المعية الإلهية لأصحاب المنهج الإسلامي

أحمد المسلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

اقتباس

هذا ميثاق تحالف بين القوة العظمى المهيمنة على الكون، المتصرِّفة فيه، المسيِّرة شؤونه، وبين كل من يتم شروط هذا الميثاق، وهذا العهد، فهذا الميثاق وهذه الشروط -المقدَّمة سلفًا- من مُدبِّر الكون ليست حِكرًا على فرد من الأفراد، أو جماعة من الجماعات، أو دولة من الدول، بل هي اتفاقية ممهد طريقها سلفًا ومعلومة نتائجها مُقدَّمًا لكل من يقوم بشروطها ويُنفِّذ تعهداتها، ولِم لا! وقد وضعها الله المهيمن ربّ العالمين، وتُليت في الكتاب الخاتم على الرسول الخاتم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فهي للعالمين جميعًا.

 

 

 

 

أنزل الله القرآن للمؤمنين العاملين هدىً ونورًا، ومنهجًا مُبينًا يوضح لهم الطريق ويُبصرِّهم بنور خطواته، ومن الهدي القرآني أن يُبيِّن للعاملين للأمة والدين سبل الهدى، وطريق النصر، وفي هذا يقول ربنا -عز وجل- بسورة المائدة: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ? وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ? لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ? فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [المائدة: 12].

 

هذا ميثاق تحالف بين القوة العظمى المهيمنة على الكون، المتصرِّفة فيه، المسيِّرة شؤونه، وبين كل من يتم شروط هذا الميثاق، وهذا العهد، فهذا الميثاق وهذه الشروط -المقدَّمة سلفًا- من مُدبِّر الكون ليست حِكرًا على فرد من الأفراد، أو جماعة من الجماعات، أو دولة من الدول، بل هي اتفاقية ممهد طريقها سلفًا ومعلومة نتائجها مُقدَّمًا لكل من يقوم بشروطها ويُنفِّذ تعهداتها، ولِم لا! وقد وضعها الله المهيمن ربّ العالمين، وتُليت في الكتاب الخاتم على الرسول الخاتم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فهي للعالمين جميعًا.

 

شروط قد وضعها الله -عزّ وجل- لبني إسرائيل هي خمسة شروط لتحقيق الموعود لهم، موعود الله -عز وجل-، المعية بالدنيا والآخرة: وموعوده هي المعية: (إِنِّي مَعَكُمْ): المعية بصورها المُتعدِّدة التي لم تكن أبدًا في الدنيا فحسب، بل بالدنيا والآخرة، هذه المعية لها صورها المُتعدِّدة في الدنيا والآخرة.

 

فمِن صور المعية بالدنيا:

 

1- أن يهديك الله -عز وجل- إلى الحق وطريقه؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ?وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص:56]، فيهديك هداية الدلالة إلى الحق أولًا وهداية التزام هذا الحق ثانيًا، فيصير القول مُطابقًا للعمل، والاثنان مطابقين لِما في الجنان.

 

2- ومن صور المعية أن يهديك الله -عز وجل- إلى الطائفة المتمسكة بالطريق: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ? وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28]، فلا يكفي أن تهتدي إلى الطريق فحسب؛ بل لازم من الطريق أن تجد من يعينك عليه، لأن الله قال: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].

 

3- وبعد أن يهدي الله هذه الطائفة المؤمنة للطريق والعمل به، يهديهم إلى الدعوة إليه والتواصي، كما قال عز وجل: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1-3]، وهذه صورة ثالثة من صور المعية أن يُسيِّر الله هذه الطائفة لخدمة الحق والتمسك به والدعوة إليه.

 

4- ومن صور هذه المعية بعد التمسك بالحق والدعوة إليه؛ أنه لازم من الابتلاء، وأنه من نتائج هذا الابتلاء تمايز الصفوف لكي يكون الصف الإسلامي حامل راية التوحيد، والمنهج الإسلامي كالذهب بعد تنقيته بالنار، فيُخرِج من كان في قلبه مرض: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت:2]، وهذا التمايز في الصفوف لا بد منه، بل هو من أنصع صور المعية لله، فماذا يحدث لو احتدم الصراع بين المؤمنون وغيرهم، وكان في الصف من هو بعيد عن المنهج وكان في قلبه مرض، فكان لازم هذا التمايز: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ).

 

5- ومن صور هذه المعية -وليست آخرها بل إحداها- هي النصر إن هم ثبتوا على الطريق، فهذا النصر ليس من ذكاء المؤمنين أو حسن تخطيطهم وتدبيرهم أو قوة عِدَّتهم وكثرة عَتادهم، بل من عند الله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ? وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ? وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ? إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:17].

 

هذه بعض صور المعية للطائفة المؤمنة المتمسكة بمنهج ربها، نقول: هذه صور من صورها، وليست كل صورها، فصورها عديدة على الحصر، فأن تثبت الطائفة المؤمنة ولا تنهزم فهذه معية، وإن ينتصر الباطل فهذه معية، وأن ينشأ جيل جديد بعد سنوات التيه فهذه معية، وأن يصطفي الله الشهداء هذه معية، وأن يصقل الرجال ويربيهم للأمة هذه معية، والمُتأمِّل في سير المشروع الإسلامي والدعوة الإسلامية منذ نزول الوحي من ربِّ العِزَّة على سيد الخلق يلحظ هذا الأمر جيدًا في سير التاريخ.

 

صور المعية بالآخرة:

 

دائمًا أبدًا يلفتنا ربنا في كل خطاب أن الفوز الحقيقي ليس هنا بالدنيا، بل هناك بالآخرة، يوم تبيضُّ وجوهٌ وتسود وجوه، يوم تتطاير الصحف فيأخذ من يأخذ الكتاب بيمينه ومنهم من يتلقفه بشماله، فَفِي هذه اللحظة يصدق قول ربنا في سورة القارعة: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) [القارعة:6-9].

 

وفي هذه اللحظة يكون المؤمنون جميعًا في أشد الحاجة إلى المعية الربانية، فتأتي هذه المعية كسفينة النجاة للمستغيث في البحر لتُرسِله إلى شط النجاة على باب الجنة.

 

وذكر ربنا صورتين فقط لهذه المعية:

 

أولًا: تكفير السيئات؛ قال تعالى: (لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).

 

ولِمَ لا! وقد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عن أبي ذر ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخُلقٍ حَسن". رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".

 

ثانيًا: دخول الجنة: (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).

 

ولم يقُل ربنا -عز وجل-: جنة واحدة، وإن كانت واحدة تكفي؛ بل قال -جل جلاله-: (جَنَّاتٍ)، وجاء بكلمةٍ جنات نَكِرة ولم يُعرِّفها، فلم يذكر ما فيها إلَّا نعيمًا واحدًا: أنها تجري من تحتها الأنهار، أي تنبع منها الأنهار.

 

إذا كانت هذه من صور المعية بالدنيا والآخرة فما المطلوب إذًا لإتمام هذا الميثاق؟! وما هو الثمن المبذول للحصول على هذه المعية؟!

 

وضّح ربنا -عزّ وجل- خمس شروط لكي ينال المؤمنون أصحاب المنهج الإسلامي هذه المعية وهي:

 

1- إقامة الصلاة.

 

2- إيتاء الزكاة.

 

3- الإيمان بالرسل.

 

4- نُصرة الرسل.

 

5- إقراض الله قرضًا حسنًا.

 

أولًا: إقامة الصلاة:

 

الأمر هنا ليس شرطه فحسب أداء تلك الحركات والأقوال التي يؤديها الناس ولا يعقلونها، فرُب مصلٍ ليس له من صلاته إلا التعب، ولكن الصلاة كالشركة المساهمة التي يؤدي كل شريك فيها بسهمه، فكل منهم له عمل فيها، فالجسد له حظ، والروح والقلب له حظ، والنفس بسلوكها لها حظ موزَّعة على مقامات ثلاث: العمل والمجاهدة والمرابطة.

 

1- أما الجسد فعمله أن يتم فيها أعمال الجوارح بالوضوء والقيام والركوع والسجود وسائر الأعمال الظاهرة، مُقتديًا بالحبيب، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلّي، وإذا حضرت الصلاة فليُؤذِّن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم". متفقٌ عليه. وهذا مقام عمل الجوارح.

 

2- وأما الروح فَسِرّ الصلاة فيها الإقبال على الله، فليستشعر أنها حديث بينه وبين الله، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ ِللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي- فَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ". رواه البُخاري.

 

وهنا يكون مقام المجاهدة، وتكون الإقامة من التقويم المستمر، أي تبصر كم أخذ الشيطان منك، ومتى نفذ إلى قلبك وكم انتصر عليك وكم انتصرت عليه.

 

3- وأما النفس وسلوكها -وهي بعد التحوُّل القلبي- أن تُحوِّلك الصلاة نفسيًا وسلوكيًا، فتخرج منها بحالٍ غير ذاك الحال الذي دخلت به قبلها، التزامًا بالحق وبُعدًا عن الباطل على مدار يومك، فيكون هذا الرباط عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟!"، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". رواه مسلم.

 

فإذا استطاع الإنسان أن ينتصر على نفسه وشيطانه وهواه في معركة الصلاة استطاع أن يَهزم عدوه بمعية ربه، وهذه هي أولى طرق تقويم الجماعة المؤمنة.

 

ثانيًا: إيتاء الزكاة:

 

والشرط الثاني للحصول على هذه المعية هي إيتاء الزكاة، فبعد أن عوَّد الله -عزّ وجل- المؤمنين على إقامة الصلاة والمجاهدة فيها والرباط عليها؛ أكد لهم معنى التضحية، فكانت التضحية أولًا بأوقات يسيرة هي أوقات الصلاة، وهذا يتجلَّى بالتضحية بالوقت، ثم فتح لهم هنا منفذًا ثانيًا للتضحية وهي التضحية بالمال، وهذا جزء من مالك قد افترضه الله عليك لا لِيَحرمك ولكن ليُطهِّرك، فالزكاة من التزكية، والتزكية نماءٌ وتطهير كما قال المُفسِّرون في قوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).

 

الشرط الثالث: (آمَنتُم بِرُسُلِي)، ما يتطلَّبه الله أولًا وأخيرًا بعد كل هذا الإيمان.

 

ولكن السؤال هنا: ما المقصود بالإيمان بالرسل؟! هل الإيمان بوجود الله -عز وجل- وتحكمه بالكون؟! وإذا كان كذلك، فَلِمَ أتى الله -عز وجل- بهذه الصفة بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والمفروض أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تابعان للإيمان وليس العكس؟!

 

والمعروف أن الإيمان أولًا، فإذا استتبّ بالنفس واستقرّ جاءت الفروض الشعائرية!!

 

قد يكون من مُراد الله، ولله الحكمة في قوله ولا يعلم مراد الله إلا هو وما علَّمه رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

 

المقصود بالإيمان بالرسل هاهنا جانبان: الجانب الأول هو الإيمان بالمنهج؛ فالكافرون -بعضهم- وأهل الأهواء -أحيانًا- لا يكون عندهم مشكلة في الإيمان بوجود الله، وليس عندهم مشكلة في إقامة حركات والتمتمة بكلماتٍ خالية من أي معنى أو روح، مادام هذا لا يمس مناهجهم وتشريعاتهم المستقرة بمجتمعاتهم، والأهم من هذا لا يمس مراكزهم الاجتماعية في قومهم أو مطالبتهم بالعدل والمساواة والحرية.

 

تلك القيم التي تُسوي بين الغني والفقير، وبين الوزير والغفير، فإذا مسّت هذه الدعوة هذين الأمرين - التشريعات والمناهج أولًا والمكانات الاجتماعية لأصحاب النفوذ ثانيًا- بدأ التفلت من الدين، والإيمان  بالرسل انقلب لعِداء، فأهل الأهواء مع الإسلام ما بقي ساكنًا عن حركة التغيير المجتمعية، أما إذا انطلق أصحاب المشروع الإسلامي ودعاته إلى حركة التغير والإصلاح كانت الخصومة والعِناد معه من قبل الآخرين.

 

وأما الجانب الثاني -وهو الإيمان العملي- فالإيمان قائم على ثلاثة أركان رئيسة: الاعتقاد القلبي، والنطق القولي -إلا بحالات الضرورة- والعمل، فإذا لزم المسلم وصاحب المنهج جانب واحد وأهمل الركنين الآَخرَين كان إيمانه منقوصًا: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ).

 

رابعًا: نُصرة الرسل كما قال ربنا: (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ):

 

لا يكفي كما قلنا -آنفًا- وكما قال علماؤنا أن يكون الإيمان باللسان فحسب أو بالقلب فحسب؛ بل لابد أن يكون الإيمان قائمًا على الأركان الثلاثة؛ لذا كان الإيمان الحقيقي لكل مسلم على مرِّ العصور هو الذي يسير المؤمن فيه مع الرسل والمصلحين والمُجدِّدين جنبًا إلى جنب إصلاحًا في نفسه ودعوة إلى غيره، كما قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". رواه مسلم.

 

وهذا الشق الأول من نُصرة الرسل وهو حمل لوائهم في كل وقتٍ وحين، وكل عصر وزمان، تهذيبًا للنفس وسيرًا في حركة الحياة بالدعوة إلى هديهم.

 

وهناك شِقٌ آخر في نُصرة الرسل؛ ألا وهو أن تُمنَع الرسل مما يمنع الشخص نفسه وماله وأهله وولده، وكذا نُصرة المظلوم والوقوف في وجه الظالمين، فالمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص.

 

الشرط الخامس: إقراض الله:

 

في بداية الأمر قال ربنا -عزّ وجل-: (وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ)، وقد حدَّد العلماء الزكاة بمقادير محدودة وأنصبة معلومة في أزمنة محدَّدة، أما هنا قال ربنا: (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، وقد فتح الله هنا بابًا خامسًا لنصرة منهجه، وهو إقراض الله -عز وجل-، والمُتأمِّل في كلمة "قرض" هنا يجدها نكرة، والمعروف أن النكرة باللغة تُفيد العموم والشمول، فالله -عز وجل- لم يُحدِّد.

 

أولًا: ماهية ما يخرجه الإنسان، فمِن المؤمنين من يُضحِّي في سبيل دعوته بماله وثانٍ بوقته، وثالث بعِلمه يُعلِّم الناس، ورابع بجهده يسعى في الإصلاح للناس والعمل للأرامل، وقضاء حوائج الناس، وخامس بولده يحفظه القرآن ويُقدِّمه إلى ميدان الدعوة أو الجهاد، وسادس من نفسه ودمه، وهكذا فتح الله لكل نفس وإمكاناتها لكي تصل بها إلى ربها فلم يغلقه، فأبواب الجنة كثيرة، وكلٌ يدخل من الباب الذي كرَّس نفسه لخدمة دينه فيه، ومنهم من هِمَّته صدِّيقية كأبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنه-؛ حفر اسمه على كل أبواب الجنة.

 

وثانيًا: لم يُحدِّد الله لنا مِقدار ما يُقرِضه المؤمن، ولم يفرِض عليه قدرًا مُعينًا من الوقت أو المال أو العلم لكي يصل به إلى الجنة، فهذا أبو بكر -رضي الله عنه- تبرَّع بماله كله، وهذا عمر -رضي الله عنه- بنصف ماله، وذاك عثمان -رضي الله عنه- جهَّز جيش العُسرة.

 

فمن حملة اللواء من يستطيع أن يكفل يتيمًا، ومنهم من يقوم على جمعية على مستوى القُطر أو أقطارٍ مُتعدِّدة لرعاية الأيتام، ومنهم من عِلمه يبلغ به نفسه فحسب، ومنهم من عِلمه يُوقِظ به أُمة، ومنهم من عِمله يقف ثوابه على حدِّ يومه، ومنهم من تنهمِرُ عليه سحاب الحسنات بقطراتها وهو في قبره.

 

(وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)، وشعار المؤمن الذي رسمه له ربه في هذا (وسارِعوا) كما في سورة آل عمران.

 

إذا كانت هذه هي المعية الإلهية وصورها بالدنيا والآخرة، وتلك هي الشروط اللازمة للمعية الإلهية، فتخيَّر أين تكون مع حملة اللواء مُوفيًا بعهد الله واثِقًا بموعود الله لك، أما من الممكن أن تتحوَّل إلى طريقٍ آخر أمام المِحن والابتلاءات التي يُواجِهها المشروع الإسلامي فتنقلِب إلى الجهة الأخرى: (فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

 

فاعلم أنما الله -عز وجل- بهذه الأوقات يَميز الخبيث من الطيب، فثِق بمعية الله ونصره لديننا ودعوتنا وأُمَّتنا وشمِّر الجهد للعمل وأنشِد قول الشاعر:

 

جدِّد العهدَ وجنِّبي الكلام *** إِنَّما الإسلام دينُ العامِلين

وانشر الحقَّ ولا تخشَ الطُغام *** فَبِصدقِ العزمِ يعلو كل دين

***

فتيةَ الإسلام هيَّا *** نتفانى في الجهاد

لنرى القرآن هديًا *** ساطعًا في كل واد

 

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life