اقتباس
النظافة الشخصية من الموضوعات المهمة في الاسلام، لأن طهارة الباطن لا تتحقق مع فساد الظاهر، بل إن الطهارة الظاهرة شرط لتحقق طهارة النفس، لذلك رأينا عديد التشريعات القرآنية تركز أيما تركيز على الطهارة والنظافة الشخصية، وقد تجلى ذلك في تطبيقات النبي-صلى الله عليه وسلم- ودعوته إلى الاهتمام بها دون غلو أو تكلف، ويمكننا تلخيص ذلك بما يلي:
النظافة والطهارة تمثلان سلوكا دينيا ودليلا حضاريا متقدما؛ فلا تنفكان أبدا عن سير تطور البشرية وسعيها نحو الأفضل، لذا لم يكن غريبا أن يبلغ اهتمام الاسلام بهذا الأمر حتى جعل الطهارة شرطا في قبول العبادة[1]، كما جعل النظافة دليلا على الإيمان؛ سواء تعلق الأمر بطهارة الجسم أو الثياب أو المكان، ويتبين حرص الإسلام على هذه الفضيلة في كل تفاصيل حياة المسلم، وهذا ما سنحرص على توضيحه في مقالنا هذا.
الفرق بين الطهارة والنظافة:
الطهارة تكون في الخلقة والمعاني؛ لأنها تقتضي منافاة العيب، يقال فلان طاهر الأخلاق، وتقول المؤمن طاهر مطهر؛ يعني أنه جامع للخصال المحمودة، والكافر خبيث؛ لأنه خلاف المؤمن، وتقول هو طاهر الثوب والجسد، وهي تفيد منافاة الدنس، ولا تستعمل في المعاني، وتقول هو نظيف الصورة أي حسنها ونظيف الثوب والجسد ولا تقول نظيف الخلق[2].
والطهارة أخص من النظافة، وهي على ضربين:
الأول: الطهارة المعنوية؛ حيث تطهير القلب من تعظيم غير الله ليكون القلب منقادا لخالقه دون غيره، وهو معنى كون الإنسان مسلما، ويتبع ذلك طهارة اللسان بالنطق بالشهادتين، وتصديق كل ذلك بالعمل الصالح؛ فتتحقق الطهارة المعنوية، قال تعالى في حق أزواج النبي--صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب: 33]، وبالمقابل وصف القرآن الكريم المشركين بالنجاسة لشركهم وفساد معتقدهم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:28].
والثاني: الطهارة المادية، وهي صنفان:
الأول: الطهارة من الخبث وهو النجس، بإزالته وغسل محله، والثاني: الطهارة من الحدث وذلك بالغسل والوضوء الشرعيين أو التيمم.
الحث على الطهارة والنظافة في القرآن الكريم:
من أوائل ما نزل على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في مكة الأمر بالطهارة بقوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 4]، والتطهر لا يتم الا بالماء الطهور، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان: 48]، وقال-أيضا-: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) [الأنفال: 11].
النظافة الشخصية للمسلم:
النظافة الشخصية من الموضوعات المهمة في الاسلام، لأن طهارة الباطن لا تتحقق مع فساد الظاهر، بل إن الطهارة الظاهرة شرط لتحقق طهارة النفس، لذلك رأينا عديد التشريعات القرآنية تركز أيما تركيز على الطهارة والنظافة الشخصية، وقد تجلى ذلك في تطبيقات النبي-صلى الله عليه وسلم- ودعوته إلى الاهتمام بها دون غلو أو تكلف، ويمكننا تلخيص ذلك بما يلي:
1- نظافة الجسم: وذلك بالحرص على سلامته من الأقذار والنجاسات، والمبادرة إلى إزالتها إذا أصيب الجسم بشيء منها، ولأن البعض قد لا يعطي الاهتمام الكافي لنظافة الجسم فقد نبه النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى ضرورة الاغتسال ولو مرة في الأسبوع بقوله، "حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ"[3]، والحديث تأييد لقوله تعالى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]؛ فلا ينبغي أن يمر على المسلم أسبوع دون غسل ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى إيجاب غسل الجمعة على كل من وجبت عليه، لقوله-صلى الله عليه وسلم-:"من جاء منكم الجمعة فليغتسل"[4].
وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- أن رسول-صلى الله عليه وسلم- قال: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"[5].
وعن ابن عباس-رضي الله عنه- قال: قال رسول-صلى الله عليه وسلم- "إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء الجمعة فليغتسل…" [6].
والأمر في الأحاديث السابقة لبيان الأهمية وبيان الفضيلة العظيمة، ولا يفهم منها الوجوب؛ لورود أحاديث أخرى تبين المقصود من الأمر وأنه للندب لا للوجوب ومنها:
ما رواه أبو هريرة-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع، وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا"[7]؛ قال الحافظ في التلخيص: "إنه من أقوى ما استدل به على عدم فرضية الغسل يوم الجمعة"[8].
ومنها حديث سمرة أن رسول-صلى الله عليه وسلم- قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"[9]، وقد جاء في الحديث عن عائشة-رضي الله عنها-:"كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء فيصيبهم الغبار والعرق؛ فتخرج منهم الريح؛ فأتى النبي-صلى الله عليه وسلم- إنسان منهم وهو عندي؛ فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا؟"[10].
نفهم من الأحاديث السابقة جواز الاقتصار على الوضوء، وما نفهمه من مجموع الروايات أنه لا ينبغي أن يمر على المسلم أسبوع دون غسل ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى إيجاب غسل الجمعة على كل من وجبت عليه، وخالف آخرون، وقالوا إن الأمر في الحديث هو للندب لا للوجوب، وأيا كان الأمر؛ ففيه الحث على النظافة بشكل عام والطهارة بشكل خاص.
2- إكرام الشعر: أي يحرص على مظهره بترجيله والمحافظة عليه؛ فقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يحرص على الشعر بترجيله ودهنه ويوجه أصحابه لذلك فعن جابر، قال: أتانا رسول-الله-صلى الله عليه وسلم- زائرا في منزلنا؛ فرأى رجلا شعثا[11]؛ فقال: "أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره"[12] .
3- التطيب: أي استخدام الطيب (العطر)، وخاصة عند ملاقاة الناس، كالاجتماع لصلاة الجمعة؛ فعن سلمان الفارسي-رضي الله عنه- قال: قال رسول-الله-صلى الله عليه وسلم-: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للإمام إذا تكلم إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى"[13]، وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ويلبس من صالح ثيابه وإن كان له طيب مس منه"[14].
4- تجنب الأكل من بعض الأطعمة التي تسبب الرائحة المزعجة عند إرادة الاجتماع بالناس وخاصة صلوات الجماعة والجمعة، ومن قبيل هذا النهي عن أكل الثوم والبصل وما شابههما إذا أراد صلاة الجماعة، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ، الثُّومِ-وقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ"[15]، وليس المقصود من النهي تحريم أكلها وإنما الحرص على عدم تناولها عند إرادة الاجتماع بالناس وخاصة في الصلاة، ويوضح هذا قوله --صلى الله عليه وسلم- - في حديث آخر: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنَا، حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا" يَعْنِي الثُّومَ"[16] .
4- نظافة الأسنان، إذ كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يظهر حرصا خاصا بنظافتها فقد روى أَبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ"[17]، في هذا الحديث إباحة السواك في كل الأوقات لقوله مع كل وضوء ومع كل صلاة والصلاة قد تجب في أكثر الساعات بالعشي والهجير والغدوات"[18].
وقد روي عنه-صلى الله عليه وسلم- ، أنه قالَ: "السواك مطهر للفم، مرضاة للرب"، وعن ابن عباسٍ أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد أمرت بالسواك، حتى خشيت أن يوحى الي فيه"[19].
والسواك اسم للعود الذي يستن به، كما أنه مصدر يدل على عملية السواك[20]، لذا تحصل السنة بالإستنان بعود الأراك كما تحصل باستعمال الوسائل الحديثة كالفرشاة والمعجون، مع التأكيد على أهمية استخدام عود الأراك لما له من آثار صحية على فم الإنسان بشكل عام وأسنانه ولثة الإسنان بشكل خاص.
4- قص الأظافر، وهي من سنن الفطرة، وقد حافظ النبي-عليه الصلاة والسلام- على إبقائها قصيرة؛ فقد أخرج البزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإِيمان بسند حسن عن أبي هريرة "أن رسول-الله-صلى الله عليه وسلم-: "كان يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة"[21].
5- حلق العانة ونتف الإبط[22]، وهما من سنن الفطرة كما ورد في عدد من الروايات؛ فعن أبي هريرة عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "خمس من الفطرة الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار وأخذ الشارب"[23]، وينبغي للمسلم أن يداوم على تطبيق هذه السنة ولا يتركها لوقت طويل؛ فعن أنس بن مالك قال: "وقت لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قص الشارب وتقليم الأظفار وحلق العانة ونتف الإبط أن لا نترك أكثر من أربعين يوما وقال مرة أخرى أربعين ليلة"[24].
6- نظافة الثياب؛ فإن من نعم الله تعالى على الإنسان أن خلق له ما يصنع منه ثيابه؛ فيستر عورته ويجمِّل مظهره، ويتقي به الحر والبرد، ويخفف عن وطأة الرياح والغبار، قال تعالى: (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف: 26]؛ فاللباس بالنسبة للإنسان كالريش للطير، فاكتمال ريش الطائر يجمله ويحميه، وكذلك بالنسبة للإنسان، فيختار المسلم منه ما يقيه الحر والبرد وما يستره، وعليه أن يهتم بنظافة ملبسه وطهارته، لأن ذلك يزيد من حسن الثوب ورونقه.
ويزداد التأكيد على نظافة الثياب عند الاجتماع للصلاة وغيرها كالولائم والمجالس العامة؛ فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-: "أنه سمع النبي-صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر يوم الجمعة: "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته"[25].
وعن جابر أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا عليه ثياب وسخة؛ فقال: "أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه"[26].
والمسلم يلبس الثوب النظيف ويتخذه من الأنواع التي تلاءم امكانياته وسعته، ولا ينبغي للمسلم أن يكون رثا شعثا ظنا منه أن هذا يقربه من الله تعالى[27]، ويردّ القرآن الكريم على أصحاب هذا المنحى بقوله (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[الأعراف: 32]، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. قال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس"[28].
ولا يجوز للمسلم أن يتخذ من ثيابه مجالاً للخيلاء والكبر؛ فقد ذم القرآن الكريم قارون لما خرج على قومه مبالغا في زينته بقوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص: 79]، وهناك فرق بين التزين لإظهار النعمة والتزين للتكبر على الناس.
وقد رغب الإسلام أن يكون ثوب الصلاة مع الجماعة غير ثوب العمل، حرصاً على تمام النظافة وحسن المظهر وهذا لمن يعمل في مجالات تتسخ فيها الملابس وإلا فلا يشترط تغيير الثوب؛ فقد روي أَنَّ رَسُولَ-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ أَوْ مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدْتُمْ أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ"[29].
النظافة العامة:
وجدنا حرص الاسلام على النظافة الشخصية والتي تمثلت بعديد التشريعات القرآنية والتوجيهات النبوية التي إذا ما التزم المسلم بها تحقق مبتغى الإسلام أن يعيش المسلم بطهارة كاملة، والأمر كذلك بالنسبة للنظافة العامة حيث وجدنا العديد من التشريعات والتوجيهات للمحافظة على البيئة الخاصة والعامة بالحض على نظافة المساكن والطرقات والساحات العامة، ونذكر ذلك باختصار:
1- نظافة المسكن: طهارة مكان الصلاة شرط في صحة الصلاة، كما أسلفت لقوله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125]، وهذا التطهير يشمل التطهير من الأنجاس والأقذار ومن مظاهر الشرك والآثام، وإن بيت المسلم لا يخلو من الصلاة أداء لفريضة أو تنفلاً أو تهجداً ولذلك لا بد من المحافظة على طهارته.
المحافظة على طهارة المكان وخاصة المساجد لها فضل عظيم بالرغم من تقليل شأن هذه الصنعة، لكن النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يكن يترفع عن مساعدة أهله بتنظيف البيت وكنسه، وقد أظهر من خلال التطبيق العملي تقديره الشديد لمن يقوم بهذه المهمة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن أسود رجلا-أو امرأة-كان يكون في المسجد يقم المسجد" [30]؛ فمات ولم يعلم النبي-صلى الله عليه وسلم- بموته؛ فذكره ذات يوم فقال: "ما فعل ذلك الإنسان؟" قالوا: مات يا رسول الله، قال: "أفلا آذنتموني؟" فقالوا: إنه كان كذا وكذا-قصته- قال: فحقروا شأنه، قال: "فدلوني على قبره" فأتى قبره فصلى عليه"[31].
2- نظافة الطريق والأماكن العامة:
نظافة الطريق والساحات العامة دليل على رقي أهل البلد، وتعرف سمات المجتمع الخُلقية من نظافة الطرق والساحات؛ فنظافتها أبهج للنفس وأنقى للمتنفس وأدعى للاحترام، ويحذر النبي-صلى الله عليه وسلم- من التسبب في إيذاء الطريق أو الأماكن العامة التي يقصدها الناس للاستظلال والراحة بقوله، "اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ قَالُوا وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ ظِلِّهِمْ" [32]، ويرد تأكيد ذلك في حديث آخر، "اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ"[33].
ولما كان لا يخلو أن يتسخ الطريق لأي سبب كان؛ فقد وجه النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى إزالة ما يعلق على الطريق من القاذورات والأذى، واعتبر أن ذلك من أبواب الخير؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "يُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ" [34].
وللتأكيد على هذه الحقيقة ذكر النبي-صلى الله عليه وسلم- شعب الإيمان ليظهر أن إماطة الأذى عن الطريق آخرها بقوله، "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"[35]
ويبين-صلى الله عليه وسلم- عظيم أجر من يزيل الأذى عن طريق الناس بضرب المثل الحي ليكون أدعى للفهم بقوله، "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ"[36].
وعن أبي سعيد مرفوعا: "غفر الله لرجل أماط عن الطريق غصن شوك، ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، وعن أنس قال: "كانت شجرة على طريق الناس؛ فكانت تؤذيهم، فعزلها رجل عن طريقهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رأيته يتقلب في ظلها في الجنة".
واعلم أن الشخص يؤجر على إماطة الأذى، وكل ما يؤذي الناس في الطريق، وفيه دلالة على أن طرح الشوك في الطريق والحجارة والكناسة والمياه المفسدة للطرق، وكل ما يؤذي الناس يخشى العقوبة عليه في الدنيا والآخرة، ولا شك أن نزع الأذى عن الطريق من أعمال البر، وأن أعمال البر تكفر السيئات وتوجب الغفران، ولا ينبغي للعاقل أن يحقر شيئا من أعمال البر والأصل في هذا كله، قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) [الزلزلة: 7]، وإماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان"[37].
وقد أوجب الله على الناس الشكر على إنعامه الكثير الذي لا يحصى. ولما كان الإحصاء متعذرا جعل الله تعالى من كل عمل نافع بمثابة الشكر له، وفيه من الرفق بالعباد ما فيه. يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-:"كل سلامى[38]، من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته تحمله عليها أو ترفع له متاعه عليها صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة"[39].
فضل الطهارة وإماطة الاذى:
1- نيل محبة الله -سبحانه- وكفى بها من نعمة؛ فمن يحرص على الطهارة بشقيها المادي والمعنوي استحق محبة الله تعالى؛ فالأمر بالغسل والوضوء سبيل لتحقيق غرض الإسلام بأن يعيش الإنسان طاهرا بنفسه وجسده وبيئته، وقد امتدح الله -عز وجل- أهل قباء، وجعل حرصهم على الطهارة والنظافة سببا في حبه تعالى لهم؛ حيث قال (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108]؛ قال البغوي في تفسيره، أي: "يتطهرون من الأحداث والجنابات والنجاسات"، وقال عطاء: "كانوا يستنجون بالماء ولا ينامون بالليل على الجنابة".
2- غفران الذنوب وتكفير الخطايا؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ"[40]
3- إماطة الاذى عن الطريق من محاسن الأعمال؛ فعن أبي ذر عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن"[41]، وقد كان أرض المسجد من التراب والدفن ممكن. أما اليوم فالمساجد مفروشة ولا يمكن تصور ذلك، كما لا ينبغي البصاق في الطرقات والأماكن العامة لأنه لا مجال للدفن لكون الطرقات والساحات معبدة أو مرصوفة؛ ولأنه يؤدي إلى الإيذاء الشديد، فرحم الله من تجنب ذلك.
4- دخول الجنة؛ يترتب على محبة الله للعبد، وقد ذكرنا أن المحافظة على الطهارة والنظافة مدعاة لمحبة الله تعالى للعبد؛ فعن أبي هريرة عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس"[42].
5- المحافظة على النظافة والطهارة؛ مدعاة لمحبة الناس، كذلك، ألا ترى الناس ينفرون ممن عرفوا بالعفانة وينجذبون نحو من عرف بالنظافة؟ وهذا ينطبق على الأفراد والمؤسسات والمطاعم والفنادق حتى الدول، ألا ترى رغبة الناس تتجه نحو المكان الأنظف ويتجنبون الأمكنة القذرة؟.
-------
التعليقات