عناصر الخطبة
1/التحذير من موجة جديدة من فيروس كورونا 2/وجوب الالتزام بإجراءات السلامة والوقاية 3/حُسْن تعامل المسلمين قديمًا مع الأوبئة 4/خطورة الاستهتار بالإجراءات الاحترازية.اقتباس
وها هي أرقامُ الإصاباتِ والوَفياتِ في ازديادٍ، بلادٌ ترجِعُ إلى حظرِ التَّجمعاتِ، وبلادٌ تعترفُ بالعجزِ بعدَ محاولاتٍ، صيحاتُ نذيرٌ، وتصريحاتُ تحذيرٌ، أينَ الإجراءاتُ؟، أينَ الكماماتُ؟، أينَ التَّباعدُ الاجتماعيُّ؟، وأينُ الحِسُّ الوقائيُّ؟، فهل يُعقلُ أن يُهدمُ ما بُنيَ في أشهرٍ؟...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي بحكمتِه أَنزلَ لكلِّ داءٍ دَواءً، عَلِمَه مَن علمَه، وجَهلَه مَن جَهلَه، وأَشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له شَهادةَ من يُريدُ النَّجاةَ من عَذابِ اللهِ يَوم لِقاهُ، ومَن يَريدُ بها التَّقرُّب إلى مرضاتِ اللهِ.
وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له؛ تَأكيدًا بعدَ تَأكيدٍ، فهو الواحدُ القَهَّارُ لا إلهَ إلا هو يحي ويُميتُ ويكوِّرُ الليلَ والنَّهارَ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه وصفيُّه وخليلُه، نَشهدُ أنَّه بَلغَ الرسالةَ وأدى الأمانةَ ونَصحَ الأمةَ وكَشفَ عنها الغُمةَ، وجَاهدَ في اللهِ حقَّ الجهادِ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وعلى صحبِه وسلمَ تَسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان:23].
مُنظمةُ الصِّحةِ العالميةُ تدُّقُ ناقوسَ الخَطرِ، وتُحذِّرُ من موجةٍ جديدةٍ قد تحصدُ أرواحَ البَشرِ، فها هو الوباءُ قد رجعَ بقوَّةٍ إلى بعضِ البلادِ، وها هي أرقامُ الإصاباتِ والوَفياتِ في ازديادٍ، بلادٌ ترجِعُ إلى حظرِ التَّجمعاتِ، وبلادٌ تعترفُ بالعجزِ بعدَ محاولاتٍ، صيحاتُ نذيرٌ، وتصريحاتُ تحذيرٌ، أينَ الإجراءاتُ؟، أينَ الكماماتُ؟، أينَ التَّباعدُ الاجتماعيُّ؟، وأينُ الحِسُّ الوقائيُّ؟، فهل يُعقلُ أن يُهدمُ ما بُنيَ في أشهرٍ؟، وهل يَحسنُ أن نكونَ ضحيةً لمُستهترٍ؟
ولكن عندما ننظرُ إلى تلكَ البلادِ بعينِ العقلِ والمصداقيةِ، نجدُ أنَّهم فرّطوا في العملِ بالأسبابِ الوقائيةِ، فلا حذرَ ولا احتياطاتٍ، ولا تباعدَ ولا كماماتٍ، وإنما احتفالاتٌ ومهرجاناتٌ، واجتماعاتٌ ومُظاهراتٌ، ولم يسمعوا لنداءاتِ العُقلاءِ، حتى انتشرَ بينَهم البلاءُ، فها هم اليومَ بينَ حكومةٍ تتجرَّعُ آهاتِ الألمِ، وبينَ شعبٍ يقرَعُ مُتأسفاً ضِرسَ النَّدمِ.
فإلى متى سيظلُ العالمُ رهينةً لهذه القيودِ المُشدَّدةِ؟؛ بسببِ التَّساهلِ في تطبيقِ الإجراءاتِ المُسدَّدةِ، فانتشارُ هذا الفيروسِ لا يُفرِّقُ بينَ صغيرٍ وكبيرٍ، ولا بينَ غنيٍّ وفقيرٍ، وأثرُ هذا التَّساهلِ يعمُّ القَاصي والدَّاني، وها هو العالمُ أجمعُ لا يزالُ من آثارِه يُعاني.
أيُّها المسلمونَ: لقد تعاملَ أسلافُكم قديماً مع الأوبئةِ تعاملاً حكيماً للحفاظِ على أرواحِ البشرِ، وَفقَ ما نراهُ اليومَ في تعليماتِ منظمةِ الصَّحةِ، فينبغي أن نَكونَ قدوةً في مواجهةِ الوباءِ، وأن نُثبتَ للعالمِ أن المُسلمينَ هم الأكثرُ وعياً في اتِّباعِ الأسبابِ العمليةِ، في سبيلِ مواجهةِ الأمراضِ الوبائيةِ.
ففي التَّباعدِ الاجتماعيِّ، لما انتشرَ طاعونُ عَمواس في الشَّامِ وقتلَ عشراتِ الآلافِ، خطبَ عَمرو بنُ العاصِ بالنَّاسِ، وقالَ لهم: "أيُّها النَّاسُ! إِنَّ هذا الوجعَ إِذا وَقعَ إِنَّما يَشتعلُ اشتعالَ النَّارِ، فتجنَّبوا منه في الجِبالِ"، فخَرجَ، وخَرجَ النَّاسُ، فتَفرقوا حتَّى رَفعَه اللهُ عَنهم.
وعندما عَمَّ الوَباءُ الأندلسَ، أمرَ عبدُ الرحمنِ النَّاصرُ النَّاسَ أن يَلزموا بُيوتَهم، وما هي إلا أَيامٌ وزَالَ الوَباءُ، وهكذا الأمةُ الواعيةُ التي تَأخذُ بأسبابِ النَّجاةِ، فيزولُ الوباءُ وترجعُ إلى الحياةِ.
وفي تغطيةِ الأنفِ والفَمِّ: يَقولُ ابنُ عبدونَ التُّجِيبيُّ الأندلسيُّ المتوفى سَنةَ 527 للهجرةِ، في كتابِه رسالةٌ في القَضاءِ والحُسبةِ، وهو يوصي مُراقبَ سوقِ الطَّحانينَ والخبَّازينَ: "ولا يَعجنُ أَحدُهم إلا وهو مُلَثَّمٌ لئلا يَتطايرُ من فَمِه شيءٌ إذا عَطسَ أو تَكلَّمَ، وأن يَشدَّ على جَبينِه عِصابةً بَيضاءَ كي لا يَعرقُ فيَقَطرُ منهُ شيءٌ فَوقَ العَجينِ"، كلُّ هذا حفاظاً على صحةِ النَّاسِ من انتشارِ الأمراضِ عن طريقِ رذاذِ الأنفِ والفمِ، هذا في الأندلسِ قبلَ أكثرِ من تسعمائةِ سنةٍ.
ولذلكَ لا تلوموا العالمَ الفيزيائيَّ الفَرنسيَّ بيير كوري، والحاصلُ على جَائزةِ نوبل في الفيزياءِ عامِ 1903م، عندما قالَ: "تمكنَّا من تَقسيمِ الذَرَّةِ بالاستعانةِ بـ30 كتابًا بَقيتَ لنا من الحَضارةِ الأندلسيةِ"، ثُمَّ يُكملُ قَائلاً: "ولو كَانت لدينا الفُرصةُ لمطالعةِ المئاتِ والآلافِ من كُتبِ المسلمينَ، والتي تَعرضتْ للإحراقِ، لكُنَّا اليومَ نَتنقلُّ بينَ المجراتِ الفضائيةِ".
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم وللمسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ المحمودِ على كلِّ حَالٍّ، الموصوفِ بصفاتِ الجلالِ والكمالِ، المعروفِ بمزيدِ الإنعامِ والإفضالِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له ذو العظمةِ والجَلالِ، وأَشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه وخليلُه الصَّادقُ المَقالُ، اللهمَّ صلِّ على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه خَيرِ صَحبٍ وآلٍ، وسَلمَ تَسليماً كثيراً.
أما بعد: أيُّها الأحبَّةُ: وفي الوقتِ الذي يُعربُ فيه متحدِّثُ منظمةِ الصَّحةِ العالميةِ عن قلقِه، ها هو متحدِّثُ الصِّحةِ في بلادِنا يُبشِّرُ بانحسارِ الوباءِ، ولكن في نفسِ الوقتِ يُحذِّرُ من التَّصرفاتِ الخاطئةِ، والاستهتارِ بالإجراءاتِ الاحترازيةِ، والتي قد تَرفعُ نسبةَ الحالاتِ، وتُعيدُ انتشارَ الإصاباتِ، فعلينا بعدمِ التَّساهلِ والاستمرارُ في اتِّباعِ التَّوجيهاتِ، حتى نجتازَ الأزمةَ ونرجعُ إلى حياتِنا الطبيعيةِ.
ألم تشتاقوا إلى مجالسِ الأهلِ والأصحابِ؟، ألم تشتاقوا إلى عِناقِ الأحبابِ؟، ألم يأنِ لنا أن نتراصَّ في صفوفِنا؟، ألم يحنْ لنا أن نتصافحَ بكفوفِنا؟، فالصبرَ الصبرَ .. والالتزامَ الالتزامَ .. فإنما هي أيامٌ وأيامٌ، ويعودُ الفرحُ وينكشفُ الغَمامُ.
عمَّا قريبٍ نرى الأفراحَ غامرةً *** ويرحلُ الحزنُ عنَّا وهو مَخذولُ
وتَنجلي الغُمَّةُ السَّوداءُ صَاغرةً *** لا رَيبَ فاليُسرُ بعدَ العُسرِ مَأمولُ
اللهمَّ أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَك إنَّا كُنَّا من الظالمينَ، اللهمَّ اكشف عنا الضَّراءَ والبأساءَ، وارفع عَنَّا وعن الناسِ هذا الوَباءَ، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم احفظ إمامَنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ وولي عهدِه الأمينِ، اللهم انصر بهم الحقَّ وأهلَه، وادحر بهم الباطلَ وأهلَه، إنَّكَ سَميعُ الدُّعاءِ.
اللهم انصر جنودَنا، وأمَّن حدودَنا، ويَسر أمورَنا، واشرح صدورَنا، ونور قلوبَنا، واحفظنا وإياهم من بين أيدينا ومن خلفِنا يا ربَّ العالمينَ.
سبحانَ ربِّكَ ربِّ العزةِ عَما يَصفونَ، وسَلامٌ على المرسلينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
التعليقات