عناصر الخطبة
1/منزلة القرآن ومكانته 2/طريقة السلف في التعامل مع القرآن 3/الثلاث الوظائف للمنهج الرباني في التعامل مع القرآن الكريم 4/وظيفة التلاوة والمدارسة والتدبر 5/وظيفة تعليم الكتاب والحكمة 6/وظيفة التزكية وكيفية تحصيل ذلكاقتباس
فالقرآن العظيم بفضل الله هو الذي نهض بأمَّة العرب، وحولهم من رعاة غنم إلى قادة أُمم، وهو الذي نقلهم من مستنقع التخلف والرجعية، والضعف والتبعية، والتفرق والجاهلية، إلى منصات العز والريادة والخيرية، والحضارة والتقدم، وقيادة...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، لهُ الحمدُ والشكرُ أبلَغُهُ وأشمَلُهُ، ولهُ المديحُ والثناءُ أجمَلُهُ وأجزَلُهُ، ولهُ الملكُ والسلطانُ أقواهُ وأمنَعُهُ، ولهُ الخَلقُ والتدبيرُ أحسنُهُ وأحكَمُهُ، ولهُ الجمالُ والجلالُ أبهاهُ وأعظَمُهُ، ولهُ الغنى والكمالُ مُنتهاهُ ومطلَقُهُ، أحمدهُ سبحانهُ وأشكرُهُ؛ وأتوبُ إليهِ وأستغفرهِ، عمَّنا بجُوده وفضلِهِ ورحمتهِ، ووعدَ الشاكرين وخصهم بزيادته، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، أبدعَ الكونَ بقدرته، ودبَّرَ كلَّ شيءٍ بحكمته، وخضعَ كلُّ شيءٍ لمشيئته، السماءُ أطت لعظمتهِ، والجبالُ تصدعت من خشيته، والرعدُ سبحَ من خِيفته، (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ)[الزمر: 67]، (وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ)[الأنبياء: 19]، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، ومصطفاهُ وخليلهُ، أكرمنا اللهُ بنبوتهِ، ومنَّ علينا ببعثتهِ، وأتمَّ به علينا نعمته، وجعل خاتمةَ الرسالات في رسالته، و (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)[الأنعام: 124]، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وعِترتهِ وصحابتهِ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وكلُّ من سارَ على نهجَه، واتبعَ سُنَّتهُ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ: فأوصيكم أحبابي في الله ونفسي بتقوى اللهِ -تعالى-، فاتقوا اللهَ ربكم، واعتبروا بما ضاعَ من أوقاتكم، واغتنموا ما بقي من أعماركم، واتعظوا بمن مضوا من أقرانكم؛ فإنكم على دربهم سائرون، وإلى مآلهم صائرون، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الانشقاق: 6] فطوبى لمن كان لنفسه ناصحاً، واجتهد ليكون كل عملِه صالحاً، ولوجه اللهِ -تبارك وتعالى- خالصاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
أيها الأحبة الكرام: اسمعوا لما يقوله ربكم -جل جلاله- عن كتابه العظيم: (إِنَّ هَذَا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[الإسراء: 9]، ويقول عزّ وجل: (وَإنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت: 41-42].
هذا القرآن العظيم كما جاء في الأثر: "فِيهِ نَبَاُ مَن قَبْلَنا، وَخَبَرُ مَن بَعْدَنا، وَحُكْمُ مَا بَيْنَنا، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ اَضَلَّهُ اللَّهُ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ النُورُ المبِينُ، وَهُوَ الشِفَاءُ النَافِعُ، عِصْمَةٌ لمن تَمسْكَ بهِ، ونجَاةٌ لمن تَبِعَهُ، لَا يَعْوجُ فَيُقَوَّم، ولا يَزِيغُ فيُستَعتَب، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْاَلْسُنَ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ اُجِرَ، وَمَنْ دَعَا اِلَيْهِ هُدِيَ اِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
هذا القرآن العظيم هو الذي صنع التاريخ والجغرافيا لأمَّةِ الإسلام، وما كان للمسلمين قبل القرآن أيُّ رصيدٍ حضاري بين الأمم، وما كانت الأمَّة الإسلامية قبل نزوله شيئاً مذكورا، فالقرآن العظيم بفضل الله هو الذي نهض بأمَّة العرب، وحولهم من رعاة غنم إلى قادة أُمم، وهو الذي نقلهم من مستنقع التخلف والرجعية، والضعف والتبعية، والتفرق والجاهلية، إلى منصات العز والريادة والخيرية، والحضارة والتقدم، وقيادة البشرية، وصدق الله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ)[الشورى: 52-53].
والسؤال الذي يفرض نفسه: إذا كان القرآن العظيم الذي نتلوه اليوم، وتمتلئ به مساجدنا ودورنا، هو نفس القرآن الذي تنزَّل على أولئك الأبطال الأماجد، فلماذا لا ينقلنا كما نقلهم؟ وقبل ذلك: لماذا لا يُغيرنا كما غيرهم؟ فينصلحَ حالُنا كما أنصلح حالهم: أين يكمن الخلل؟ وما هو السبيل الصحيح للحل؟
لا شك -يا عباد الله-: أن السرَّ يكمن في طريقة التعامل مع القرآن الكريم، فقد كان لهم طريقة تختلف كثيراً عن طريقتنا، ولهم تعامل مع القرآن لا يشبه تعاملنا، فإذا كنا حقًا نريد أن نصحح أوضاعنا، وأن نصلح أحوالنا، وأن تعود الخيرية لنا، فعلينا أن نتعلم جيداً: (كيف نتعامل مع قرآن ربنا؟)، أو بصورة أدق وأعمق: أن نطبق المنهج الرباني القويم في التعامل مع القرآن الكريم.
وأعيدها مرة أخرى: أن نطبق المنهج الرباني القويم في التعامل مع القرآن الكريم، فتعالوا بنا أحبتي في الله لنتعلم هذا المنهج الرباني القويم في التعامل مع القرآن الكريم، ثم نسعى بكل جد وحرصٍ على تنفيذه وتطبيقه، وصدق الله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)[القمر: 22].
فارعوني -يا رعاكم الله- عقولكم قبل آذانكم، واستمعوا وأنصتوا جيداً؛ لقول ربكم -عز وجل-: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 151] هذه الآية الكريمة في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، يقول الله -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[آل عمران: 164]، وفي سورة الجمعة يقول الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[الجمعة: 2]، وفي سورة البقرة أيضاً أورد الله -عزَّ وجلَّ- دعاء الخليل إبراهيم -عليه السلام- لهذه الأمة المرحومة، فاسمع ما قال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)[البقرة: 129].
تأمل -يا رعاك الله-: فالقاسم المشترك بين هذه الآيات الأربع هو: (يتلو عليهم)، (يعلمهم الكتاب والحكمة)، (يزكيهم).
إنها ثلاث وظائفٍ نبويةٍ كبرى، تكرر ذكرها في أربع آيات مختلفات، هذه الوظائف الثلاث، تلخص المنهج الرباني القويم في التعامل مع القرآن الكريم: الوظيفة الأولى: التلاوة، والوظيفة الثانية: تعليم الكتاب والحكمة، والوظيفة الثالثة: التزكية.
فتعالوا بنا -أحبتي الكرام- لنتعلم هذه الوظائف الكبرى بشيء من التفصيل وحسب ما يسمح به مقام الخطبة: الوظيفة الأولى: وظيفة التلاوة، وقد أوضح الله -تعالى- لنبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- الطريقة الصحيحة لتلاوة القرآن بقوله تعالى: (وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلًا)[المزمل: 4]، وفي الحديث المتفق عليه: "الماهرُ بالقرآن مع السفرة الكرام البررة"، فلكي تؤتي قراءة القرآن ثمرتها المرجوة، فينبغي أن تكون قراءة مرتلة، وبانتباه عقلٍ، وحضورِ قلبٍ، أي أنها قراءةٌ بوعيٍّ وتركيز، يتواطأ فيها العقلُ والقلبُ واللسانُ، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[ق: 37].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "لا تهذوا القرآن هذ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه، حركوا به القلوب، ولا يكن همَّ أحدكم آخر السورة"، وقال أحدهم لابن عباس -رضي الله عنهما- إني رجلٌ سريع القراءة وربما قرأت القرآن في الليلة مرةً أو مرتين فقال ابن عباس: "لأن أقرأ سورة واحدة أحبُ إلي من أن أفعل فعلك، فإن كنت ولا بد فاعلا فاقرأ قراءة تُسمع أُذنيك ويعيها قلبُك".
وفي وصف هديه صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن، يقول العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "كان للرسول -صلى الله عليه وسلم- حِزب من القرآن يقرؤه ولا يُخِلُّ به، وكانت قراءتُه ترتيلاً لا هذَّا ولا عجلة، بل قِراءةً مفسَّرة حرفاً حرفاً، وكان يُقَطِّع قراءته آية آية، وكان يمدُّ عند حروف المد، فيمد (الرحمن)، ويمد (الرحيم)، وكان صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية يرددها حتى الصباح، وكان صلى الله عليه وسلم يتغنَّى بالقرآن، ويُرجِّع صوتَه به، ويقول: "زَيِّنُوا القرآن بأصْواتِكُم"، "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقرآن"، "ما أَذِنَ اللهُ لِشَيء، ما أَذَن لِنَبيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقرآن"، هذه هي الوظيفة الأولى.
أما الوظيفة الثانية: فهي تعلم وتعليم الآيات ومدارستها، وبهذه الوظيفة الشريفة يصبح المؤمن كما وصفه الله ربانياً، قال تعالى: (وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)[آل عمران: 79، والرباني هو: من تربى على الكتاب والسنة وربى غيره عليهما، فهو عالمٌ عاملٌ متعلم معلم، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "الربّانِّيُ هو الذي يربي الناس على شريعة الله بالعلم والدعوة والعبادة والمعاملة"، وقال غيره: "الرباني هو من يربي نفسه ويعلِّمُ ويربي غيره، ويعمَلُ بما عَلِمَ وعَلَّمْ".
وجاء في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، والخيرية هنا مطلقة، فهو خير الناس من كل وجه.
أما طريقة التعلم والمدارسة فقد أوضحها التابعي الجليل أبو عبد الرحمن السلمي بقوله: "حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل، قال: فتعلمنا العلم والعمل معا".
وهذا لا يكون إلا بمنهج التعلم والمدراسة لآيات القرآن وسوره، والمقصود بالتعلم والمدراسة تتبُعِ صِيغِ العبارات والمفردا، ووجوه المعاني والدِلالات، واستنباط الفوائد والهدايات، وذلك من كل آيةٍ أو سياقٍ أو سورةٍ.
ولشِدَّة أهميةِ هذه الوظيفة فقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يتدارس القرآن الكريم مع جبريل -عليه السلام- في كل ليلة من ليالي رمضان المباركة، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة"(رواه البخاري)، فالتدارس إذن هو أساس التعلم إذ لا تعلم إلا بمدارسة.
ولأهمية هذه الوظيفة لكل مسلم، فقد رتب الشارع الحكيم لها مجموعة من الجوائز والحوافز العجيبة؛ كما جاء في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ويقال لهم في آخر المجلس: قوموا مغفوراً لكم".
وعن عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أيكم يحب أن يغدو إلى بُطحان والعقيق فيأخذَ ناقتين كوماوين زهراوين بغير إثم بالله ولا قطيعة رحم؟" قالوا: كُلنا يا رسول الله، قال: "فلئن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خيرا له من ناقتين وإنْ ثلاث فثلاث، ومثلُ أعدادهن من الإبل"(رواه مسلم).
ثم إن الملاحظ -يا عباد الله- أن قارئ القرآن لا يكاد يتجاوز عدة آيات حتى يُذكَّرَ من جديد، ليُفَعِّلِ مداركه ويُعْمِلَ حواسه لتعَلُّمِ ودراسةِ وتدبر آيات القرآن: أفلا تعقلون؟ أفلا تتفكرون؟ أفلا تتذكرون؟ أفلا تسمعون؟ أفلا تبصرون؟ أفلا ينظرون إلى..؟ أفلا يتدبرون القرآن..؟ قل سيروا في الأرض فانظروا..؟ إن في ذلك لذكرى..؟ أولم يهد لهم ..؟ وهذا في القرآن كثيرا جداً.
ثم إن محصلة الوظيفتين السابقتين أعني التلاوة والمدارسة هو ما سماه القرآن الكريم بالتدبر، والذي هو الغاية الكبرى من إنزال القرآن الكريم، قال عزَّ وجلَّ: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[ص: 29]، ولولا التدبر لما حصل التذكر والاعتبار ويقظة القلب؛ قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24]، وقال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[ق: 37].
بقي معنا الوظيفة الثالثة، نتحدث عنها -بإذن الله- في الخطبة الثانية.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وكماله وعظيم سلطانه...
وبعد: فقد قلنا أن التدبر هو محصلة التلاوة والمدارسة، ثم إن التدبر يثمر التزكية، وهي الوظيفة الثالثة: (ويزكيهم)، والتزكية هي تطهير النفس من المعاصي، وتربيتها على الفضائل والمعالي، ومن دعاء المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها".
ولأهمية التزكية أقسم الله -تعالى- في كتابه الكريم أحد عشر قسماً متوالية على فلاح من زكى نفسه، وعلى خسران من أهمل ذلك، قال تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)[الشمس: 1- 10].
والتزكية هي طريق الجنة، قال الله -تعالى-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 41].
وتنقسم التزكية إلى قسمين: التحلية، والتخلية، ويقصد بالتخلية: تطهير النفس من الأخلاق الرذيلة، وأما التحلية: فهي التحلي بالأخلاق الفاضلة.
والتدبر هو أن تقرأ الآية فتنظر إلى موقعها من نفسك، وآثارها على قلبك وعملك، فتنظر ما مرتبتك منها؟ وما مستواك من تطبيقها أو مخالفتها؟ وما آثار ذلك على نفسك وتصرفاتك وتعاملاتك وردود أفعالك، ثم تنظر في مآلآت الآيات وعواقبها ونهايتها في نفسك وفيمن حولك، بحيث يحصل التذكر والاعتبار والإبصار لحقائق الآيات ومقاصدها وفوائدها، إبصاراً يملأ قلب المؤمن إيماناً وتقواً ويقيناً يحمله على التخلق بأخلاق القرآن، ولذا حين سُئلت أمنا عائشة -رضي الله عنها- عن خلق الحبيب -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان خلقه القرآن"، يقول الإمام ابن القيم: "ليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معانيه .. فإنه يورث المحبة والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجره عن كل الصفات والأفعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه .. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، ولو أن القارئ إذا مرَّ بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه، وعلاج دائه، كررها ولو مائة مرة ولو ليلة كاملة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خيرٌ وأنفعُ للقلب من قراءة ختمة كاملة بغير تدبر وتفهم ..
وحتى نتذوق طعم هذه المنهجية الربانية، في التعامل مع الآيات القرآنية، فلنطبق مجالس المدارسة، فلو أن شخصين أو ثلاثة أو أربعة يجتمعون بهذا القصد المبارك، وحبذا لو كان فيهم من يملك حظاً من العلم الشرعي، فيبدؤون بتحديد آيات قليلة، أو سورة قصيرة؛ لتكون موضوع المدارسة، ثم يتلون الآيات المختارة تلاوة مرتلة، ويكررون الترتيل عدة مرات، ثم يتعرفون على معاني الكلمات الغير مألوفة، وكذلك المعنى العام للآيات، وما تدل عليه من حكم وهدايات، مستعينين بأحد التفاسير المختصرة، إن تطلب الأمر ذلك، ودون الدخول في التفصيلات العلمية، إذ المجلس للتربية والتزكية، وليس للفقه ومسائل الخلاف، ثم يبدؤون بفتح باب التدبر والتفكر، حول مدلول الآيات وربطها بالنفس والكون، وذاك بهدف التخلق بأخلاق القرآن، والتأدب بآدابه، والامتثال السلوكي لتوجيهاته الحكيمة، ولو خرجوا من مجلسهم بتحديد واحدة أو اثنتين من الهدايات الظاهرة للآيات التي تم مدارستها، ثم التعاهد والحرص على امتثالها وتطبيقها في واقع حياتهم، والتواصي عليها بين أهليهم ومعارفهم، فستكون هذه بإذن الله هي التزكية المنشودة.
ألا وإن مما يصرف كثيرا من المسلمين عن تدبر القرآن ومدارسته: اعتقادهم صعوبة هذه المهمة، وهذا وهم كبير، فالقرآن كتاب هداية لكل الناس، ولذلك يسَّر الله -تعالى- فهمه وتدبره للجميع؛ كما قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)[القمر: 17]، وما تكرار هذه الآية الكريمة أربع مرات في نفس السورة، إلا لتأكيد سهولة فهمة وتدبره ومدارسته؛ فإن بقي بعد ذلك شيءٌ من الوهم فهو مدخل من مداخل الشيطان ليصرف العبد عن الاهتداء بهدايات القرآن الكريم.
تأملوا معي -يا عباد الله-: فلقد نزل القرآن الكريم بواسطة جبريل -عليه السلام-، فأصبح خير الملائكة وأفضلهم، ونزل القرآن الكريم على نبينا الكريم -صلى الله عليه سلم-، فأصبح خير الأنبياء والمرسلين وأفضلهم، ونزل القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك فأصبح خير الشهور وأفضلها، ونزل القرآن الكريم في ليلة القدر، فأصبحت خير الليالي وأفضلها، ونزل القرآن الكريم على أمّة الإسلام، فأصبحت خير أمة أخرجت للناس، ووالله ما نزل القرآن في قلب مسلمٍ فتدبره وتعلَّمه وعلَّمه وعمِل به وفق المنهج الرباني إلا أصبح خير الناس: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(والحديث في البخاري).
وعن أنس -رضي الله- قال: قال صلى الله عليه سلم: "إن لله أهلين من الناس" قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته"(والحديث صححه الألباني).
اللهم فاجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا...
اللهم صلِّ...
التعليقات