عناصر الخطبة
1/ثبات الإسلام عقيدةً وشريعةً 2/سر بقاء الإسلام واستمراره 3/آيات محكمات وقواعد قرآنية جامعة 4/خطورة ابتعاد الأمة عن القواعد القرآنية الجامعة.اقتباس
إنَّ اجتماعَ الأمةِ على المحكماتِ هو أساسُ وحدةِ الكلمة، وطريقُ جَمعِ القلوب، فالمحكماتُ بما فيها من الوضوح تُمثّلُ الرايةَ البيّنةَ التي يلتفُّ حولها أهلُ الإسلام، فعليها يجتمعون، وإليها يَحتكمون، فحين يجتمع أهلُ الإسلامِ على المُحكمات التي هي "معظم الكتاب"؛ فإن مساحةَ الاتفاقِ ستكبرُ وتتسع، ومساحةَ الخلافِ ستصغرُ وتضيق، فتصفو القلوب، ويقلُّ التنازع...
الخطبة الأولى:
أما بعد: خلال أربعةَ عشَرَ قرنًا من الزمان، ظلّ دينُ الإسلامِ ثابتًا راسخًا، على مرِّ الأزمنةِ وتعاقبِ الأجيال، تقومُ حضارةٌ وتموتُ أخرى، وينشأُ مذهبٌ ويختفي آخر، والإسلامُ باقٍ كما هو بأصوله وأركانه وثوابته.
وإن من أهمّ عواملِ هذا الثبات: أنَّ اللهَ -سبحانه- أقامه على قواعدَ ثابتةٍ، وأركانٍ راسخةٍ، ومُحكَماتٍ بيّنة، تُوافق الفطرةَ الإنسانية، وتتَّفق مع العقلِ السليم، ويتحقق بها صلاحُ الدين والدنيا.
وبذلك ظل دين الإسلام صامدًا أمام كلِّ حملات الطعن، وكلِّ هجمات التشويه والتشكيك.
وقد قَضَى حُكْمُ اللهِ في أرضِه أنَّه سيحفظ دينَه لا محالةَ؛ فقال -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9]، فلا يخافُ المسلمُ على دين الله، وإنما يخافُ على نفسه وعلى نفوسِ الناس؛ فإنَّ الدينَ محفوظٌ، لكنَّ النفوسَ غيرُ محفوظةٍ.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)[آل عمران:7]؛ فالآياتُ المحكماتُ هي الواضحاتُ البيّناتُ التي لا تلتبس على أحدٍ، وهي أُمّ الكتاب؛ أي: "معظم الكتاب"(جامع البيان للإمام الطبري)، وهي "أصْلُهُ وما يَنْضَمُّ إلَيْهِ كَثِيرُهُ، وتَتَفَرَّعُ عَنْهُ فُرُوعُهُ"(التحرير والتنوير لابن عاشور).
فتلك المحكماتُ فيها البيانُ من الله، والحجةُ على العباد، قال محمد بن إسحاق بن يسار: "فِيهِنَّ حُجَّةُ الرَّبِّ، وَعِصْمَةُ الْعِبَادِ، وَدَفْعُ الْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ، لَيْسَ لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ عَمَّا وُضِعْنَ عَلَيْهِ".
وقد ضربَ ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- أمثلةً على الآيات المحكمات من سورة الأنعام وسورة الإسراء، وحين نستعرض تلك الآيات، ونتأملُ فيها؛ نجد أنها تضمَّنت العديدَ من أصولِ العقائد والشرائع والأخلاق، التي تقودُ إلى صلاحِ الدينِ والدنيا، وتحقيقِ السعادةِ والأمنِ في الداريْن.
فجاءت تلك الآياتُ بحفظِ الدينِ كالأمرِ بالتوحيدِ والتحذيرِ من الشرك: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)[الإسراء:23]، وجاءت بحفظِ النفسِ في تحريمِ قتلِ النفسِ بغيرِ حقّ: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)[الإسراء:33]، وجاءت بحفظِ العقلِ في التحذيرِ من اتباعِ الحدسِ والظنون: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)[الإسراء:36].
وجاءت بحفظِ العِرْضِ في تحريمِ الزنا والقربِ منه: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)[الإسراء: 32]، وجاءت بحفظِ المالِ في الأمرِ باستيفاءِ الكيلِ والميزان: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)[الأنعام:152].
كما اشتملت على أصولِ الأخلاقِ وحُسنِ التعامل، كالأمرِ ببرّ الوالدينِ والإحسانِ إليهما (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[البقرة:83]، وقولِ العدلِ: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)[الأنعام:152]، وتحريمِ الكِبْرِ: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا)[الإسراء:37]، فبالمحكمات تُحفظُ الضروريات، ويصلحُ الأفرادُ والمجتمعات.
وما ضل كثيرٌ من أبناءِ هذه الأمة إلا حينما فرَّطوا في المحكماتِ البيّنات، فما غلا بعضُ أبناء الأمة، وأزهقوا الأرواحَ البريئةَ إلا عندما فرّطوا في مُحْكمِ تحريم قتل النفس بغير حق، وما وقع كثيرٌ منهم في مراتع الرذيلة إلا عندما فرّطوا في محكمِ تحريمِ الفواحش، وما وقع غيرهم في الشرك والبدعة إلا حينما فرّطوا في محكم التوحيد واتباعِ منهج الرسول، وما وقعوا في هَضْمِ حقوق الناس إلا حينما فرَّطوا في محكم العدلِ وتحريم الظلم.
وكل فِرْقة من الفِرَق الضَّالة إنما انحرفت عن الطريق، وفارقت المنهجَ الحقَّ حين فرّطت في المحكمات البينات الواضحات.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[آل عمران:7]، ثم قال: "فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ؛ فَاحْذَرُوهُمْ".
وهنا يحذّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أُمتَه من مسلكِ أهلِ الزيغِ الذين يتركون المحكماتِ الواضحاتِ ويُعرضون عنها، ويتَّبعون المتشابهات التي قد تحتمل وجوهًا عدَّة فـ"تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر"(تفسير القرآن العظيم لابن كثير)، يريدون بذلك إضلالَ الناس، وتأويلها بما يوافق شهواتِهم وأهواءَهم، لا بما يوافق الحقَّ من المحكمات البينات.
قال ابن كثير: "إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، ويُنزلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأمَّا المحكم فلا نصيبَ لهم فيه؛ لأنه دامغٌ لهم وحُجَّة عليهم".
وبالتفريط في المحكمات البينات ضلَّت الأمم السابقة، واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، حتى ضاع دينُهم، واهتزت ثوابتُهم، قال -سبحانه-: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)[البقرة:213].
ولكنَّ الفرقَ بيننا وبين مَن سبقنا من الأمم، أنَّ الله توكَّل بحفظ دين الإسلام الخاتم، ومحكماته البيّنات، وأصوله الراسخات، وقيَّض لهذه الأمة مَن يبقى على الحق، ويقيمُ عليه، ويدعو إليه، حتى يأتيَ أمرُ الله بقبضِ روحِ كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ بالريحِ الطيبةِ قبل قيام الساعة، قال -سبحانه-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران: 110]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ كَذلكَ".
والواجبُ علينا -يا عباد الله- أن نتمسَّك بثوابت ديننا ومُحْكَمَاته، وأن لا نقبل التشكيك فيها، وأن نُرسِّخها في نفوسنا ونفوس أبنائنا ومن حولنا، فبحفظها يُحفظ الدين في النفوس، وبالتفريط فيها ينفرطُ العقد، وتختلُّ الأركان، ويتغلغلُ الضلال في جسد الأمة.
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإنَّ اجتماعَ الأمةِ على المحكماتِ هو أساسُ وحدةِ الكلمة، وطريقُ جَمعِ القلوب، فالمحكماتُ بما فيها من الوضوح تُمثّلُ الرايةَ البيّنةَ التي يلتفُّ حولها أهلُ الإسلام، فعليها يجتمعون، وإليها يَحتكمون، فحين يجتمع أهلُ الإسلامِ على المُحكمات التي هي "معظم الكتاب"؛ فإن مساحةَ الاتفاقِ ستكبرُ وتتَّسع، ومساحةَ الخلافِ ستصغرُ وتضيق، فتصفو القلوب، ويقلُّ التنازع...
وقد ابتُلينا بزمنٍ كثرت فيه الفُرقة، وعمَّ فيه التنازع، حتى صار سمةً واضحةً من سمات هذا العصر، وسببًا في ضعف المسلمين وتخلّفَهم عن ركب الأمم، وذلك مصداق قول الله -تعالى-: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال:46].
وإنَّ أول خطوة في لَمّ شَمْل المسلمين، هي أن نجتمعَ على المحكمات الواضحات التي تُمَثّل القاعدةَ المشتركةَ بين كل أهل الإسلام المتبعين للوحي، كما أن كثرتَها وكونَها معظمُ الكتاب يوسّعُ مساحةَ تلك القاعدة المشتركة، فنجتمع على التوحيد والإحسان والأُخوة الإيمانية والعدل، ونجتمع على محاربة الشرك، ونبذ الظلم، وإنكار الفواحش، وغير ذلك من المحكمات.
فإن حصل بعد ذلك خلاف بين بعض المسلمين فيما سواها من الأمور المتشابهة، فلن يكون ذلك سببًا في الفُرقة المذمومة؛ لأن النظرةَ الفاحصةَ الواسعةَ لن تهمل الكَمَّ الهائلَ من الاتفاق في مسائل المحكمات، ثم تقتصر على الخلافِ الجزئي، وتقيم عليه أسباب الولاء والعداء.
وأما حين تغيب المحكمات عن النظر، فقد يُصاب بعض المسلمين بضِيق الأُفُق فيضخّمون مسائل الخلاف، ويُنسيهم الشيطان مساحةَ الاتِّفاق الواسعة التي بينهم في المحكمات. ولذلك فإنَّ معرفة المحكمات والفقه فيها، ودعوة الناس إلى الالتفاف حولها، مِن أعظم ما يَعْصِم المسلمين من الاختلاف والفُرْقَة.
اللهم يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك.
اللهم يا مصرّف القلوب صَرِّف قلوبنا على طاعتك.
اللهم جنّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
التعليقات