عناصر الخطبة
1/نعم الله على الإنسان منذ أن خلقه 2/عبادة غير الله كفران لنعم الله 3/أحوال الإنسان عند نقص نعم الله عليه 4/النعم تستوجب الشكر 5/الشكر يكون بجميع الجوارح 6/بالشكر تدوم النعم7/العاقبة الوخيمة لجحد النعماهداف الخطبة
اقتباس
ها هو ذا، يقدم من بعيد، يحث المسير بخطىً ثابتة، يُحدّث هذا، ويخاطب ذاك، يرفل في ثوب الصحة والعافية، سليم الأعضاء، حاضر العقل، ثاقب البصر، صحيح السمع، قائم اللسان. توقف قليلاً ليعود بالذاكرة إلى الوراء، يقلب صفحات الحياة صفحة صفحة يتخطى من عمر الزمن عمرَه، هو: عشرين عاماً، أو ثلاثين، أو أربعين، أو تزيد. عادت به ذاكرته إلى الأيام التي كان فيها حبيساً في بطن أمه، يتقلب في جوفها، يأتيه رزقه ولا يسعى إليه، يتنفس الهواء النقي في أمن وأمان.
الخطبة الأولى:
وها هو ذا، يقدم من بعيد، يحث المسير بخطىً ثابتة، يُحدّث هذا، ويخاطب ذاك، يرفل في ثوب الصحة والعافية، سليم الأعضاء، حاضر العقل، ثاقب البصر، صحيح السمع، قائم اللسان.
توقف قليلاً ليعود بالذاكرة إلى الوراء، يقلب صفحات الحياة صفحة صفحة يتخطى من عمر الزمن عمرَه، هو: عشرين عاماً، أو ثلاثين، أو أربعين، أو تزيد.
عادت به ذاكرته إلى الأيام التي كان فيها حبيساً في بطن أمه، يتقلب في جوفها، يأتيه رزقه ولا يسعى إليه، يتنفس الهواء النقي في أمن وأمان.
من رزقه؟ من أرسل النسمات إلى صدره الصغير؛ لتردد نفساً يبث الحياة فيه؟ من حفظه ورعاه، واحتواه وحماه؟ صدفة أم طبيعة؟ خابوا وخسروا: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)[النحل: 53].
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[المؤمنون: 12- 14].
ثم يتذكر ذلك اليوم الذي استهل فيه صارخاً، يستقبل أول أيامه في هذه الدنيا، قد مُنَّ عليه بالحياة من بين أعداد ليست باليسيرة، استقبلتهم الأرض في باطنها لم يكتب لهم البقاء، ومن ثمّ هُيِّئ لك طعامك، عُصارة من جسد أمك الحنون.
من يسره؟ من كونه وخلقه في جوف أمك؟ من ألهمك أن تلتقم ثديها وأنت لا تعلم شيئاً، ولا تملك لنفسك ضراً ولا نفعاً؟
أهي الطبيعة البشرية أم الإحساس المجرد؟
خابوا وخسروا.
إنها العناية الإلهية: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)[النحل: 53].
(وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 78].
ثم كبرت وترعرعت شيئاً فشيئاً، يوم يسلمك إلى يوم، وشهر إلى شهر، وسنة إلى أخرى، كل هذا وأنت على أتم صحة، وأطيب حال، إلى أن بلغت مبلغ الرجال فضربت في الأرض كل صنوف الوسائل والطرق، لكسب الرزق والمعيشة، فألفيت السبل أمامك ميسرة، والأبواب مشرعة، إن ضاق سبيل اتسعت سبل، وإن أغلق باب، فُتحت أبواب.
من سوّاك؟ من خلقك وصورك؟ من كساك من عري وأطعمك من جوع؟ من آواك؟ من كفاك؟ من يسر أمورك؟ من رزقك وأغناك؟ عقلك البشري أم اكتساب الخبرات وتناقل المعرفة؟
خابوا وخسروا.
إنها الصنعة الربانية: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)[النحل: 53].
أخرج مسلم وأحمد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -عز وجل- يقوم القيامة: يا ابن آدم حملتك على الخيل والإبل، وزوجتك النساء وجعلتك ترْبَع وترأس، فأين شكر ذلك؟".
ولا يزال الطب وأربابه، وعلماء النفس يفتشون وينقبون، والمتخصصون في الأجنة والبحث في عالمها، وعلماء الوراثة وغرائبها، والمعنيون بالكواكب وأفلاكها، لا تزال العلوم ولن تزال في كل يوم، بل في كل لحظة، تكتشف الجديد من بديع صنع الله في مخلوقاته، وما خفي أعظم سماء عجب في الصنع، مرفوعة بلا عمد، فيها ما لا يحصيه إلا الله من الأفلاك والنجوم، تسير وفق نظام معين، لا يختل ولا يتغير، كل يجري في محيطه لا يخرق قِيْدَ أنملة.
الشمس في موقعها بدقة، لو اقتربتْ قليلاً، لاكتوى الخلق بنار محرقة وحر لا يطاق، ولو تباعدت يسيراً لكسى الكون الجليد.
من الذي جعل لها مكاناً لا تحيد عنه، وفلكاً لا تخرج منه، يناسب الكائنات على هذه المعمورة؟ أقانيم وأفلاك، أم قوة جاذبية الكواكب بعضها لبعض؟
عجباً للعقول والأفهام، إنه التقدير الإلهي، الصبغة الربانية: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[النمل: 88].
(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)[النحل: 53].
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[يس: 38- 40].
بينما الأرض جدباء قاحلة، والسماء صافية تربعت في كبدها شمس الهاجرة، إذا بالغيم يتسابق من كل مكان لتبرق السماء وترعد، فتنثر ما فيها من خير على وجه الأرض القاحلة، فما هي إلا أيام قلائل، والخضرة تكسو الأرض بأنواع شتى من الزروع والثمار.
من أمطر السماء؟ ومن فجر الماء؟ من أنبت الزرع ورعاه، فنمّاه ورباه؟ جهد البشر أم أن الطبيعة أوجدت نفسها؟ خابوا وخسروا، إنه الله القدير: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)[النحل:53].
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)[النور: 43].
(وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[الحج: 5].
جبال راسيات، وبحور زاخرات، نبات وشجر، هواء وماء، كلها وغيرها قد سخرت لك، لك أنت -أيها الإنسان-: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)[الجاثية: 13].
فهل نحمد ونشكر، أم نجحد ونكفر؟!
وقبل هذه كلها وبعدها تلتفت يمنة ويسرة إذا بالأعداد ليست باليسيرة من الناس، وإذا بأكوام من البشر، يعبدون الحجر والشجر، ويسجدون للشمس والقمر، يؤلهون صنماً أو يتمسحون بقبر، ويخضعون لبشر، في حين أنك أنت اختارك الله واصطفاك وطهرك واجتباك، فكنت وما زلت عبداً لله، تنعم بالذل بين يديه: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا)[الحج: 78].
وزادك الله شرفاً وعزاً يوم جعلك من خير أمة أخرجت للناس، أمة الخير والعطاء، نبيها أفضل الأنبياء -صلى الله عليه وسلم-، وكتابها خير الكتب، وشرعها خاتم الشرائع وناسخها.
إن دعوت فإلى الله تمد يديك، وتهمس بشفتيك، وإن استعنت فبالله وحده، إن ضاقت بك السبل وعظمت عليك البلايا، فإليه ترفع حاجتك، وبه تنزل شكايتك، إن توكلت فعليه، وإن فررت فإليه، إن أحببت فله، وإن أبغضت ففيه، حياتك له، أقوالك وأفعالك، بل حتى همس لسانك، وخفقان قلبك، ونبض الحياة في عروقك، كلها لله، لله وحده دون سواه، إنه الغِنَى وإن كنت أفقر الناس، والعز وإن نالك من الذل صنوف، والشرف وإن لم تحظَ بشيء منه بين الناس، والرفعة ولو كنت في أعين البشر وضيعاً.
(أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الزمر: 22].
(فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 125].
فهل بعد هذا العز من عز؟ وهل بعد هذه النعمة من نعمة؟ لا والله وألف لا، فحمداً لك ربنا وشكراً.
لله في الآفاق آيات لعل *** لَ أقلها هو ما إليه هداكا
ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار إذا *** حاولت تفسيراً لها أعياكا
قل للجنين يعيش معزولاً بلا *** راع ومرعى ما الذي يرعاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء *** لدى الولادة ما الذي أبكاكا
واسأل بطون النحل حين تقاطرت *** شهداً وقل للشهد من حلاكا
بل سائل اللبن المصفى كان بي *** ن دم وفرث ما الذي صفاكا
قل للهواء تحسه الأيدي ويخ *** فى عن عيون الناس من أخفاكا
وإذا رأيت النبت في الصحراء يَرْ *** بو وحده فاسأله من أرباكا
وإذا رأيت البدر يسري ناشراً *** أنواره فاسأله من أسراكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي *** أَبْ عَدُ كل شيء ما الذي أدناكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى *** فاسأله من يا نخل شق نواكا
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً *** قمم السحاب فسله من أرساكا
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال *** جرى فسله من الذي أجراكا
وإذا رأيت البحر بالملح الأجاج *** طغى فسله من الذي أطغاكا
وإذا رأيت الليل يغشى داجياً *** فاسأله من يا ليل حاك دجاكا
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحياً *** فاسأله من يا صبح صاغ ضحاكا
ستجيب ما في الكون من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناكا
ربي لك الحمد العظيم لذاتكَ *** حمداً وليس لواحد إلاّكا
يا مدرك الأبصار والأبصار لا *** تدري له ولِكنْهِهِ إداركا
يا منبت الأزهار عاطرة الشذى *** ما خاب يوما من دعا ورجاكا
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي *** بالله جل جلاله أغراكا؟
هل هي مسألة سهلة أن تمشي على قدميك، وقد بترت أقدام، وأن تعتمد على ساقيك، وقد قطعت سوق؟ أحقير أن تنام ملء عينيك وقد أطار الألم نوم الكثير وأن تملأ معدتك من الطعام الشهي، وتكرع من الماء البارد وفي الناس من عُكّر عليه الطعام، ونغص عليه الشراب بأمراض وأسقام؟
تفكر في سمعك وقد عوفيت من الصمم، وتأمل في نظرك وقد سلمت من العمى، وانظر إلى جلدك وقد نجوت من البرص والجذام، والمح في عقلك وقد أُنعم عليك بحضوره ولم تفجع بالجنون والذهول.
أتريد في بصرك وحده كجبل أحد ذهباً؟ أتحب بيع سمعك بوزن ثَهْلاَن -جبل معروف ليني نمير- فضة، هل تشتري قصور الزهراء بلسانك فتكون أبكم؟ هل تقايض بيديك مقابل عقود اللؤلؤ والياقوت لتكون أقطع؟
إنك في نعم عميمة، وأفضال جسيمة، ولكنك لا تدري. فكر في نفسك، وأهلك وبيتك وعملك وعافيتك وأصدقائك، والدنيا من حولك يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها .
قال يونس بن عبيد لرجل يشكو ضيق حاله: "أيسرك ببصرك هذا مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا، قال: فبرجلك مائة ألف؟ قال: لا، فذكّره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة".
وفي الحياة مصائب وكروب، وأوجاع وآلام، هم وغم، أمراض وأسقام، ضيق الرزق، وكدر في المعيشة.
وفي لحظة اجتمعت عليك الهموم والغموم، وحلت بساحتك الأتراح والأحزان، مرض عضال، موت حبيب أو قريب، ضائقة في المال والعيش، أحسست معها أن الأرض على عظمها لا تسعك، ضاقت عليك بما رحبت، بل ضاقت عليك نفسك التي بين جنبيك، طرقت كل الأبواب، وقصدت أكثر السبل، فليس ثمة فرج، ويوماً بعد يوم إذا بالمصيبة يشتد وقعها، ويعظم أمرها حتى احتوى اليأس حياتك، فلم ترَ بارقة أمل، وعم دنياك ظلام دامس، لم ترفعه بصيص نور.
من حينها تذكرت أنك طرقت كل الأبواب إلا باباً واحداً، وخضت كل السبل إلا سبيلاً واحدة، ذكرت كل أحد، ونسيت الواحد سبحانه.
عندها رفعت يديك خاشعاً متذللاً خاضعاً مفتقراً، وعرضت حاجتك على مولاك وخالقك، فإذا بالفرج يطل على ربوعك، والحبور ينزل بساحتك، بعد أن شعرت أن قد فارقك وفارقته، بلا عودة ولا رجعة.
من فرج همك وأنس وحشتك وأزاح كربتك؟
إنه الله، فسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
روى مسلم في صحيحه عن صهيب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجباً لأمر المؤمن، أن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: تلك رحلة قصيرة عشناها في ربوع النعم والأفضال التي يسبغها الله على عباده في كل يوم وليلة، ومع تقلب الليل والنهار، وتعاقب الأحوال والأزمان.
ولكن ثمة قضية لا بد أن نعيشها ملء الأسماع والأبصار ونتفكر فيها قدر العقول والأفهام.
أيها الأحبة في الله: نعم عظيمة، وآلاء جسيمة، يكفي في بيانها قول ربنا: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34].
هل أدينا شكرها وقمنا بواجب الحمد فيها؟
أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني من حديث معاذ -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده، وقال: "يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة، تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد".
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما من عبد يشرب الماء القراح-بالفتح أي الماء الذي لا يشوبه شيء- فيدخل بغير أذى ويُخرج الأذى إلا وجب عليه الشكر".
وإن فئاماً من الناس ظن أن الشكر أحرف وكلمات، عبارات وهمسات، ينطق بها لسانه وقلبه غافل ساهٍ جوارحه غارقة في المعاصي والآثام، العين تبصر ما تشاء ومن تشاء، والأذن تسمع ما تشتهي، واللسان ينطق بما يحلو له، والأقدام تسير، واليدان تبطشان دون مراعاة حلال أو حرام.
هل شكر نعمة الله، من ترعرع جسده، ونمت أحشاؤه مِنَ الربا والحرام؟
هل شكر نعمة الله من فرط في عمود دينه، فترك الصلاة أو تهاون في أدائها وأخرها عن أوقاتها؟
هل شكر نعمة الله من عق والديه وقطع رحمه؟
هل شكر نعمة الله من هجر كتاب ربه؟
هل شكر نعمة الله من أصغى بأذنيه إلى الغناء والطرب والملهيات؟
هل .. وهل .. أسئلة يطول المقام في سردها أنت أعلم بها مني.
يا أهل التوحيد: إن الشكر ليس مجرد ألفاظ تقال.
الشكر أن تسير حياتك كلها وفق مراد الله ورسوله، فلا تسمع إلا ما يرضي الله، ولا تبصر إلا ما يحبه، ولا تنطق إلا بما يقربك منه.
إن الشكر -يا عباد الله- قول وعمل، ألم تسمعوا قول ربكم ومولاكم: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)[سبأ: 13].
قال محمد بن كعب القرظي: "الشكر تقوى الله -تعالى- والعمل الصالح".
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: "الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل عمل تعمله لله شكر وأفضل الشكر الحمد".
روى أبو داود والنسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الله بن غنام البياضي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه. ومن قال ذلك حين يمسي، فقد أدى شكر ليلته".
واسمع إلى الحسن البصري -رحمه الله- ينذر ويحذر، قال: "إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء الله، فإذا لم يُشكر عليها قلبها عذاباً".
ولهذا كانوا يسمون الشكر الحافظ؛ لأنه يحفظ النعم الموجودة؛ والجالب لأنه يجلب النعم المفقودة.
إليكم -يا أمة القرآن- مثلاً عظيماً سطره القرآن، يحكي سنة الله فيمن يكفر نعمه ويجحد فضله.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)[الكهف: 32- 36].
وأخذ صاحبه بتذكيره وتحذيره مغبة كفر نعمة الله عليه، فما استجاب ولا ارعوى فكانت النتيجة: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا)[الكهف: 42 - 44].
التعليقات