اقتباس
إن الأمة مطالبة بالتجهز واليقظة الحضارية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وأخذ الحيطة لا بالدراسة العميقة لكل الظواهر التي من شأنها التأثير في أوساط المسلمين، والابتعاد عن مواجهة العدو الشرس اليقظ بذهنية الارتجال وبوسائل سطحية قد تجاوزها الزمن؛ ولذلك يجب تأهيل الأمة تأهيلا يناسب صفة المرحلة التي نعيشها، وهي مرحلة زوال الحدود، وانهيار الحواجز الجغرافية، وتغير مفهوم السيادة، وتميع مسألة الهوية، وهنا يجب التركيز على الأسرة المسلمة باعتبارها الخلية الأولى، والنواة الأم في المجتمع المسلم.
إن من سنن الله في الكون التطور والتبدد، والتداول على حكم الأرض وفق قوانين النشوء والارتقاء و الفناء، تلك القوانين التي تسري على جميع البشر، مهما كانت ديانتهم وأصولهم ولغاتهم، من أخذ بها أمسك بزمام العالم، ومن تخلف عنها ناله الشقاء الحضاري بفعل تبعيته للأخرين، وهذا ما تعيشه الأمة اليوم، ولعلنا نسلط الضوء على أحد الميادين الهامة التي أهملتها الأمة-فنالها ما نالها من الضعف والنكد الحضاري- وهو ميدان المدافعة الحضارية بالإعلام والاتصال، حيث يرى الناظر عدم تمكن الأمة من ميدان الإعلام والتواصل والمعلوماتية، رغم أن معجزتها الخالدة بلاغية إعلامية خطابية، ومن خلالها نشأت الأمة ومن خلالها صيغت كل ميادين الأمة.
وهذا الموضوع يهم فئة الخطباء كثيرا، حيث يحتاج الخطيب إلى الإلمام بهذا الموضوع الذي صار المؤثر الأول على حياة المجتمع المسلم في عصرنا هذا.
من مظاهر ضعف المسلمين في الميدان الإعلامي وتبعيتهم شبه المطلقة لأعدائهم، انتشار أدوات المدافعة الحضارية الإعلامية التي أنتجها الغرب وأتم سيطرته الوظيفية عليها، وكان من أبرز أدواته التي استطاع من خلالها الولوج بقوة إلى ساحاتنا الأمامية والخلفية ما يسمى اليوم بمواقع التواصل الاجتماعي، التي انتشرت في العالم انتشارا شديدا وسريعا، وما لبثت أن اقتحمت خيولها كل ساحاتنا في غفلة منا، بسبب السيبة والغفلة الحضارية التي نعيشها منذ أمد ليس بالقصير ولا بالهيّن، وقد كان انتشارها المطرد في هذه المرحلة التاريخية الحساسة جدا مضرا بالأمة في نواحي هامة وحساسة، لعل أهمها اهتزاز قضية الانتماء-الحقيقي لا الصوري- في قطاعات واسعة من الأمة الإسلامية، وتمكُّن العدو الحضاري للأمة من صياغة جوانب كثيرة مخالفة لما يتفق مع أصالتها وهويتها وتاريخها ودورها، سواء أكانت تلك الصياغات نفسية أو اجتماعية أو تربوية أو ثقافية وسياسية، ولعل السبب الذي سهل ذلك أيضا يرجع إلى تأرجح الأمة بين قيم البداوة وقيم الحضارة، وفقدانها الرشد الحضاري في الحفاظ على القيم الأصيلة، والإخفاق في تلبس المعاصرة تلبسا فاعلا.
والملحوظ لدى المنشغلين بحاضر الأمة أن غالبية الناس لم يتح لها الوقت الكافي لاستيعاب حقيقة الثورة الضخمة التي مست عالم الاتصالات و التواصل، وتأثيرها على الحياة الخاصة والعامة، باعتبارها نقلة خطيرة في حياة أمتنا المتخلفة عن الريادة الحضارية للعالم، فكان نتاج ذلك أن اندمج الناس فيها اندماجا مندفعا غير مدروس، وهذا الاندماج السلبي لم يكن في الإمكان تجنبه؛ لغياب المرشد والمسعف والدليل؛ بسبب تعطل ما يعرف في علم الاجتماع بالأوعية الاجتماعية للأمة الإسلامية، فأتى ذلك على مساحات واسعة من قيمنا استهلاكا وتخريبا، وجعل هويتنا على المحك؛ بسبب استهانة الكثير من المثقفين بتأثير عالم الانترنت على وجودنا الحضاري.
من الاستكشاف إلى السقوط في فخ الاحتلال:
من المنطقي أن انتشار أي مستجد في دنيا الناس و في غفلة منهم، سيجعلهم يقتحمونه دون تأمل وتفكر، بل يحدث أن تضع الغالبية عقلها ومبادئها جانبا-على عتبة المستجد- وتدخله على أمل الاستكشاف؛ وحاديها الأول في ذلك هو عاطفة الفضول الجامحة، لكن المعضلة لا تكمن في هذه العاطفة فحسب بل في أميتها، التي تحصر القرار بين ثنائية الإعجاب أو الذم، وبهذه الثنائية العاطفية القاصرة تدخل الجماهير المسلمة هذا العالم التواصلي والإعلامي والمعلوماتي المعقد، خالية من حصانة فكرية فعالة، في ظل صراع حضاري خطير يريد ابتلاع هويتها أو تمييعها على الأقل، وهنا مربط الفرس في الحديث عن خطورة الاندماج اللاواعي في هذه الثورة المعلوماتية، التي تعد السمة الكبرى لهذه المرحلة الزمنية الجديدة؛ حيث تتميز بسهولة اختراق الانسان وهدمه، وإعادة تشكيله وفق رغبة الأخر وتخطيطه، بعد أن تحول الاحتلال من احتلال الأوطان إلى احتلال الانسان.
والحقيقة التي لا يمكن التغافل عنها هي أن مرحلة الاستكشاف أخطر المحطات، ففيها يبني الإنسان تصوراته عن المستكشَف، ومن خلال تلك التصورات يصدر أحكامه عليه؛ ولذلك تعتبر فترة خطيرة جدا؛ حيث ينبهر فيها الضعيف، ويسقط فيها الهش، ويتضعضع الثابت، بسبب الاندفاع الهائل للجماهير نحو القادم الجديد، المسلح بجاذبية فاتنة، وبسبب عدم انتشار ثقافة التعامل الصحيح مع الوافد الحضاري بشكل كاف بين أبناء الأمة، تلك الثقافة التي تنطلق من تقييم ايجابيات وسلبيات كل مستجد، ثم تقرير الخطوات المناسبة، وهي ثقافة رصينة بعيدة عن المزاجية المهلكة، كما يجب الاعتراف أن الضبابية التي لم تنجل بعد عن ضوابط التفتح على الآخر ومنتجاته المؤثرة على قيمنا، هذه الضوابط التي يفترض فيها أن تكون الموجه المناسب إلى كيفيات التعامل مع منتجات الحضارة الغربية؛ لا تزال تعاني من التجاذبات المختلفة، بسبب تسييسها تارة لصالح السلطان، وتارة لاسترضاء الغرب، وتارة لعدم إدراك المعادلات الاجتماعية و التغيرات العالمية الحاصلة اليوم، وعند إسقاط الأمر على ثورة المعلوماتية والاتصال التي غزت العالم، نجد أن مرحلة استكشاف عالم المعلوماتية والاتصال كانت ولا تزال مرحلة حرجة، انبهرت فيها الجماهير بهذا العالم الجذاب، وتخلت عن الكثير من قيمها الأخلاقية بفعل الانبهار الحضاري، والقابلية للاستيلاب، وطغيان النفسية الانهزامية على المسلمين، ووقعت في تناقض وانفصام حقيقي بين ما يجب أن تكون عليه وبين ما هي عليه، ولعل وجود عدد هائل من المنبهرين في مدة زمنية قياسية، جعل الغالبية لا تهتم بالتعرف على حقيقة الوافد الجديد إلى عالمنا، وأثره على الفرد والجماعة، بسبب ميل الناس عادة إلى الثقة في الطريق الذي تسلكه الكثرة دون مراجعة أو تمحيص، بل ودون رجوع حتى إلى سؤال أهل الخبرة والذكاء في المجتمع.
صواريخ الفكر العابرة للقارات:
ولأن الطبيعة تأبى الفراغ؛ و لأن الأمة تعاني من غياب الحاضنة الاجتماعية، التي ترافق المجتمع في كل مرحلة من مراحل سيرها، وغياب أليات اجتماعية تعنى بتهيئة الأمة وتأهيلها، ستكون تلك الحشود عرضة للتيه والضياع الحضاري، خاصة مع زوال ميزة الصناعة التاريخية التي كانت تعتمد على الحروب العسكرية والانتصارات في صناعة المجد وصياغة الهوية، وترتيب المستقبل، بعد أن صار الصراع اليوم من نوع أخر، إنه صراع فكري، صواريخه فكرية وقنابله ثقافية، صراع لم يعد محتاجا ابتداء وغالبا للدبابات لدك القلاع والتحصينات العسكرية؛ لأجل احتلال الأرض واستغلال خيراتها وإنسانها، لذلك لم تعد الشعوب المستضعفة تجد أمامها عدوا ظاهرا تقارعه، ثم تنسج بعد طرده وهزمه، تاريخا يكون المادة التي تعيش بها الأجيال مفتخرة معتزة، إن الشعوب المسلمة اليوم تواجه عدوا متربصا شفافا، لا يظهر أمامها، ولا يطلب مبارزتها، ولكنه يتسلل إلى مراكز ثقلها، ويجثم على مساحات واسعة من هويتها وأصالتها فيبددها، عدو لا يظهر على الأرض عيانا لكن أثار غزوه الفكري غير المباشر تظهر بشكل واضح، بل إن هذا الصراع و الغزو الجديد حقق في سنوات قليلة ما لم يحققه بالحديد و النار في عقود وقرون، إنه يعمد إلى دراسة تركيبة الإنسان المسلم ثم تفكيكها، ثم النيل من مكوناته خطوة خطوة، عبر مخططات قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، تستهدف احتلال الإنسان المسلم، وخلخلة بنيته الفكرية والعقدية، ثم تسريب كتل ضخمة من ايديولوجيات مناقضة تماما لهويته ورسالته وقيمه الحضارية؛ لأجل التحكم فيه، أو تغييره، أو استغلاله أو هدمه تماما إن حاول المقاومة واستعصى على الذوبان التام.
لذلك يصدق أن يطلق على هذه المواجهة الجديدة بصراع احتلال الإنسان، بعد أن ثبت فشل احتلال الأوطان المسلمة في إفنائها حضاريا، هذه هي حقيقة الصراع الحالي، حقيقة يغفل عنها الكثيرون، ويفضلون الهروب للإمام، وذلك بحصر المواجهة في الخيارات العسكرية، رغم البون الشاسع بيننا وبينهم عسكريا، فضلا عن أن أمتنا ليست رخيصة الدم والعرض حتى يسلم حاضرها ومستقبلها لمن لا يجاوز نظره أنفه، لهذا تبقى محاولات تجاهل نوعية هذا الصراع، وحصر مواجهته في حلول ترقيعية سهلة، أو في حلول أقصى غاياتها الإضرار بالأخر؛ من أهم أسباب الإخفاق في النهوض بالأمة، بل إن هذه المحاولات العمياء لن تجلب للأمة النصر، ولن تجلب لها الريادة، وما هكذا تورد الأمم حياض المواجهة.
ماذا فقدنا في عصر المعلوماتية؟
لقد كانت صياغة الأمة نفسيا وفكريا واجتماعيا وسياسيا تتم عبر وسائل معروفة لدى الأمة الإسلامية، تناقلتها عبر سلسلة مستمرة جيلا عن جيل، لكن هذه الوسائل من أمثلة الدرس وحلقات العلم والوعظ، صارت مكانتها مهددة جدا، إن لم يكن ذلك من ناحية الوجود فمن ناحية التأثير، فقد هجرت الجماهير هذه الوسائل إلى الوسائل العجيبة التي أنتجتها الثورة الإعلامية والمعلوماتية الهائلة؛ ولذلك فإنه يمكن القول بكل شفافية أن الأمة ستواجه أجيالا شاذة عن هويتها؛ إن لم تسارع لمواكبة هذا التغير الهائل وتدارك التأخر فيه، ويجدر القول هنا أن المقصود بمواكبته بجعله وسيلة خادمة للأمة وللإنسانية جمعاء، وعدم الوقوع في فخ أسلمة كل شيء، مادامت البراءة الأصلية وقاعدة الأصل في الأشياء الإباحة تسع كل ما لا يناقض كليات الدين وأصوله من جهة، ومن جهة أخرى ثبت فعليا ضرر الفهم السطحي لفكرة الأسلمة، بل يجب أن لا تقع الأمة في فخ الغرق في حكم هذه الأشياء، والعدو ينهب مساحاتنا الفكرية والعقدية والتاريخية، فقد ثبت أن تعاطينا مع المنتجات الحضارية للغرب التي تؤثر في صياغة الإنسان لم يصل مرحلة النضج بعد، وعليه وجب التصدي لهذا الأمر من الخبراء الحاذقين المميزين في مختلف ميادين الحياة، وتجنب محاولة الارتباط بهذا العالم بناء على نظرة تجعل حق صياغة الارتباط به من حق فئة دون فئة، بل يجب أن تذهب كل الجهود إلى كيفية استغلالها في واقع الأمة.
إن ما فقدناه اليوم من وسائل التأثير والصياغة بفعل هذا التقدم الحضاري الهائل على مستوى أدوات التدافع الحضاري، لا يعني أننا فقدنا تلك الروح الخيرية المؤثرة على فئات المجتمع، بل إن الوسائل الجديدة قد تضمن لمنظري وقادة الأمة فرصة تاريخية لإعادة المسلمين إلى أصالتهم ودورهم، فإن كان الغرب قد صب ايديولوجيات مختلفة في ساحات الأمة عبر قرنين من الزمن، فإن هذه الثورة الهائلة تتيح للأمة تدارك الكثير من النقص والتأخر في مواجهة ذلك المد تنقيحا وغربلة وتصفية، لما تتميز به من سحر وسرعة من جهة، وبما تتميز بها لغتنا وخطابنا من مرونة وقوة ناعمة تتلاءم مع أي وسيلة تتلبس بها؛ لذلك فإن التفاؤل خير حادي لمسيرة الأمة نحو مواكبة ميدان المدافعة الحضارية في شقه الخطابي والإعلامي و الثقافي.
القرءان والتأهيل الاجتماعي:
إن القرءان عندما يتحدث عن الصراع الحضاري بين أمة الإسلام وبين الأعداء التاريخيين للحق، لا يتحدث عن أمهات القضايا التي يريد أعداؤنا اقتحامها وحسب، بل يتجاوز ذلك كله إلى فتح بصيرة المسلمين على أبسط القضايا التي يثيرها أعداؤهم أثناء الصراع المحتدم أصلا؛ فلأجل كلمة واحدة نزل الوحي مغيرا ومنبها المجتمع المسلم إلى تركها، لا لشيء إلا لأن العدو يستعملها بخبث، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ? وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة:104].
وفي هذا الآية لفتة قوية يريد القرءان من المؤمنين التنبه لها، وهي أن المسلمين عليهم عدم التساهل مع العدو في القبول بأبسط الأمور والأفعال والأقوال التي قد تمس هوية المسلم، وفيها دعوة إلى التهيؤ لهذا الأمر بتعلم لغاته، ورصد كلماته بنفس القدر الذي ترصد به خططه الهادفة لسلخ المسلمين من دينهم، فإن كان هذا الأمر الرباني قد نزل لتصحيح كلمة و في عهد الصحابة، مع ما عرفوا به من قوة ايمان وصلابة ورسوخ في الإسلام، فكيف والحال اليوم عكس حالهم، فالأمة ممزقة، قد تداعت عليها الأمم، وتوالت عليها المحن؟
إن الأمة مطالبة بالتجهز واليقظة الحضارية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وأخذ الحيطة لا بالدراسة العميقة لكل الظواهر التي من شأنها التأثير في أوساط المسلمين، والابتعاد عن مواجهة العدو الشرس اليقظ بذهنية الارتجال وبوسائل سطحية قد تجاوزها الزمن؛ ولذلك يجب تأهيل الأمة تأهيلا يناسب صفة المرحلة التي نعيشها، وهي مرحلة زوال الحدود، وانهيار الحواجز الجغرافية، وتغير مفهوم السيادة، وتميع مسألة الهوية، وهنا يجب التركيز على الأسرة المسلمة باعتبارها الخلية الأولى، والنواة الأم في المجتمع المسلم.
كيف نواجه المرحلة الحالية؟
إنه لأجل مواجهة هذا الخطر الداهم الجلل؛ الذي يكاد يعصف بمقدرات الأمة البشرية، ويوشك أن يعصف بهوية قطاعات هائلة منها، وجب بناء نخبة جديدة خاصة من فئة الخطباء تصلح لقيادة الأمة في كل النواحي، نخبة تخرج من تلك التصورات العتيقة للاحتلال، وتسيطر بفكرها على وسائل العدو وسبل المواجهة، وتنتقل بالأمة من نفسية وعقلية ردة الفعل، إلى صناعة الفعل، بل قبل هذا وذاك، نحتاج للجلوس وتدارس قضية أي نخبة نريد؟ وما هي نوعيتها، وما سماتها، وما حدودها وسلطاتها، وكيف نقف على إيجادها وتنشئتها ثم حمايتها والحفاظ عليها، فالأمة لم تعد تتحمل الفوضى في صياغة المواجهات والتحركات وإدارة الصراعات، كما لم يعد لها أي طاقة على فقدان مكتسباتها، هذه هي النظرة الأولية لكيفية إدارة الصراع الحالي في ظل الترسانة الفكرية الهائلة التي رصدها المتربص الحضاري بالأمة.
التعليقات