عناصر الخطبة
1/ محاسبة أنفسِنا على نِعَم الأخوة والخيرية والوسطية 2/ إصلاح المجتمع بتحمل المسؤولية الخلقية الفردية والجماعية 3/ الربا والزنا وتأثير أخلاق الفرد على المجتمع 4/ كيفية محاسبة المجتمع بعضه بعضا لاستعادة معافاتهاهداف الخطبة
اقتباس
ينبغي أن يحاسب المجتمع بعضه بعضاً، فيُعلَّمُ الجاهل، ويُذكَّر الناس، ويُردع المتطاول، فسلامةُ سفينة المجتمع هدفٌ أرشد إليه الإسلام، وحذّر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من آثارِه السلبية، وترْكِ الأمر والنهي، كما في حديث القوم الذين استهموا السفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، ولو تُرك الجاهلون يخرقون السفينة من أسفلها لهلكوا وأهلكوا من فوقهم ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:102-103].
أيها المسلمون: مع دورة الأفلاك، وتعاقب الليل والنهار، وانصرام الشهر، ومجيء العام بعد العام، ومع تذكر الموت، واستحضار الحشر والمعاد، لا بد من المحاسبة اليوم؛ لأنه لا مفرَّ من المساءلة غداً، فالقرآن مذكِّرٌ للأمة، لكن سيسألون عنه: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ) [الزخرف:44]، والسؤال شاملٌ لمن أرسل إليهم والمرسلين: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف:6].
وإذا كان الصادقون يُسألون، فما الظنُّ بمــَن دونهم؟ (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) [الأحزاب:8].
وإذا لم تُنس الموءودة بالسؤال وهي لا تملك من أمرها شيئاً، فكيف سيكون السؤال لمن وأدها: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير:8-9].
لا بد من المساءلة يا عباد الله عن النَّقِير، والقِطْمِير، ولا بُدَّ من المجازاة عن العمل ولو كان مثقال ذرة، ولا يخفى عن الله شيءٌ في الأرض ولا في السماء، حتى ولو كانت (مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان:16].
عباد الله: إذ سبق الحديث عن المحاسبة للنفس على مستوى الفرد، فثمة حساب ينبغي أن نعيه على حساب المجتمع والأمة، وإذا أعطى الله قوماً نعمةً حاسبهم على شكرها أو كفرها.
ومن أعظم النعم في مجتمع المسلمين نعمة اجتماع الكلمة، والألفة والمحبة، والقيام بحقوق الأخوة الإسلامية، هذه نعمةٌ يُذكَّرُ بها المؤمنون، ويذكرون بما يُضادُّها من الفرقة والشحناء والبغضاء، وهذه النعمة أساسُها التقوى، وعمادها الاعتصام بالكتاب والسنة، كما قال -جلَّ من قائل عليم-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:102-103].
وهذه النعمة لا يستطيع البشر أن يوفروها لأنفسهم مهما أوتوا من العلم، ومهما بلغت بهم الحضارة، إذا كانوا بمنأى عن تعاليم السماء؛ وهم عاجزون عن جلبها بأغراض الدنيا ولو أنفقوا في ذلك ما أنفقوا، إنها منحةٌ إلهية وكفى! (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:63].
تُرى؛ كم يخسر المسلمون وهم يُفرّطون في هذه النعمة الكبرى، حين تنشأ في صفوفهم الإحن، وتسود القطيعة، وتتسع دائرة الخلاف والفرقة! وكم تضعف المجتمعات المسلمة من قوتها حين يُساء الجوار، ويُتنابز بالألقاب! كم تُهْدَر من طاقة، وتهدُّ أركانٌ بالحق قائمة، وتُشل قوى متربصة، ويختلف النفاق بالإيمان، ويغيب الحقُّ أو يكاد، وتظلل الرؤيةَ أصواتُ المبطلين، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؛ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:53].
أيها المسلمون: لا بد أن نحاسب أنفسنا على نعمة الأخوة واجتماع الكلمة حتى لا تتقطع أوصالنا، وتذهب ريحنا، ونكون محل شماتة الأعداء وفساد في ديننا، لا بد من معرفة الداء، ولا بد من الدواء، وابدأ بنفسك أيها المسلم، فعالج ما تجد فيها من بغض أو نُفرة أو حقد أو حسد لأي من إخوانك المسلمين دون سبب مشروع.
إخوة الإسلام: المسلمون أمةٌ واحدةٌ، وقوةٌ ضاربة في أعماق الزمن، لا يدانيهم في ذلك أمةٌ من الأمم، كيف لا؟ والمسلمون مهما تباعدت ديارهم، واختلفت ألسنتهم وألوانهم، ومهما علت أو قلّت مراتبهم يلتقون تحت شعار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وتمتد مسيرة الأمة الواحدة في أعماق الزمن لتشمل جموع المؤمنين من أتباع الأنبياء والمرسلين منذ بُعث أول نبي، وحتى خُتِمت الرسالات بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك أراد الله لنا، وكذلك قص القرآن علينا (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:92] ، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون:52]، فهل يدرك المسلمون سرَّ هذه القوة، هذه الأمة أمة عقيدة ودعوة، عقيدة صادقة صافية تعتز بها، ودعوة إلى الخير يتشرف كلُّ من انضوى حتى لوائها.
ومع خيرية الأمم السابقة، فأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- خيرها على الإطلاق، ولكن هذه الخيرية مشروطة بعدة أمور، ومن أبرزها القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110].
وهذه الخيرية مسؤولية ونعمة أخرى لا بد أن يحاسب المسلمون أنفسهم عليها، هل قاموا بواجبها؟ ما العقبات التي تعترض سبيلها؟ ما أنسب الوسائل والطرق لتحقيقها؟.
إن أمم الأرض كلَّها تنتظر من المسلمين أن يفيئوا عليهم من هذه الخيرية، وقد لجَّت بهم المذاهب والأفكار والنحل الباطلة، فهل يقود المسلمون زمام السفينة لينقذوا أهلها من الغرق المحتمل بين عشية أو ضحاها؟ تلك -وربي!- مسؤولية وتبعة، وسوف يسأل عنها المسلمون.
أيها المؤمنون: مع خيرية أمة الإسلام فهي أمةٌ وسط، وهي شاهدة يوم القيامة على الأمم الأخرى، يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة:143].
والوسط هنا -كما قال أهل التفسير- الخيار والأجود، ووسطيتها تشمل المنهج والسلوك، فقد خصها اللهُ بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، فلا رهبانية في الإسلام، ولا حرج في الدين، (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ) [الحج:78].
أيها المسلمون: إن من الخزي والعار أن تشهد الأمم الكافرة في الدنيا على أمة الإسلام بالضعف والتفكك والتبعية، وكيف لأمة مغلوبة، ومهزومة نفسيًّا أن تقود ركب الأمم؟ وهذه الانهزامية ليست من طبيعة منهجها، وهذا التفكك والضعف ليس من سمات تاريخها.
ملَكْنا هذه الدنيا قروناً *** وأخْضَعَها جُدُودٌ خالدونا
وسطَّرْنا صحائفَ من ضياءٍ *** فما نسِي الزمان ولا نسِينا
عباد الله: هذه المعالم الثلاثة: الأخوةُ الإسلامية، وخيرية هذه الأمة بعقيدتها ودعوتها، ووسطيتها بمنهجها، مُسَلَّماتٌ لا بد أن تحاسب الأمة نفسها عليها بين الفينة والأخرى، ولئن أصابها شيئٌ من الضمور أحياناً، أو تخلف أثرها في الواقع، أو قصر المسلمون في الوصول إلى مستواها حيناً من الدهر، فينبغي أن تكون حقائق مستقرة في الأذهان، وهدفاً يُسعى إلى تحقيقه في واقع الحياة.
ومما يُسلِّي ويسرِّي أن الأمة المسلمة تمر أحياناً بمراحل ضعف، لكنها لا تلبث أن تفيء إلى دينها، وتجدد ما اندثر من حضارتها، وتسدد ما أصابه الخللُ من قيمها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الإسراء:39-41]. نفعني الله وإياكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
إخوة الإسلام: من الأمور التي ينبغي للمجتمع المسلم أن يحاسب نفسه عليها، المسؤولية الخلقية والجزاء عليها، إذ إن الإسلام أمر بجملة من الأخلاق الفاضلة، ورتب الجزاء عليها، ونهى عن جملة من الأخلاق السيئة وشرع العقوبة، ووضع الحدود لمرتكبيها.
ويظن بعض الناس ظنًّا خاطئاً أن آثار الخلق الحسن لا يستفيد منها غير صاحبها، وأن شؤم المعصية لا تمتد إلى المجتمع، وآثار الخلق المشين لا يتضرر منها المجتمع من حوله، صحيح أن هناك مسؤولية فردية فـ (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر:38]، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164].
ولكن المسؤولية الجماعية تُعد امتداداً للمسؤولية الذاتية، فحينما نسأل عن أعمال غيرنا إنما نسأل عن انعكاسات مواقفنا الإيجابية أو السلبية، ولولا ذلك لما قام سوقُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما مُيزت به هذه الأمة عن غيرها من الأمم وأُمرت به: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104]، ولولاه لما قام واجبُ الإصلاح بين أفراد المجتمع، وجاء الأمر به بعد التقوى، (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال:1].
والإصلاح من صفات المؤمنين، ومن لوازم الأخوة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات:10].
وتأملوا وقفة ابن العربي -يرحمه الله- حول تفسير قوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وما فيها من إشارة وفهم للمسؤولية الفردية والجماعية، يقول -رحمه الله-: هذا حكمٌ من الله تعالى نافذٌ في الدنيا والآخرة وهو ألا يُؤاخذ أحدٌ بجرم أحدٍ، بيد أنه يتعلق ببعض الناس من بعض أحكام في مصالح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إلى أن يقول: والأصل في ذلك كله أن المرء كما يُفترض عليه أن يصلح نفسه باكتساب الخير، فواجب عليه أن يصلح غيره بالأمر به، والدعاء إليه، والحمل عليه، وهذه فائدة الصحبة، وثمرة المعاشرة، وبركة المخالطة، وحسن المجاورة، فإن أحسن في ذلك كله كان معافىً في الدنيا والآخرة، وإن قصَّر في ذلك كلِّه كان معاقباً في الدنيا والآخرة.
فعليه -أولاً- إصلاح أهله وولده، ثم إصلاح خليطه وجاره، ثم سائر الناس بعده بما بيناه من أمرهم ودعائهم وحملهم، فإن فعلوا، وإلا استعان بالخليفة لله في الأرض عليهم، فهو يحملهم على ذلك قسراً.
ثم يقول: ومتى أغفل الخلقُ هذا فسدت المصالح، وتشتت الأمر، واتسع الخرق، وفات الترقيع، وانتشر التدمير. اهـ.
أيها المسلمون: خذوا على سبيل المثال لا الحصر، أمرين نهى عنهما الإسلام وحذر من آثارهما على الفرد والمجتمع، يتعلق أحدهما بحفظ الأنساب وسلامة الأعراض، ويتعلق الآخر بحفظ الأموال وصيانتها عن الحرام: الزنا، والربا. تضافرت نصوص الكتاب والسنة على تحريمهما، بما لا يخفى، ولكن السؤال المهم: هل تتجاوز آثارُهما الفرد إلى المجتمع؟.
يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لا تزال أمتي بخير ما لم يَفْشُ فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمَهم الله -عز وجل- بعذاب" رواه أحمد وحسنه المنذري، وفي حديث آخر قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" رواه الحاكم.
عباد الله: لا عجب أن تكون عقوبة الزنا حارساً يحفظ أعراض الناس من أن تمس باطلاً، ويصون ألسنتهم من أن تقول زوراً، ويقي حياتهم من أن تعيش شقاءً وتمزقاً.
ولا عجب أن يُعظم الله أمرَ الربا ويُعلن الحرب على من لم ينتهوا، ففيه دمارٌ للبلاد والعباد، وفيه ظلمٌ للمحاويج والفقراء، وبه تورم وهمي، وتكثر ظاهري للأغنياء؛ لكن عاقبته إلى قلةٍ كما أخبر المصطفى، وكفى بإعلان الحرب من الله على مرتكبيه إثماً مبيناً! وهل يرغب مسلمٌ أن يخرج من دائرة الإيمان بسبب الربا؟ قفوا عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) [البقرة:278-279].
أيها المسلمون: ينبغي أن يحاسب المجتمع بعضه بعضاً، فيُعلَّمُ الجاهل، ويُذكَّر الناس، ويُردع المتطاول، فسلامةُ سفينة المجتمع هدفٌ أرشد إليه الإسلام، وحذّر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من آثاره السلبية، وترْك الأمر والنهي، كما في حديث القوم الذين استهموا السفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، ولو تُرك الجاهلون يخرقون السفينة من أسفلها لهلكوا وأهلكوا من فوقهم.
ألا فلنحافظ جميعاً على أمن وسلامة مجتمعنا، ولنكن أوفياء لأمتنا، ونماذج صالحة لتعاليم ديننا، لنبادر إلى الخير بأنفسنا، ولنرغبْه وندعوا إليه بالحسنى غيرنا، وننتهي عن الشر والفجور قدر طاقتنا، ولنُحذِّر منه الآخرين، فذلك جزءٌ من مسؤوليتنا، وأمانةٌ في أعناقنا (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
التعليقات