عناصر الخطبة
1/ مكانة المسجد الأقصى ومدينة القدس 2/ مسؤولية حفظ المقدسات الإسلامية 3/ اعتداءات الصهاينة على المسجد الأقصى 4/ فضائل المسجد الأقصى 5/ حكم تعظيم صخرة بيت المقدس 6/ واجب المسلمين في المحافظة على الأقصى.اقتباس
إن مما يفتّ الأكباد كمداً، ويؤرِّق الأجفان ويقضُّ المضاجع، أن نرى أعداء الله ورسوله من اليهود، يتسلطون هذا التسلط، ونسمع من قادتهم التصريحات تلو التصريحات بما يخططون له وما يستعدون له من هدم للمسجد الأقصى وسعي لبنيان الهيكل المزعوم مكانه.. فمنذ سنين والأرض المباركة تموج بأحداث جسام واعتداءات عظام من أعداء الله ورسوله، فما زالت دولة الاحتلال مستمرة في الحفريات وفتح شبكة من الأنفاق تحت أساساته وإزالة الصخور والأتربة من حولها...
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الإخوة: فللمسجدِ الأقصى ومدينةُ القدس منزلةٌ رفيعةٌ في الإسلام بعد أن تحولا إلى إرث الأمة الخاتمة.. ولم يكن تعلق المؤمنين من بني إسرائيل بهذه المقدسات بأكثر من تعلق المؤمنين من أتباع محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بها، فالقدس والأقصى يسكنان سويداء قلب كل من له قلبٌ من المسلمين.
أيها الإخوة: لقد جاء نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- بالشريعة الخاتمة، والكتاب الأخير المهيمن على كل ما سبقه من كُتبٍ، وما سلفه من رسالات، قال الله -تعالى- مقرراً ذلك: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [المائدة:48]، وهذا يعني أن مسؤوليةَ حفظ وتكريم المقدسات سيكون على كاهل المنتسبين إلى الرسالة المحمدية الخاتمة والكتاب المهمين، فكما أن مكةَ والكعبةَ المشرفة أماكنُ مقدسةٌ في ملةِ إبراهيمَ وإسماعيلَ -عليهما الصلاة والسلام-، وامتد تقديسهما وتكريمهما كذلك عند الأمةِ المسلمة؛ فبيت المقدس والمسجد الأقصى كانا مقدسين في ملة إبراهيم وإسحاق -عليهما السلام-، وامتد تقديسهما وتكريمهما كذلك عند الأمة المسلمة.
أيها الإخوة: نقول هذا توطئةً لحديث عن بيت المقدس والمسجد الأقصى في الأرض المباركة، نتحدث عن المسجد الأقصى وقد مضى على احتلال اليهود له أكثر من خمسين سنة. فمنذ عام ألف وثلاثمائة وسبع وثمانين وأعداء الله ورسوله يعيثون به فساداً وبأهله عذابًا، وإن مما يفت الأكباد كمداً، ويؤرِّق الأجفان ويقضُّ المضاجع، أن نرى أعداء الله ورسوله من اليهود، يتسلطون هذا التسلط، ونسمع من قادتهم التصريحات تلو التصريحات بما يخططون له وما يستعدون له من هدم للمسجد الأقصى وسعي لبنيان الهيكل المزعوم مكانه.
يقول داود بن جوريون أحد قادة يهود: "إن شعبي الذي يعيش الآن على أعتاب الهيكل الثالث لا يستطيع التحلي بالصبر على النحو الذي كان يتحلى به أجداده". ويقول: "لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل".
وصدق الخبيث وهو كذوب؛ فمنذ سنين والأرض المباركة تموج بأحداث جسام واعتداءات عظام من أعداء الله ورسوله فما زالت دولة الاحتلال مستمرة في الحفريات وفتح شبكة من الأنفاق تحت أساساته وإزالة الصخور والأتربة من حولها فصار معلقاً بالهواء وظهرت آثار ذلك في أسواره الجنوبي والغربي.
ويقول الحاخام: مناحم مكوبر زعيم جماعة أبناء الهيكل: إنه وفي كل الأحوال وتحت أي ظروف سوف يتم بناء الهيكل، وسوف يتم هدم المسجد الأقصى وأنه في الوقت الذي سنحصل فيه على الضوء الأخضر سيتم بناء الهيكل خلال بضعة أشهر فقط باستخدام أحدث الوسائل التكنولوجية، وأن المساجد الموجودة في تلك المنطقة بما فيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة، هي مجموعة من الأحجار يجب إزالتها!!
أسأل الله بمنه وكرمه أن يفسد خططهم، وأن يجعل كيدهم في نحورهم، وأن يحفظ مسرى نبيه الكريم منهم ويطهره.
وفي يوم الجمعة الماضي أغلق الاحتلال الإسرائيلي المسجد الأقصى إغلاقاً تاماً أمام المصلين لأول مرة منذ خمسين عاماً، بذريعة وقوع عملية فدائية داخل المسجد، وبقي إلى يوم الأحد الماضي ومنع موظفي الأوقاف والأمن من دخوله، وخلال هذه الفترة ركب الاحتلال بوابات إلكترونية وشدَّد في حراسته، وحوَّلوه إلى ثكنة عسكرية.
أيها الإخوة: المسجد الأقصى ذلكم المسجد الذي أُسري برسول الله –صلى الله عليه وسلم- إليه. قال الله -تعالى- عنه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء:1]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "هو البيت المقدس الذي بإلياء معدن الأنبياء –أي: الأصل الذي نبتوا فيه- من إبراهيمَ الخليل، ولهذا جُمع الأنبياءُ له –صلى الله عليه وسلم- هناك فأمَّهم في محلتهم ودارهم، فدل على أنه –صلى الله عليه وسلم- هو الإمامُ المعظمُ والرئيسُ المقدمُ".
ولقد كانت صلاته –صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء عليهم السلام ليلة الإسراء، إقراراً مُبيناً بأن الإسلام كلمةُ التوحيدِ الأخيرةِ للبشر، وكان في الإسراءِ دلالةٌ على أن آخر صِبغة للمسجد الأقصى وهو المعبدُ العريقُ بالقدم هي الصبغةُ الإسلامية، واستقر نسب المسجدِ الأقصى بالأمة التي أم رسولها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه سائر الأنبياء.
قَالَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ"، قَالَ: "فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ"، قَالَ: "فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ"، قَالَ "ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ.." (رواه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ).
والمسجد الأقصى ثاني مسجد وُضِع في الأرض لعبادة الله وتوحيده، فعن أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ" قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الأَقْصى" قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً" (متفق عليه).
المسجد الأقصى ثالث المساجد المعظَّمة في الإسلام التي تُشَدُّ الرحال إليها لطاعة الله وطلب المزيد من فضله وكرمه، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى" (متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
والصلاة فيه مضاعفة، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَلَاةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ؟ أَوِ الصَلَاةُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ؟، فَقَالَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى فِي أَرْضِ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ, وَلَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ وَلَقَيْدُ سَوْطٍ, أَوْ قَالَ: قَوْسُ الرَّجُلِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ, خَيْرٌ لَهُ, أَوْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا" (رواه البيهقي في الشعب وصححه الألباني، وروى الحاكم نحوه وصححه ووافقه الذهبي والألباني).
وسبق أنه –صلى الله عليه وسلم- قال في مسجده: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام" (رواه مسلم).
وكان المسجد الأقصى قبلة للمؤمنين من اليهود قبلنا، ثم قبلة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وللمسلمين بعد هجرته ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً. كما في حديث البراء بن عازب عند البخاري.
أيها الإخوة: وبيت المقدس يقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من مدينة القدس المسورة وتسمى الآن البلدة القديمة، ويشكل المسجد حوالي سدس البلدة القديمة على مساحة قدرها مائة وأربع وأربعين ألف متر مربع فوق هضبة صغيرة تسمى موريا، وأعلى نقطة فيه الصخرة، وهي صخرة طبيعية تتراوح أبعادها بين حوالي 13 و 18 متراً، وارتفاعها حوالي المترين تقريباً.
وقد دارت حولها القصص الخيالية غير الصحيحة بشكل كبير، وقد أنكر علماء المسلمين التعلق بالصخرة، وبينوا أنها صخرة من صخور المسجد الأقصى، وجزء منه، وليس لها أية ميزة خاصة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يصلِّ عندها عمر -رضي الله عنه- عندما أتى بيت المقدس، ولا الصحابة، ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة، بل كانت مكشوفة في خلافة عمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، ويزيد، ومروان، وبنى عليها عبدالملك بن مروان القبة". ا هـ.
وقد ضعَّف الإمام ابن القيم كل الأحاديث الواردة في الصخرة، فقال: "وكل حديث في الصخرة فهو كذب مفترى، والقدم الذي فيها كذبٌ موضوع مما عملته أيدي المُزَورِين، الذي يُرَوجون لها ليكثرَ سوادَ الزائرين، وأرفع شيء في الصخرة أنها كانت قبلة اليهود، وهي في المكان كيوم السبت في الزمان، أبدل الله بها هذه الأمة المحمدية الكعبة البيت الحرام". اهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فصخرة بيت المقدس باتفاق المسلمين لا يُسَنُّ استلامها، ولا تقبيلها، ولا التبرك بها كما يفعله بعض الجُهال، وليس لها خصوصية في الدعاء، ويجب تحذير المسلمين من هذا الفعل، ولم يثبت حديث صحيح في فضل الصخرة وكل ما قيل فيها لا يصح سنده لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
والخلاصة: أن كل ما قيل في هذه الصخرة أصله من أهل الكتاب، وليس له أصل في كتب العقيدة الإسلامية، ولا في الصحيح من حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-..
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: إن هذه الأرض المقدسة عند المسلمين، هي مقدسة عند اليهود ومكانتها عندهم تدفعهم بقوة وتؤزهم بشدة إلى ركوب الصعب والذلول للسيطرة التامة الشاملة عليها بشكل نهائي، تمهيداً لاستقبال أحداث آخر الزمان التي يرى اليهود أنهم المحور الذي تدور عليه.
هذا التقديس المشترك يمثل البعد الحقيقي الديني لقضية فلسطين والقدس والأقصى. لكن الفرق أنَّ أهل الكتاب كفار ومشركون، وهذا الكفر والشرك يجعل ولايتهم عليها من المستحيل حتى لا يتعبدوا فيها على غير التوحيد والدين الخاتم الذي رضيه الله.
ولو ادعاه يهود فلا يقبل؛ لأن التوحيد لا يُقبَل إلا ممن آمن بالنبي الخاتم محمد –صلى الله عليه وسلم-، وهم لم يؤمنوا به، ومع ذلك يصرون على حيازة تلك الأرض؛ لإقامة شعائر الكفر بعد أن يقضوا على رمز التوحيد فيها؛ مسجدِ الإسراء، ويبنوا مكانه الهيكل.
أيها الإخوة: في تراث اليهود القديم حديث عن هذه الأرض المقدسة وذلك الهيكل – فما المراد بالهيكل– الهيكل كلمة غير عربية تعني (البيت الكبير)، وصارت تطلق هذه التسمية على كل مكان كبير يتخذ للعبادة.
ولما بنى سليمان –عليه السلام- المسجد الأقصى على هيئته العظيمة نسب إليه ذلك المسجد، وأطلق عليه أهل الكتاب هيكل سليمان، وكان المسجد الأقصى موجوداً قبله، لكن في عهده شهدت مدينة القدس والمسجد الأقصى عصرها الزاهر عند اليهود.
وإن وَلَعَ اليهود في هذا العصر بالحديث عن الأرض والهيكل لا يقل إلحاحاً وترداداً عن حديثهم القديم، بمناسبة وغير مناسبة، فطالما قالوا: لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل.
أيها الإخوة: لقد بلغ الهيكل عند اليهود منزلةً جعلتهم يتخذون منه رمزاً منقوشاً على العلم الإسرائيلي!! إنه نجمة داود السداسية. هذه النجمة التي تجدها تتوسط ذلك العَلَم، وهي مطبوعة على هامات الجند اليهود في خوذاتهم، ويحملونها على أكتافهم، ومطبوعة على كل قطعة سلاح من أسلحتهم، ولم يخجل اليهود من اتخاذ هذا الرمز الديني شعاراً لدولتهم المتقدمة، هكذا يخططون، وهكذا يريدون، فهل تعي الأمة المسلمة مرادهم؟
أسأل الله -تعالى- أن يوفِّق المسلمين قادةً وشعوباً لمعرفة كيدهم وهدفهم حتى يتعاملوا معه بما يناسبه، وأن يخلص المسجد الأقصى والأرض المباركة منهم، وأن يجعلها في يد صالح عباده؛ إنه جواد كريم.
التعليقات