الغَرور.

 انظر كم صِفة؟ ألم نكن معكم؟ قالوا: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم، يعني أحببتم الدنيا وجعلتموها كلَّ همكم، وجعلتموها مَحطَ رِحالكم، وتربصتم بالمؤمنين، تمنيتم أن يصيبهم السوء، تربصتم بالمؤمنين تمنيتم الدمارَ لهم، إذا جاءهم الخير ضاقت نفوسكم به، وارتبتم في كلام الله عزّ وجل، ما كنتم على يقينٍ من كلام الله عزّ وجل، ارتبتم في وعده وفي وعيده، ارتبتم في حلاله وفي حرامه، وغرّتكم الأماني، تمنيتم الدنيا وحدها واغتررتم بها، حتى جاءَ أمرُ الله، وغرّكم بالله الغَرور.

 الغَرور هو الشيطان، وعدكم وأوهمكم أنه من كانَ من أُمةِ مُحمدٍ عليه الصلاة والسلام يشفع له النبي، يكفي أن تكون من أمةِ مُحمدٍ، فالنبي مُحمد صلى الله عليه وسلم يشفعُ لكَ يومَ القيامة دونِ قيدٍ أو شرط هكذا، فانطلقتم إلى المعاصي، وإلى الشُبهات، وإلى المخالفات، وإلى الدنيا، وإلى المغانم والمكاسب.

 يُروى أنَّ سيدنا حُذيفة بنَ اليمان، سَمِعَ رجلاً يقول: اللهم أهلك المُنافقين، فقال: يا بن أخي، لو هَلَكَ المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قِلة السالكين، يعني بِشارة من سيدنا حذيفة بن اليمان إلى أنَّ الكثرة الكثيرة من الناس يعني من هذا القبيل.

 سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أسرَّ إليه النبي عليه الصلاة والسلام أسماء المنافقين، فسيدنا عمر يعلم ذلك، فقال له: يا حذيفة، ناشدتك بالله! هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ قال: لا، ولا أُزكي بعدكَ أحداً، لا تحرجني، اسمك غير وارد، ولا أُزكي بعدكَ أحداً.

 ابن مُليكة يقول: أدركتُ ثلاثينَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النِفاقَ على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول: إنَّ إيمانه كإيمانِ جبريلَ وميكائيل.

 إذا شككت بنفسك دائماً، لعل في نِفاق، لعل في تقصير، فهذه علامةٌ طيبة، وإذا في طمأنينة ساذجة، أنا مؤمن الحمد لله، أنا بزمن صعب، أنا عملي كسبعين من أصحاب رسول الله، أنا في زمن القابض على دينه كالقابض على الجمر، إذا كان بهذه النفسية أنت مطمئن، مرتاح تماماً، وما في مشكلة عِندك إطلاقاً، هذه علامة خَطِرة، هذه علامة النِفاق، علامة الإيمان أن تخشى النِفاق، وعلامة النِفاق ألا تخشى منه.

 الحسن البصري -كما قلتُ لكم- قال: ما أمِنَ النِفاق إلا مُنافق، وما خافه إلا مؤمن، وكانَ بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونَ اللهَ، فيقولون: اللهّمَ إني أعوذُ بِكَ من خشوعِ النِفاق، قيلَ: وما خشوع النِفاق؟ قال: أن يُرى البدنُ خاشعاً، والقلبُ ليسَ بخاشع، بالصلاة يظهر الخشوع شيء، وقلبه ليس بخاشع.

 قال بعضهم: النِفاق يُزرعُ، ينبتُ له ساقان؛ ساقُ الكذب وساقُ الرياء، ويُسقى بعينين؛ عينِ ضعفِ البصيرة وعينِ ضعفِ العزيمة، يعني رؤيته غلط، وإرادته ضعيفة، وفي عنده كذب، وفي عنده رياء، يعني أربع دعائم للنِفاق: الكذب والرياء وضعف البصيرة وضعف العزيمة، رؤيته مضطربة، عزيمته ضعيفة، يعتمدُ الكذب، ويعتمدُ الرياء.

 عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ))[أخرجه الإمام أحمد في مسنده]

 فالكذب ليسَ من صفات المؤمن.

 قال: إذا تمت هذه الأركان الأربعةُ، استحكمَ نبات النِفاق، ولكنه بمدارج السيول على شفا جُرفٍ هار، فإذا شاهدوا سيلَ الحقائق، يوم تُبلى السرائر، ويبعثرُ ما في القبور، ويُحصّلُ ما في الصدور، تبيّنَ لهم يومئذٍ من كانت بِضاعته النِفاق، فهي كالسراب، يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجدَ الله عِنده فوفّاه حِسابه والله سريع الحساب.

 

ملخص الدرس:

 

 من علامات النِفاق:

 أنَّ المُنافق إذا عاهدَ خان، وإذا وعدَ أخلف، وإذا قالَ كذب لم يُنصف، وإذا دُعي إلى الطاعةِ تلكأ، وإذا قيلَ لهم: تعالوا إلى ما أنزلَ الله وإلى الرسولِ صدفوا، وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أعراضهم أسرعوا وانصرفوا، فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزيِ والخُسران.

 

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾[سورة التوبة الاية: 75-77]

 هذا الذي يسميه كُتّاب السيرة: حمامة المسجد ثعلبة، كانَ يصلي خلف النبي، ما فاتته تكبيرة الإحرام خلفَ سيدِ الأنام، كان فقيراً، قال له: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني، يبدو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام له بصيرة في هذا الإنسان، قال: يا ثعلبة، قليلٌ تؤدي شُكره خيرٌ من كثير لا تؤدي شكره، قالَ: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني، قال: يا ثعلبة، قليلٌ يكفيك خيرٌ من كثير يٌطغيك، قالَ: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني، فقال: ربي ارزق ثعلبة كيفَ شئت؟ ومتى شئت؟ اشترى غنماً، والغنم توالدت، ملأت طرقات المدينة بشكلٍ عجيب، بمدةٍ قصيرة، صارَ من أغنى الأغنياء، ما عادَ يُصلي خلفَ سيد الأنام، ما عادَ يُحصّل تكبيرة الإحرام خلف سيد الأنام، غاب عن مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، غاب غيبة طويلة جداً، النبي سأل عنه، تجد الواحد بعد الزواج لم نعد نشاهده، بعد ما صار تاجراً لم نعد نشاهده، الله عزّ وجل ورسوله أولى باهتمامك، فالنبي بعثَ برسول لثعلبة يطالبه بالزكاة، فيقول لرسول رسول الله: قل لصاحِبكَ: ليسَ في الإسلام زكاة، قال له: أهوَ صاحبي وليسَ صاحِبكَ؟ أجمعتَ إلى ترك الزكاة الكُفرَ برسول الله؟ عِندئذٍ نَزَلَ فيه وفي أمثاله هذه الآية:

 

﴿ومنهم من عاهدَ الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكوننَ من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم مُعرضون فأعقبهم نِفاقاً في قلوبهم إلى يومِ يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون﴾

والحمد لله رب العالمين

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life