عناصر الخطبة
1/عواقب المكر الخبيث 2/افتقاد الثقة مشكلة عصرية 3/نهاية المكر السيئ 4/كيفية التعامل مع الماكرين.

اقتباس

لا يعودُ وبالُ المكرِ الخبيثِ إلا على صاحبِه، قَولاً من اللهِ صِدقاً، ووعداً من اللهِ حقَّاً، مهما ظَنَّ الماكرُ في نفسِه من الفطنةِ والذَّكاءِ، ومهما اغتَرَّ في تخطيطِه من التَّدبيرِ والدَّهاءِ، فهل بعدَ ذلكَ سيحاولُ المسلمُ أن يكيدَ بالسُّوءِ لأخيهِ المسلمِ؟، وهل سيُخطِّطُ الجارُ للتَّضييقِ على جارِه؟، وهل سيكذبُ الإنسانُ ليَأكلَ أموالَ النَّاسِ بالباطلِ؟...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، وَلاَ نَستَعِينُ إِلاَّ بِهِ، وَلاَ نَسأَلُ سِواهُ.

 

وَنَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الكَرِيمُ، الهَادِي بِإِذْنِ رَبِّهِ إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ، صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم؛ فَزَحْزَحَهُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَزلَفَ لَهُمُ الجَنَّةَ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: عندما تقرأُ القرآنَ قراءةَ تأمُّلٍ وتفَكُّرٍ، وتَأتي على قولِه -تعالى-: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)[فاطر:43]، وتعلمُ أنَّ المعنى، أيْ: لا يعودُ وبالُ المكرِ الخبيثِ إلا على صاحبِه، قَولاً من اللهِ صِدقاً، ووعداً من اللهِ حقَّاً، مهما ظَنَّ الماكرُ في نفسِه من الفطنةِ والذَّكاءِ، ومهما اغتَرَّ في تخطيطِه من التَّدبيرِ والدَّهاءِ، فهل بعدَ ذلكَ سيحاولُ المسلمُ أن يكيدَ بالسُّوءِ لأخيهِ المسلمِ؟، وهل سيُخطِّطُ الجارُ للتَّضييقِ على جارِه؟، وهل سيكذبُ الإنسانُ ليَأكلَ أموالَ النَّاسِ بالباطلِ؟، وهل سيُجرِّبُ الموظفُ أن يمكرَ بالباطلِ على زميلِه في العملِ؟، وهل سيستمرُ الخائنُ في خِداعِ من حولِه من البَشرِ؟

 

اليومَ –وللأسفِ- أصبحَ عندَ الكثيرِ أزمةُ "عدمِ الثِّقةِ" حتى في أقربِ إنسانٍ؛ وذلكَ لأنَّهم تعرَّضُوا إلى الكثيرِ من المواقفِ والأحزانِ، التي أثبتتْ لهم أن َّالوفاءَ عملةٌ نادرةٌ في هذا الزَّمانِ، بل يقولُ أحدُهم: أنا لا أستغربُ عِندما أُطعنُ في ظَهري، لكن المُحزنُ عندما ألتفتُ فأراهُ من كانَ قريباً إلى قلبي، وصدقَ الشَّاعرُ:

إنَّ الأفاعيَ وإن لانتْ مَلامسُها *** يَومَ التَّقلُّبِ في أَنيابِها العَطبُ

 

فهل يليقُ -أيُّها الأحبَّةُ- بالمجتمعِ المُسلمِ أن يكونَ فيه هذا الأمرُ المؤلمُ؟! واللهِ لو آمنَّا بما في هذه الآيةِ: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)[فاطر:43]، بصدقٍ، واستشعرنا هذا المعنى بعُمقٍ، لعاشَ النَّاسُ في وفاءٍ وأمانةٍ، بعيداً عن الغدرِ والخيانةِ، فأينَ هؤلاءِ عن قولِه -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ)[فاطر:10]؟ فهو مكرٌ فاسدٌ زائلٌ، لا يضرُّ إلا صاحبَه، وأينَ هم عن قولِه -صلى الله عليه وسلم-: "المكرُ والخِداعُ في النَّارِ"، وأينَ هم عن قولِ العربِ قديماً: "مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ جُبًّا، وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا"، وأينَ هم عن قولِ النَّاسِ حديثاً: "مَن حَفرَ حُفرةً لأخيهِ وَقعَ فيها"، وأينَ هم عن قولِ الشَّاعرِ:

قَضَى اللهُ أنَّ البَغيَ يَصرعُ أَهلَه *** وأنَّ على البَاغِي تَدورُ الدَّوائرُ

ومَن يَحتفِرْ بِئراً ليُوقِعَ غَيرَه *** سَيُوقَعُ في البِئرِ الذي هُو حَافرُ

 

ومن يتأملْ في سورةِ يوسفَ، يجدُ هذا واضحاً في جميعِ من كادَ ليوسفَ -عليهِ السَّلامُ- بالشَّرِ: فها هم إخوةُ يوسفَ -عليهِ السَّلامُ- يكيدونَ له وهو صغيرٌ، ويُلقونَه في الجُبِّ وحيداً دونَ أدنى ضميرٍ، ثمَّ تتقلبُ الأعوام فيهِ وفيهم، حتى يقفوا أمامَه نادمينَ، وهم يقولونَ: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)[يوسف:91].

 

وها هي امرأةُ العزيزِ تكيدُ له كيداً عظيماً، وتتهيأُ له بالسُّوءِ، وتتَّهمُ له بالظُّلمِ، ثُمَّ ها هي تقفُ أمامَ الجميعِ لتقولَ: (الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)[يوسف:51]. وها هم نِسوةُ المدينةِ يكيدونَ له ليصلوا إلى ما يُريدونَ من السُّوءِ، فخافَ على نفسِه ودعا ربَّه: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)[يوسف:33]، والآنَ يقفونَ أمامَ الملكِ والنَّاسِ ليعترفوا بنزاهتِه وأمانتِه: (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ)[يوسف:31]. وهكذا دائماً وأبداً هي نهايةُ المكرِ السيئ.

 

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بالآياتِ والذِّكرِ الحَكيمِ، أَقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ الذي بنعمتِه تَتِّمُ الصالحاتُ، يَعلمُ السِّرَّ ومَقاصدَ النياتِ، إليهِ يَصعدُ الكَلِمُ الطيبُ وتُرفعُ إليه الطَّاعاتُ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، الهَادي إلى صِراطٍ مُستقيمٍ، فاللهمَّ صَلِّ وسلمْ وباركْ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه أَجمعينَ، ومن تَبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.

 

أما بعد: ويأتي السُّؤالُ: كيفَ العملُ مع أُناسٍ، جلودُهم جلودِ الضَّأنِ، وقلوبُهم قلوبِ الذِّئابِ؟، يَصدقُ عليهم:

يُعطيكَ من طَرَفِ اللِّسانِ حلاوةً *** ويَروغُ منكَ كما يروغُ الثّعلبُ

فالجوابُ سهلٌ: بالصَّبرِ والتَّقوى، (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران:120].

 

كَانَ أصحابُ البُخاريِّ -رحمَه اللهُ- يَقولونَ لَهُ: إنَّ بَعضَ النَّاسِ يَقعُ فِيكَ، فيَقولُ: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)[النساء:76]، ويَتلو: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)[فاطر:43]، فَقالَ لهُ عبدُ المجيدِ بنُ إبراهيمَ: كَيفَ لا تَدعو اللهَ على هؤلاء الذينَ يَظلمونكَ، ويَتناولونَكَ، ويَبهتونَكَ، فقَالَ: قَالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اصبروا حَتى تَلقوني على الحَوضِ"، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن دَعا عَلى ظَالمِه فقد انتصرَ".

 

فكيفَ يخافُ المؤمنُ من كيدِ الخائنينَ، واللهُ يقولُ: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)[الحج:38]، وكيفَ نخشى من خِداعِ الماكرينَ، واللهُ يقولُ: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)[النحل:26]، فالصَّبرَ .. الصَّبرَ.

 

اللهمَّ إنا نَسألُك مُوجباتِ رحمتِك، وعَزائمَ مغفرتِك، والسلامةَ من كلِّ إثمٍ، والغَنيمةَ من كلِّ برٍّ، والفوزَ بالجنةِ، والنجاةَ من النارِ.

 

يا حيُّ يا قيومُ برحمتِك نستغيثُ، أصلح لنا شأنَنا كُلَّه، ولا تكلنا إلى أنفسِنا طَرفةَ عينٍ.

اللهم نَسألُك من الخيرِ كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذُ بك من الشرِ كلِّه، عاجلِه وآجلِه ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزِدنا ولا تُنقصنا، وأكرمنا ولا تُهنَّا.

 

اللهمَّ رغبنا فيما يَبقى، وزَهدَّنا فيما يَفنى، واغفر لنا الآخرة والأولى، اللهمَّ اجعل رِزقَنا رَغداً، ولا تُشمت بنا أَحداً، ولا تَجعل لكافرٍ علينا يَداً، اللهم آمنا في أوطانِنا، واحفظ ولاةَ أمورِنا، ووفقْ بالحقِ إمامَنا ووليَ أمرِنا.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، سبحان ربِّنا رب العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات
المكر-السيئ.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life