اقتباس
هيبة الراية المنسية: كان كلما غزا المنصور غزوة أخذ جنوده الرايات فيثبتونها على الأماكن العالية ثم يأخذونها حين يرحلون، وفي أحد الغزوات نسي أحد الجنود راية على أعلى التبة بين الحصون والقلاع بعدما فر أهلها وهرب جنود النصارى بين الشعاب والجبال، ورحل المسلمون ونسوا تلك الراية، فظل النصارى يرمقون تلك الراية في رعب شديد وهم يظنون أن المسلمين مازالوا هناك، وظلوا على ذلك زمن حتى علموا برجوع المسلمين منذ زمن، هكذا كانت العزة راية واحدة منسية أرعبت جنود النصارى وعاشوا من أجلها في ذعر ورعب وهلع..
شاب في عمر الورد أترع قلبه الطموح للوصول إلى الحكم، ولا غرو في ذلك فهو يضم بين برديه كثيراً من رجاحة الكهول وحكمة الشيوخ وحيوية الشباب كانت تبدو عليه مخايل النجابة وبواكير الرجولة ما يبشر أن هذا الهلال سيكون بدراً كاملاً في يوم قريب. مثال على النبوغ الشعبي، والترقي للعلا اعتماداً على النفس والمواهب والخلال الشخصية، دون إرث أو عائلة أو نفوذ أو مال، فقد نفس تواقة وقلب طموح وعقل رجوح وعزم يفل الحديد، وحماس يذيب الجليد. إنه أعظم ملوك الأندلس رغم أنه لم يكن خليفة ولا أمير، فقط حاجب للخليفة، ولكنه الحاجب المنصور، والمنصور دائماً.
المولد والنشأة:
اسمه بالكامل محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد ابن يزيد بن عبد الملك المعافري القحطاني، من أصول يمنية، جده الأكبر (عبد الملك المعافري) هذا كان أحد قادة الجند مع طارق بن زياد أثناء فتح الأندلس الأول. وكان أبوه (عبد الله بن محمد) من أهل الفضل والعلم حجّ ثم مات قافلاً من حجه في طرابلس المغرب. وأمه هي (بُريْهة بنت يحيى بن زكريا التميمي) من بنى تميم؛ لذلك قال فيه ابن دارج القسطلي:
تلاقت عليه من تميمٍ ويَعْرُبِ***شموسٌ تلالا في العلا وبدورُ
من الحِميْريْنَ الذين أكُفُّهم***سحائبُ تَهْمي بالنَّدى وبحورُ
وُلد محمد بن أبي عامر عام 327هـ، وهو العام الذي انهزم فيه المسلمون في عهد عبد الرحمن الناصر في معركة الخندق عند مدينة (شنت مانقش) أمام قلعة سمّورة المنيعة، وكأن ميلاد محمد بن أبي عامر في هذه السنة هو أخذ الله بثأر المسلمين على يدي المنصور.
خصاله ومواهبه:
نشأ محمد بن أبي عامر كمثله من أقرانه على القرآن والفقه إلا أنه كان ظاهر النجابة وكانت له حال عجيب في قوة الإرادة والطموح والسعي وراء هدفه حتى قال عنه ابن الآبار في كتابه (الحلة السيراء): "كان أحد أعاجيب الدنيا في ترقيه والظفر بتمنيه". وقال عنه ابن عذارى المراكشىّ في كتابه (البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب): "وكان محمد هذا حسن النشأة، ظاهر النجابة، تتفرس فيه السيادة".
ارتحل محمد بن أبي عامر إلى قرطبة حاضرة الدنيا طلباً للأدب وعلم الحديث، فطلب علم اللغة على أبي علي القالي البغدادي اللغوي المشهور وعلى أبي بكر ابن القوطية، وقرأ الحديث على أبي بكر ابن معاوية القرشي وغيره، فنبغ في تلك العلوم كلها ونما ذكره فيه.
كان للمنصور بن أبي عامر همة عجيبة وإرادة قوية وكان لديه حلماً عظيماً وهو أن يصبح حاكم الأندلس، وكان من شدة ثقته بتحقيق طموحاته وأحلامه، يخبر أصحابه بهذا والمقربين إليه، حتى إنه لربما قلدهم الخُطط والمناصب وهو مازال في حداثة سنّه، حتى إنه كان يبيت ليله يبحث عن الشخصيات المناسبة للمناصب الحساسة في الدولة مثل القضاء وولاة الأقاليم، حتى إنه كان يسأل ويتحرى عمن يصلح لهذه المناصب كما ذكر أبو الحسن النباهي في كتابه (المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا).
كان محمد بن أبي عامر حاد الذكاء، آية في الدهاء، شديد الطموح، قوي العزم، متعدد المواهب، ذو همة عالية تناطح السحاب طولاً وتملأ الأرض عرضاً. وكثيراً ما كان يجلس بين أصحابه وأبناء عمومته وينظر إلى الزهراء ويقول: يوماً ما سأحكم هذه الدولة، فيسخر أصحابه من كلامه ويبدؤون يحبطون من هممه ولكن دون جدوى فهو قد وضع الحكم نصب عينيه ولن تستطيع قوة في الأرض أن تقف بوجه طموحه العظيم وذكائه الباهر، وكان مثله الأعلى في ذلك (صقر قريش) فقد دخل الأندلس وحده مع تابعه (بدر) واستطاع أن يؤسس للأمويين دولة قوية ولكن (صقر قريش) كان يعولُ على حقه في إرث حكم آبائه، أما (محمد) فكان يعولُ على طموحه ودهائه.
المنصور وسلم المجد:
المتأمل لترقي المنصور ابن عامر في سلك القيادة والمناصب يرى عجب العجاب فالمنصور أول ما قام به وهو شاب صغير أن افتتح مكتباً بجوار قصر الخلافة لكتابة الشكاوى المرفوعة للخليفة الأموي وذلك للإنفاق على تعليمه بقرطبة وهذا العمل الصغير مكنه من الاتصال بأهل القصر من الخدم والحراس وغيرهم والذي نقلوا أخباره إلى سادة القصر خاصة السيدة (صبح) أم ولي العهد والحاجب عثمان المصحفي، حاجب الخليفة المستنصر الحكم بن عبد الرحمن الناصر.
التحق ابن أبي عامر بخدمة الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما رشحه الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ليكون وكيلاً لعبد الرحمن أول أولاد الخليفة، وهو ما عينه عليه الخليفة بموافقة من أم عبد الرحمن صبح البشكنجية، فعُيّن لذلك في 9 ربيع الأول 356 هـ، ثم ولاّه دار السكة في 13 شوال 356 هـ، ثم ولي خطة المواريث في 7 محرم 358 هـ، فقاضيًا على أشبيليه ولبلة وأعمالهما في 12 ذي الحجة 358 هـ. وبعد وفاة عبد الرحمن صغيرًا، بقي في خدمة أم الخليفة إلى أن أنجبت ولدها الثاني هشام، فأصبح وكيلاً لهشام في 4 رمضان 359 هـ. وفي جمادى الآخرة 361 هـ، جعله الخليفة الحكم على الشرطة الوسطى، ثم أنفذه إلى المغرب في شوال 362 هـ، بأموال كثيرة إلى المغرب لاستمالة زعماء البربر إلى جانب الخلافة، ثم أرسل مرسومه بتوليته قاضيًا لقضاة عدوة المغرب. ثم أسند إليه النظر على الحشم وهو في مرض موته. وكان عمر المنصور وقتها لم يتجاوز السابعة والعشرين فلقب (بفتى الدولة) وذلك بفضل مواهبه وإمكاناته الباهرة بين المنصور وصبح البشكنجية.
تذكر بعض المصادر التاريخية أن حبًّا عظيمًا نشأ بين صبح وبين محمد بن أبي عامر، وأن هذا الحب كان ذا سهم كبير –بجانب كفاءة ابن أبي عامر- في ترقيه في مناصب الدولة، والحق أن هذا الأمر من الروايات والقصص ذات الطابع الشعبي التي كانت تلقى رواجاً في الأدب والتاريخ الأندلسي وقتها، فصبح شابَّة جارية كانت عند الخليفة الذي كان في مرحلة الكبر، بينما ابن أبي عامر شاب يشتعل ذكاءً وحسنًا، ومقدرة على تصريف الأمور، ثم هو يتقرَّب إليها بين الحين والحين بالهدايا الفاخرة. ناهيك عن دفاع صبح المستميت عن ابن أبي عامر وثقتها الكاملة فيه، وكل هذه الأمور دفعت لسريان شائعات وهمهمات بوجود علاقة غرامية بين الطرفين، ولكن لا يوجد دليل ملموس يعتمد عليه لقبول مثل هذه الأخبار التي تحمل طعناً واضحاً في أخلاق ودين امرأة عفيفة ورجل من أعظم رجالات الأندلس.
ويمكن أن يُفَسَّر ما حدث بين صبح والمنصور على أنه في إطار المصلحة المشتركة، فابن أبي عامر لا عصبة له ولا عائلة يتكئ عليها، فلا بُدَّ له من وجود هشام في منصب الخليفة؛ ليبقى هو في مكانته من الدولة، وصبح جارية فلو لم يكن ولدها في منصب الخليفة لما كان لها شأن يُذْكَر، إلى جانب ما رُكِّب في الأُمِّ من غريزة حب الولد، التي تجعلها تجاهد ما استطاعت؛ ليكون ولدها هو الخليفة سيد البلاد.
سطوع نجم المنصور:
توفي الخليفة الحكم المستنصر في قصره بقرطبة بعدما أصيب بالفالج، وذلك في عام 366هـ، بعد أن حكم الأندلس 16 عاماً كانت كلها بركة وخير على المسلمين في الأندلس، وولي من بعده ابنه (هشام) وهو ابن اثنتي عشرة سنة 12 سنة وتسمّى وتلقب (هشام المؤيد بالله)، وكان وقتها بلغ محمد بن أبي عامر 39 عاماً، فكان لابد من رجل يدبر أمره ويقوم على عمل الدولة وتدبير الخلافة، فتكون مجلس وصاية على الخليفة الصبي ويتكون من أكبر 3 رجال في الأندلس وقتها: عثمان المصحفي الحاجب، وغالب الناصري قائد الثغور، ومحمد بن أبي عامر حاكم قرطبة وقائد شرطتها.
جاش الإسبان وهاجوا بعد وفاة الخليفة المستنصر حتى كادوا أن يطرقوا أبواب قرطبة، ولم يحرك الحاجب جعفر المصحفي ساكناً خوفاً على منصبه وتبعه في ذلك غالب الناصري قائد الثغور وكانت بينه وبين الحاجب جعفر المصحفي خلافة قديمة وبغضاً وكراهية شديدة، فلم يقم أي منهما لنصرة المسلمين وتأديب النصارى الذين هجموا على ثغور المسلمين، وعندها برز نجم المنصور بن أبي عامر فجمع الجند، وجهز الجيش، وخرج بنفسه للقاء الأعداء، وأوقع بهم هزيمة شديدة، وألزمهم الرجوع إلى مدنهم وقلاعهم، وقفل راجعاً إلى قرطبة بعد 52 يوماً من الغزو والجهاد وكان يوزع المال في طريق عودته إلى قرطبة على الجند والعوام حتى تمكن حبه في قلوب الناس، واستبشروا به جداً. وكان وصياً على الصبي هشام المؤيد بالله، فقام بإسقاط ضريبة الزيتون عن الناس، فسروا بذلك أعظم سرور، ونسب شأنها إلى محمد بن أبي عامر وأنه أشار إلى ذلك، فأحبوه لذلك ثم يقول ابن عذارى في البيان المغرب: "ولم تزل الهمة تحذوه، والجد يحظيه، والقضاء يساعده، والسياسة الحسنة لا تفارقه، حتى قام بتدبير الخلافة، وأقعد من كان له فيها إنافة، وساس الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة، فانتظمت له الممالك، وانضحت به المسالك، وانتشر الأمن في كل طريق، واستشعر اليمن كل فريق، وأسقط جعفراً المصحفي، وعمل فيه ما أراده".
التف المسلمون حول محمد بن أبي عامر، في الوقت الذي بدأت أيام الحاجب جعفر المصحفي في الزوال، فقد أفل نجمه وكورت شمسه ورغب الناس عنه، وأصبح يمشي وحيداً في طرقات الزهراء بعد أن كان من قبل كثيف الموكب وجليل الهيبة وكان الناس لا يستطيعون إلى الوصول إليه لكثافة موكبه. ثم أقدم محمد بن أبي عامر بالتحالف مع غالب الناصرىّ وتزوج ابنته "أسماء" وكان عرس مشهود في الأندلس كلها، وبدأت نكبة الحاجب جعفر المصحفي، فخلعه محمد بن أبي عامر وأصبح الحاجب من بعده.
المنصور والتخلص من المنافسين:
تحجب محمد بن أبي عامر لهشام المؤيد بالله، وحجره في قصره بالزهراء ومنع دخول الناس إليه وتصرف بالملك بنفسه واتخذ جميع مراسم الملك، ونقش اسمه على السكة، وخطب له على المنابر، تلقب (بالمنصور) وأصبح يدعى (الحاجب المنصور). وكان المنصور في أعماله التي يبدو على ظاهرها الانتهازية والطمع في الملك حريصاً على بقاء الأندلس متوحدة قوية صامدة أمام عدو متربص لا يكل ولا يمل، متشبهاً بصقر قريش عبد الرحمن الداخل الذي دخل الأندلس في ظروف مشابهة، بل إن المنصور نفسه قد صار قدوة لغيره من عظماء الإسلام، مثل السلطان سيف الدين قطز قاهر التتار، فقد عزل المنصور بن عزالدين أيبك عن حكم مصر بعد أن بان عجزه وضعفه أمام المهام الجسيمة. وكان للمنصور ابن أبي عامر الأسباب الدافعة لقراره حجب هشام المؤيد، ومن أبرزها:
أولاً: ضعف شخصية الخليفة الجديد (هشام المؤيد) وعدم صلاحيته لهذا المنصب الخطير خاصة أنه صغير السن مشتغل باللهو واللعب مع أقرانه.
ثانياً: زيادة الأخطار المحدقة بالمسلمين والآتية من ناحية الشمال حيث إسبانيا النصرانية خاصة بعد أن تنفسوا الصعداء بموت الخليفة القوي عبد الرحمن الناصر الذي خضد شوكتهم سنوات طويلة.
ثالثاً: ظهور بوادر لانقسامات داخلية خطيرة في دولة الإسلام بالأندلس؛ وذلك لزيادة العصبيات القبلية وكثرة الطامعين من ولاة الأقاليم المترامية في الانعزال والاستقلال عن جسد الدولة الأم.
رابعاً: فساد بعض رجال الحكم والوزارة أمثال (جعفر المصحفي) وولده محمد الذي كان يتولى رئاسة الشرطة وفي عهدهما انتشر الفساد والفسق واختل الأمن واضطربت الأمور.
خامساً: زيادة نفوذ الصقالبة الموالي وهم في الأصل عبيد عند الخليفة (الناصر) اشتراهم واصطفاهم في الحراسة والجند والجيش وترقوا حتى صاروا قوة كبيرة يخشى بأسها وقد زاد نفوذها داخل قصر الخلافة حتى إنهم هموا بالانقلاب على الخليفة (المؤيد) عدة مرات.
ظل المنصور عدة سنوات في صراع داخلي مع المتنفذين وأصحاب القوة والنفوذ في الأندلس وأصحاب المصالح الخاصة والطامعين في الإطاحة به، حتى تخلص من جميع منافسيه، وضبط الأندلس على أتم ما يكون من العدل والنزاهة، ومن أروع الأمثلة التي ضربها المنصور بن أبي عامر في العدل وعدم الرفق بأهل الغدر والظلم، ما حدث مع ابنه عبد الله بن المنصور بن أبي عامر حين لجأ إلى ملك ليون وأراد أن يساعده في الخروج على أبيه وشق عصا الطاعة وعزل أبيه، فكان ما كان من المنصور إلى أن أمر ملك ليون بتسليم ابنه، فسلمه ابنه عبد الله، وقام بضرب عنقه جزاء خيانته، ولم تأخذه به رأفة ولا رحمة.
عهد الفتوحات والبطولات الساحقة:
منذ أن أطلق (المنصور بن عامر) شرارة الحملات الجهادية ضد إسبانيا النصرانية سرت روح جديدة في قلوب المسلمين واشتعلت الحمية في قلوبهم فتقاطر المجاهدون المتطوعون على الأندلس من كل مكان، وخاض (المنصور) أكثر من خمسين معركة ضد الصليبيين انتصر فيها جميعًا ولم تنكس له راية أبدًا حتى سرى الاعتقاد بين كل الناس مسلمهم وكافرهم بأن (المنصور) مؤيد من السماء، والحق أن (المنصور) قد اعتمد في سياسته الجهادية على أسلوب الغزوات المستمرة المتعاقبة والذي كان يرمي من خلاله إلى غاية بعيدة المدى لم يفكر فيها أحد من قبله من أمراء الأندلس أو لم يقدروا عليها وهي سحق الممالك الإسبانية الصليبية سحقًا تامًا وأن يفكك عراها التي بدأت في الالتحام والترابط وبالتالي يجعل إسبانيا النصرانية كلها أرض مسلمة وكانت معظم حروب المسلمين من قبل (المنصور) للدفاع ورد عادية النصارى فلما جاء عهد (المنصور) كان هو البادئ بالغزو دائمًا ولم يقبل من النصارى قط صلحًا أو مهادنة ولم يقنع إلا بالنصر الكامل لذلك فهو أحق الناس بوصف (المنتصر دائمًا) وبالقطع بعد (خالد بن الوليد) -رضي الله عنه- وجيل الصحابة الأفذاذ، ومن أشهر معارك (المنصور) ضد الصليبيين ما يلي:
1-معركة شنت منكس: وكانت سنة 371هـ وفيها واجه (المنصور) تحالفاً صليبيًا مكونًا من أقوى أمراء الإسبان وهم (راميرو الثالث) أمير (ليون) و(جرسيا فرنانديز) أمير (قشتالة) و(سانشو) أمير (نافار) وانتصر المسلمون على النصارى الذين قتل منهم عشرات الألوف وتفككت عرى التحالف الصليبي الوليد.
2-معركة برشلونة: وهي من أعظم ثغور إسبانيا وقد فتحها المسلمون الأوائل مع بداية الفتح الأول ولتثبت مع المسلمين قرنًا من الزمان ولكنها سقطت سنة 185هـ وأصبحت شوكة في جسد الأمة المسلمة بالأندلس حتى جاء (المنصور) في سنة 375هـ واقتحمها بجيوشه الجرارة بعد معركة طاحنة مع أهل المدينة الذين قتل معظمهم ودحر المسلمون المدينة تمامًا وأسر أمير (برشلونة) وظل في السجن حتى مات ودمر (المنصور) قوى النصارى تمامًا في هذا الطرف النائي من شبه الجزيرة الإسبانية.
3-معركة جليقية: وهي أعظم المعارك على الإطلاق وتقع (جليقية) في أقصى غرب إسبانيا وتوجد بها مدينة (شنت ياقب) الدينية كعبة إسبانيا النصرانية ومزارها المقدس ورمز زعامتها الروحية وبها قبر القديس (يعقوب) بزعمهم ويقام له سنويًا احتفالاً ضخمًا مثل الموالد المعروفة يفد إليه النصارى من كل حدب وصوب من داخل إسبانيا، وقد قصدها بجيشه الجرار لأمرين أولهما: أنها كانت ملجأ لملوك وأمراء (ليون) الخارجين على طاعة (المنصور)، ثانيهما: ضرب إسبانيا النصرانية في صميم معقلها القاصي وصميم زعامتها الروحية وبالفعل بعد معركة طاحنة ورحلة شاقة عبر مفاوز الجبال الوعرة وفي 2شعبان 387هـ اقتحم المسلمون المدينة وخربوها تمامًا مع عدم المساس بقبر (يعقوب) القديس وأخذ (المنصور) نواقيس الكنيسة العظمى وحملها الأسرى على كواهلهم حتى قرطبة وعلقت رؤوسًا للثريات الكبرى لمسجد قرطبة.
4-معركة صخرة جربيرة: وكانت في 24 شعبان 390هـ وفيها تحالفت كل قوى النصرانية من أجل الصمود في وجه المسلمين والتقى الفريقان عند مكان شديد الوعورة يسمى (بصخرة جربيرة) وكاد (المنصور) أن يهزم لأول مرة في معاركه ولكن بسالة المسلمين وشدة بأسهم في القتال أنهت المعركة بهزيمة مروعة للتحالف النصراني وقتل معظم قادة الصليبيين وواصل (المنصور) سيره حتى فتح مدينة (برغش) عاصمة (قشتالة).
هيبة الراية المنسية: كان كلما غزا المنصور غزوة أخذ جنوده الرايات فيثبتونها على الأماكن العالية ثم يأخذونها حين يرحلون، وفي أحد الغزوات نسي أحد الجنود راية على أعلى التبة بين الحصون والقلاع بعدما فر أهلها وهرب جنود النصارى بين الشعاب والجبال، ورحل المسلمون ونسوا تلك الراية، فظل النصارى يرمقون تلك الراية في رعب شديد وهم يظنون أن المسلمين مازالوا هناك، وظلوا على ذلك زمن حتى علموا برجوع المسلمين منذ زمن، هكذا كانت العزة راية واحدة منسية أرعبت جنود النصارى وعاشوا من أجلها في ذعر ورعب وهلع.
دينه وأخلاقه وورعه:
ربما يتخيل البعض أن رجلاً من طراز المنصور بن أبي عامر ربما كان ميكيافيلاً الغاية تبرر عنده الوسيلة، فلا يبالي بدين أو شرع من أجل تحقيق أهدافه وطموحاته، والأمر غير ذلك تماماً، وبشهادة معاصريه وربما بشهادة خصومه أنفسهم.
فقد كان -رحمه الله- شديد التدين، قمع أهل البدع وأقام السنة، وبلغه أن مكتبة الحكم المستنصر بها كتب بعض الفلاسفة والملاحدة التي تنافي أصول الدين، وعلم بانتشار تلك الكتب وكادت أن تفسد عقائد الناس فقام بحرقها والتخلص منها ولله الحمد والمنة، وفي هذا يقول ابن عذاري: "وكان المنصور أشدّ الناس في التغير على من عَلِمَ عنده شيء من الفلسفة والجدل في الاعتقاد والتكلم في شيء من قضايا النجوم وأدلتها، والاستخفاف بشىء من أمور الشريعة، وأحرق ما كان في خزائن الحكم من كتب الدّهريّة والفلاسفة بمحضر كبار العلماء، منهم الأصيلىّ وابن ذكوان والزبيدىّ وغيرهم واستولى على حرق جميعها بيده.
وكان شديد التعظيم للعلماء بدرجة كبيرة جداً، فقد ذكر النباهي في كتابه (المرقبة العليا) في ذكره لترجمة العالم الجليل محمد بن يبقى بن زرب: "وأظهر ابن أبي عامر لموته غمّاً شديداً، وكتب لورثته كتاب حفظ ورعاية انتفعوا به، واستدعى ابنه، وهو طفلٌ ابن ثلاثة أعوام، فوصله بثلاثة آلاف دينار، وألطافٍ قيمتها ما يناهز العدد المسمّى، وليس ذلك من أفعال المنصور ببدع، فقد كان في حسن معاملته للناس والوفاء لهم بمنزلةٍ لا يقوم بوصفها كتابٌ، حتى يُقال إنه لا يأتي الزمان بمثله في فضله، ولا ظفرت الأيدي بشكله.
قال ابن حيان في كتابه عن المنصور بن أبي عامر: "وكان متسماً بصحة باطنه، واعترافه بذنبه، وخوفه من ربه، وكثرة جهاده، وإذا ذُكّر بالله ذكر، وإذا خُوّف من عقابه ازدجر". قال ابن خلدون مخبراً عن المنصور بن أبي عامر: "أرخص للجند في العطاء وأعلى مراتب العلماء وقمع أهل البدع، وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين".
كان المنصور قد اختط بيده مصحفاً يحمله معه في غزواته ويقرأ فيه ويتبرك به!، وكان يحمل معه أكفانه وكانت أمنيته التي يدعوا الله بها دائماً أن يتوفاه الله وهو في طريقه للغزو والجهاد. وكان المنصور بن أبي عامر على مذهب الإمام مالك على عادة أهل الأندلس وقتها وقد أمر المنصور الفقيه المشهور أبو مروان القرشي المعيْطي والفقيه أبو عمر أحمد بن عبد الملك المعروف بابن المكوي أن يجمعوا كتاباً فيه أقاويل الإمام مالك بن أنس -رضى الله عنه-وروايات أصحابه عنه؛ لينتفع به علماء المسلمين.
وفاة الأسد العصامي:
من عاش على شيء وداوم عليه فلابد أن يموت عليه و(المنصور) قضى حياته كلها في الجهاد في سبيل الله فمن الطبيعي أن يموت مجاهدًا وقد كانت تلك أسمى أمانيه حتى إنه كان يحمل أكفانه حيثما سار إلى غزوة وهي أكفان صنعت من غزل بنانه واشتريت من خالص ماله الموروث وقد استجاب الله دعاءه فوافته المنية في 27 رمضان سنة 392هـ بمدينة (سالم) ودفن بها بعد أن دفن معه غبار كل معاركه التي خاضها في سبيل الله، وكان يحتفظ بها طوال رحلته الجهادية الطويلة لأعدائها وتحقيقه أمنها ورخائها ولم يستخدم قط سلطانه إلا لخير الإسلام وخير الأمة، وقد كتب هذان البيتان من الشعر على شاهد قبره:
آثاره تنبيك عن أخباره***حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله***أبدًا ولا يحمي الثغور سواه
التعليقات