اقتباس
العلاقات لو نظرنا إليها بعين الحكمة، وحب المعرفة والتعلُّم من الغير، كانت متعة وتطويرًا للشخصية، واكتسابًا للمهارات، أما إن اكتفينا بأن ننظر في سلبيَّات كل قوم، فيصبح عندنا "التعميم السلبي" غالبًا، فلن نرى حسنات غيرنا..
إن كلَّ يوم يمرُّ علينا هو منحة إلهية؛ لنتقرَّب من خالقنا، ونُحقِّق العبودية والعبادة التي تتجلَّى في جميع تصرُّفاتنا وحركاتنا، وهمساتنا وسكناتنا، حيث نرجو الأجر في تحويل العادات إلى العبادات، وبما أن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، فغالب وقته تراه يقضيه مع غيره، سواء زوجة، أو أولاد، أو زملاء، أو جيران... وفي كل يوم نلتقي أناسًا ما كنَّا نعرفهم، وعندهم ما ينفعنا، فماذا استفدنا منهم؟
إن تلك العلاقات لو نظرنا إليها بعين الحكمة، وحب المعرفة والتعلُّم من الغير، كانت متعة وتطويرًا للشخصية، واكتسابًا للمهارات، أما إن اكتفينا بأن ننظر في سلبيَّات كل قوم، فيصبح عندنا "التعميم السلبي" غالبًا، فلن نرى حسنات غيرنا، ولا حتى حسناتنا، ذلك هو الإنسان المتشائم.
في طبيعة الإنسان وما فُطر عليه، أنه يتعلم من أيٍّ كان، بشرًا، أو حيوانًا أو جمادات لا تتحرَّك... ومن هناك كانت البداية، مع بدايات البشرية، وكيف تعلَّمَ قابيل من الغراب دفْنَ أخيه هابيل.
غير أن الاستفادة، ومتعة الحياة، وروعة العلاقات لن تكون دون ما يُسمَّى "الذكاء العاطفي"، فأنت ربما تختلف مع غيرك من عدة أوجه، إلا أنه أخوك الإنسان، فما يجمعكما أكثرُ ممَّا يُفرِّقكما، وتأمَّل هذا المثال بين طائر وحشرة، هما صنفان مختلفان، ولا أوجه شبه بينهما، وربما لا شيء يجمعهما لأن يلتقيان؛ بل هما في الميدان عدُوَّان؛ لأن الأول يتغذَّى على الثاني، ذلك أن البروفسور رفلهام أرنست، ذكر في كتابه: "حروب وسلام عند الحيوانات والحشرات"، أن طائرًا يُسمَّى "نقار الخشب"، طعامه المفضل أكثر النمل شراسة، ومع ذلك لا يأكله، كلما رآه ولو كان جائعًا، فخلال ملايين السنين وجدت بينهما هدنة مؤقتة، حيث إذا باض الطائر، فإنه يترك بيضه بجانب أوكار النمل أو حتى داخلها، يريد من النمل أن يحمي البيض من الطيور الأخرى، ويلتفَّ حول البيض، مقابل أن الطائر لا يأكل النمل، هي هدنة تقوم على أنه طالما أن النمل يحمي البيض، فالطائر لا يتعرَّض له.
وبعد أن يفقس البيض فإن النمل يتحوَّل إلى مكان آخر، ويستعد لحماية نفسه من ذلك الطائر، فقد انتهت الهدنة وتبادل المنافع، فكيف تعلَّم النمل ذلك؟! وكيف تعلَّم الطائر ذلك؟! إنها القدرة على التكيُّف في مواجهة الظروف، إنها المرونة، والذكاء في العلاقات.
والإنسان قد جعل الله فيه العقل، الذي سلب من ذلك الطائر وتلك النملة، فهو أدعى وأقدر وأكثر مهارة في التكيُّف مع الظروف والعادات، أن يكون لديه الذكاء العاطفي، فما هو الذكاء العاطفي؟
لقد وضـع ثورنديك عـام 1920 بذور مفهوم الذكاء العاطفي عندما تحدَّث عن مفهوم الذكاء الاجتماعي والذي عرف بأنه: "القدرة على التصرُّف الحكيم في العلاقات الإنسانية"، ويمكن تعريفُ الذكاء العاطفي بأنَّه درجة مَقْدِرة الإنسان في أربعة عناصر: اثنان منها تتعلَّق بذاته، واثنان بالآخرين.
1- الوعي بالذات: ويشمل معرفة النفس، وأهمُّها القدرة على معرفة المشاعر ورسائلها، وهو العنصر الأساسي الذي تُبْنى عليه العناصر الثلاثة الأخرى.
2- تفهُّم الآخر والوعي الاجتماعي: ويشمل القدرة على تفهُّم ما يشعُر به الآخرون، وتقدير الأمور من وجهة نظر الآخرين؛ سواء كانوا أفرادًا، أو جماعات.
3- إدارة الذات: وتشمل القدرة على السيطرة على الذات والتحكُّم بطريقة التجاوُب مع الأحداث، واختيار ردود الأفعال وتحمُّل مسؤوليتها.
4- إدارة العلاقات والمهارات الاجتماعية: التعامُل والتجاوُب مع الآخرين، مع الأخذ في الاعتبار مخاوفهم واهتماماتهم، وحفظ التوازُن في العلاقة مع الآخرين، والقُدْرة على القيادة والتأثير الإيجابي في الآخرين، واستخدام الحزم في المكان الصحيح.
وباختصـار هو: "قدرة الإنسـان على التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين، لتحقيق أكبر قدر من السعادة لنفسه ولمن حوله”؛ فهل هذا الذكاء العاطفي، في الإسلام شيء منه؟
إذا قرأنا في كتاب الله قوله سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]، أدركنا أن المسلمين مطالبون باتِّباع النبي الذي هو قدوة، فهو من أضاء القلوب بنور الوحي وتعاليمه، ودعا للحياة الطيبة، ونور القلب ومعالجة أمراضه، وحسن السلوك، وطيب الأخلاق، والتعامُل مع المواقف العصيبة بالحكمة، والامتناع عن الغضب، والحوار الراقي مع العقول.
فالذكاء العاطفي هو مزيج من الأخلاق الحسنة، وتزكية النفس، وضبط الانفعالات وهي من تعاليم الإسلام، فترى "الوعي بالنفس ومعرفتها"، في الدعوة لمجاهدة النفس، وأقسامها، من أمَّارة بالسوء، ولوَّامة ومطمئنة؛ بل وجعل في القلب مُنبِّهًا تلقائيًّا عند فعل الحسنات والسيئات... "والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطَّلِع عليه الناس"، و"استَفْتِ قلبَكَ”.
أما "تفهُّم الآخر والوعي الاجتماعي"، فقد دعا الإسلام للالتماس الأعذار، ومراعاة أحوال المخاطبين، واختلاف الفتاوى أحيانًا بحسب اختلافهم.
أما "إدارة الذات"، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لا تغضب؛ إنما الحلم بالتحلُّم”، ودعا لتطوير الذات، فكريًّا بطلب العلم والقراءة، وصحيًّا: “المؤمن القويُّ خيرٌ من المؤمن الضعيف”، “حسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبَه”، واجتماعيًّا: بالأخلاق الحسنة، واقتصاديًّا: بالكف عن سؤال الناس، والأمر بطلب الرزق.
وأما إدارة العلاقات والمهارات الاجتماعية، فعندنا كم هائل من ذلك، فتجد أن الإسلام دعا لتطوير شخصية الإنسان في عدة جوانب، وضبط علاقته مع الآخرين في أجمل ما يكون، بلا إفراط ولا تفريط، ومن هنا كان ما يُسمَّى الذكاء الاجتماعي وسيلة للعلاقات الجيدة، وتكوين الصداقات، والاستفادة من الآخرين.
التعليقات