المعنى الصحيح للإفلاس ورأس مال المسلم

عكرمة بن سعيد صبري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/المعنى الشائع للمفلس 2/المعنى الحقيقي للمفلس 3/رأس المال الحقيقي للمسلم 4/رسالة إلى أبناء القدس لحماية أحيائها وبيوتها 5/تعزية ودعاء بالرحمة للشيخ محمد علي الصابوني

اقتباس

الكيِّس الحكيم، والمسلم الصادق، والمؤمن الناجح، هو مَنْ يفعل في هذه الحياة الدنيا من الخيرات ومن الحسنات ومن العبادات ما يقرِّبه إلى الله -تعالى- في الآخِرة، ويكون سببًا في نجاحه في الدنيا والآخرة...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، بيده الخيرُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وقدوتنا، محمدًا عبد الله ورسوله، وصَفِيُّه من خَلقِه وخلِيلُه، صلى الله عليه، وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومَنْ سار على نهجهم، واقتفى أثرَهم، واتَّبَع سُنَّتَهم إلى يوم الدين.

 

وبعد أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يا من شددتم الرحال للصلاة في المسجد الأقصى المبارك: روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "‌أَتَدْرُونَ ‌مَنِ ‌الْمُفْلِسُ"؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ لَهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".

 

أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس: حديث شريف مبارك، يبيِّن فيه رسولنا الأكرم -صلى الله عليه وسلم-، ميزان العبء والخسارة، في الدنيا وفي الآخرة، يبين فيه الرابح الحقيقي، والخاسر الحقيقي؛ إذ تبادَر للصحابة -رضوان الله عليهم-، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يوجه لهم هذا السؤال: "أتدون من المفلس؟"؛ ليتبادر للأذهان مقياسُ الإفلاس في الحياة الدنيا؛ ليكون الجواب: "المفلِس مَنْ لا يملك المال، ولا يملك المتاع، ولا يملك زهرة الدنيا وزينتها"، نعم هذا مقياس المفلس في الحياة الدنيا، ولكنَّ الرسولَ الأكرمَ -صلى الله عليه وسلم-، يوجِّه الناسَ إلى أبعد من هذا الميزان، وإلى أبعد من هذا المعيار، فمقياس النجاح الحقيقي، والإفلاس الحقيقي مقياسهما أن يخسر في الآخرة، أن يكون مفلسا يوم يلقى الله -سبحانه وتعالى- ولا شيء معه من متاع الدنيا؛ فالمال والولد والجاه والسلطان وكل مظاهر القوة والمتعة في الدنيا قد زالت في اليوم الآخِر، ولم يبق له إلا الحسنات التي فعلها في حياته الدنيا، فإذا نجح في الآخرة بأن قضى من حسناته ديون الآخَرين، وحقوق الآخَرين، وزادت هذه الحسنات أكرمه الله بالفوز والنجاح والفلَاح، ففاز في الآخرة والدنيا، أما إن خسر هذه الحسنات، فهو يسدد منها ما جناه واقترفه في حياته الدنيا، من ظلم الآخَرين، بشتمهم أو قذفهم؛ وهو الاتهام بالفاحشة، أو أخذ أموالهم بالباطل، أو سفك دمائهم، وتعلمون -أيها المسلمون- أن سفك الدماء من المحرَّمات، ومن الكبائر، فلا زال المؤمن في فسحة حتى يرتكب أو يقترف دمًا.

 

نعم أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس: الكيِّس الحكيم، والمسلم الصادق، والمؤمن الناجح، هو مَنْ يفعل في هذه الحياة الدنيا من الخيرات ومن الحسنات ومن العبادات ما يقرِّبه إلى الله -تعالى- في الآخِرة، ويكون سببًا في نجاحه في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يكون إمامًا ومرشدًا للناس إلى الخير والخيرات، وفي الآخرة يفوز بالحسنات والطاعات والعبادات، وما قدَّم في هذه الدنيا من الحسنات يفوز بها في جنان الخلد، وذلك هو الفوز العظيم.

 

أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: لِيَكُنْ ميزانُنا جميعًا أن نقيس الأمورَ بميزان الحق، بميزان العدل، بميزان المحبة والمودة وأُخُوَّة الإيمان، التي بينها لنا الله -تعالى- في كتابه الكريم، وبينها رسولنا الأكرم، في سنته الشريفة، فالله يأمرنا باتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في هديه، في أفعاله، في أقواله، في أحواله، في إقراراته وتقريراته، التي هي بمجملها سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[آلِ عِمْرَانَ: 31].

 

أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: وإذا كان كل تاجر في الحياة الدنيا، يسعى إلى زيادة رأس ماله، ويسعى إلى ربح تجارته، وإلى مضاعَفاتها ومضاعفتها، ويسعى أن يكون ناجحًا في هذه التجارة، وهي في الحياة الدنيا، وتعلمون أن الحياة الدنيا تكاثُرٌ في الأموال والأولاد، وكل هذا هو متاع هذه الحياة الفانية، التي يحسن المؤمن والمسلم أن يجتازها بالخيرات، وبالأفعال الطيبة والطاعات، حتى يكون الرابح الحقيقي في الحياة الآخرة، يوم لا يوجد مال ولا درهم ولا متاع، ولا دينار يسدد ديونه منه، لا يوجد إلا ما أتى به اللهَ -سبحانه وتعالى-، من صلاة وصيام وزكاة وحج، وسائر أعمال الطاعات والقربات، فالعاقل من حافظ على رأس ماله من هذه الطاعات والعبادات؛ لأن أمواله في الدنيا لن تنفعه في الآخرة، ولن تقضي ديونه في الآخرة، ولن تَرُدَّ عنه مظالمَ المظلومينَ، الذين أكَل أموالَهم، أو سفَك دماءهم، أو تعرَّض لأعراضهم، أو شتَمَهم أو ضربَهم؛ فكل ذلك يقتص منه في الحياة الدنيا، ويؤخذ منه في الآخرة من حسناته، ومن حسناته فقط.

 

فلتحرصوا -أيها المسلمون، أيها المؤمنون، أيها الموحدون، أيها الراجون رحمة الله -تعالى- في اليوم الآخر-، أن تكون رؤوس أموالكم من الطاعات والعبادات التي تُثابون عليها -بإذن الله-تعالى-، بشمول رحمة الله لكم، بالفوز في الدار الآخرة، وذلك هو الفوز المبين.

 

جاء في الحديث الشريف، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلُّ أمتي يدخلون الجنةَ إلَّا مَنْ أبى، قيل: ومَنْ يأبى يا رسولَ اللهِ؟ قال: مَنْ أطاعني دخَل الجنةَ، ومَنْ عصاني فقد أَبَى".

 

فيا فوزَ المستغفرينَ، استغفِروا اللهَ، وادعوا اللهَ وأنتُم مُوقِنون بالإجابة.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي لا نبي بعده، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ، أَحَبَّ لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم، حتى يفوزوا بنِعم الله وينالوا رضوانَه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أدَّى الأمانة وبلَّغ الرسالةَ ونصَح للأمة، وترَكَنا على بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالكٌ.

 

وبعدُ أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس: يا من تشدُّون رحالَكم دائمًا إلى المسجد الأقصى المبارَك؛ لأداء الصلوات فيه، ولتلاوة القرآن وذِكْر الله -تعالى-، يا مَنْ تعمرون المسجد الأقصى بعباداتكم وأعمالكم، وإصراركم على أن تكونوا الفئة المرابطة في هذه الديار المبارَكة، وما أحوج المسجدَ الأقصى، التي تُنتَهك فيها حرماتُه وقدسيتُه، مِنْ قِبَل المستوطنينَ والمتطرفينَ والمتغطرسينَ، ما أحوَجَه إلى رباطكم، وإلى إعماره بكم؛ فأنتُم حُرَّاسُه الأمناء، وسَدَنَتُه الأوفياء، وأنتم بشارة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تغدون وتروحون إلى هذا المسجد المبارك.

 

أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس: تتعرَّض القدس في هذه الأيام وبعض أحيائها على وجه الخصوص؛ كحي الشيخ جراَّح، وحي البستان في سلوان، وبطن الهوى وغيرها، من الأراضي والعقارات والبيوت، في المدينة المقدَّسة، فهناك محاولات حثيثة لتهجير حي الشيخ جرَّاح، تهجير هذا الحي بعائلاته الثمانية والعشرين، من بيوتها، يشتغل على ذلك المتطرفون والمستوطِنون، بل حتى وصَل الأمر إلى إصدار أحكام قضائية لتهجيرهم من بيوتهم وإخلائها، وينطبق ذلك أيضًا على حي البستان، وعلى كل منزل في القدس الشريف، يستهدفه المستوطنون، لزيادة استيطانهم وترسيخ احتلالهم واستعمارهم في المدينة المقدسة، نقول إزاء هذا كله: عليكم أيها المرابطون، عليكم يا أبناء أحياء القدس كافة، أن تتعاونوا، وتتآزروا، وتكونوا صفا واحدا، في وجه كل هذه المخطَّطات، التي تستهدِف وجودَكم، وتستهدِف أُسَرَكُم وعائلاتِكم، وتستهدِف تخليةَ المدينة المقدَّسة، وتفريغها من سكانها وأهلها الشرعيين.

 

أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: مزيدًا من الرباط، مزيدًا من الصبر والثبات، مزيدًا من التعاون واستغلال كل الإمكانيات القانونية، والسياسية، والدولية، والرأي العام، وعلى المواطنين جميعًا أن يكونوا صفًّا واحدًا، أمام هذه الأخطار، فالله -سبحانه وتعالى- مع الصابرين، ومع الصادقين، ومع المؤمنين؛ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الْحَجِّ: 40].

 

أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: فقدَتِ الأمةُ الإسلاميةُ في هذا اليوم عالِمًا جليلًا من علماء التفسير، في العالم الإسلامي؛ وهو الشيخ الفاضل المرحوم: محمد علي الصابوني، صاحب التفسير المشهور "صفوة التفاسير"، فرحم الله عالِمَنا الجليل، وأسكنه فسيح جناته، وللأمة من بعده خير العوض.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

 

المرفقات
Vnkwsp7R0J7sIX8S0joQKkYpEBuXr5i1lONDGS1Y.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life