عناصر الخطبة
1/أعظم حقيقة تواجه البشر 2/لا مفر من الموت 3/حسرات عند الموت 4/شدة سكرات الموت وغمراته وكرباته 5/أمنيات الكافر عند رؤية العذاب.اقتباس
واللهِ ما تمنَّى أنْ يرجع إلى أهلٍ ولا عشيرة، ولا بأنْ يَجْمَعَ الدنيا ويقضي الشهوات؛ ولكن تمنَّى أنْ يرجع فيعمل بطاعة الله -عزَّ وجلَّ-؛ فرَحِمَ اللهُ امرأً عمل فيما يتمنَّاه الكافِرُ إذا رأى العذابَ إلى النار...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله وكفى, والصلاة والسلام على عبده الذي اصطفى, وبعد:
الموت هو أعظم حقيقة تُواجِه البشر, ولا حِيلة لردِّه, قال الله -تعالى-: (فَلَوْلاَ إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)[الواقعة: 86, 87]. فلو كان الأمر كما تقولون: أنه لا بعث, ولا جزاء, ولا حساب! فأَرْجِعوا أرواحَكم من ذهابها إلى ربِّها وخالقِها إنْ كنتم صادقين.
وهنا تتعالى حسرات الكافرين والمنافقين على فوات العمل, ويتمنون الرجوع إلى الدنيا؛ ليعملوا صالحاً؛ كما قال -سبحانه-: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)؛ فيأتيه التوبيخُ والزَّجر: (كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)؛ فهي كلمة حقيرة لا قيمةَ لها, ولا وَزْنَ لها عند الله -تعالى-, فقد أُغلقت الأبواب, وأُقفِل باب التوبة بحضور الموت, ثم يزداد يأسه عند سماع: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 99, 100].
قال قتادة -رحمه الله-: "واللهِ ما تمنَّى أنْ يرجع إلى أهلٍ ولا عشيرة، ولا بأنْ يَجْمَعَ الدنيا ويقضي الشهوات؛ ولكن تمنَّى أنْ يرجع فيعمل بطاعة الله -عزَّ وجلَّ-، فرَحِمَ اللهُ امرأً عمل فيما يتمنَّاه الكافِرُ إذا رأى العذابَ إلى النار".
واتَّفق أهل العلم: بأنَّ سؤال الرجعة يكون للكافر لا للمؤمن, فلا يسأل الرَّجعةَ عبدٌ له عند الله ذرَّةٌ من خير؛ لأنه إذا كان له خير عند الله فهو يحب القدوم عليه.
والكافرون والمنافقون لهم عذاب آخَرُ عند نزول الملائكة لقبض أرواحهم, وهم في سكرات الموت وغَمَراته وكُرباته, قال -تعالى-: (وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)[الأنعام: 93].
فلو رأيتَ ذلك؛ لرأيتَ أمراً عظيماً, فإنَّ الكافر إذا احْتُضِر؛ بشَّرته الملائكةُ بالعذاب والنكال, والأغلالِ والسلاسل, والجَحيمِ والحميم, وغَضَبِ الرحمن الرحيم, فتضربهم الملائكةُ حتى تخرج أرواحُهم من أجسادهم, ويُهانون غايةَ الإهانة.
وقد بيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَشْهَدِ احتضارِ الكافرِ والمنافق, وتبشيرهم بِسَخَطِ الله وغضبِه عليهم, وما ينتظرهم من العذاب الأليم, فقال: "إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ, فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ"(رواه النسائي).
وفي حديثٍ آخَر: "وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ؛ قَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ, كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ, اخْرُجِي ذَمِيمَةً, وَأَبْشِرِي, بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ. وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ. فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ"(رواه ابن ماجه).
والفرقُ بين المؤمن المُطِيع لربِّه؛ والكافرِ العاصي: أنَّ المؤمن تأتيه ملائكةٌ بِيضُ الوجوه, وفيه دلالة على صفاء وبياض أعماله, وتبشيره بقبول عمله, وأمَّا الكافر أو المنافق فتأتيه ملائكةٌ سُودُ الوجوه؛ دلالة على البؤس والكآبة, وزيادة في النكال به, وتحسيره وتعذيبه؛ ومِصداق ذلك قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا, وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ, نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلاَئِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ, مَعَهُمْ الْمُسُوحُ, فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ, ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ, حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ, فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ, اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ"(رواه أحمد).
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
عباد الله: إنَّ العبدَ الكافِرَ له أمنياتٌ يتمنَّاها عند رؤية العذاب, ولكن يُحال بينه وبين ما تمنَّاه؛ قال -تعالى-: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)[سبأ: 54]؛ فقد جَعَل الله -تعالى- مُفارَقَةَ المُشتَهَيات من أعظم العقوبات؛ لأنَّ الفرح والسرور بالظَّفَرِ بالمحبوب, والهَمَّ والغَمَّ والحزن والأسف بفوات المحبوب.
والكافر -عند موته- يُحال بينه وبين ما يشتهيه من أمور الدنيا والآخرة, فيُحال بينه وبين الرجوع للدنيا لكي يتوبَ ويؤمنَ بالله ويعملَ بطاعته, وكذا يُحال بينه وبين ما يشتهيه من الشَّهوات واللَّذات، والأولاد، والأموال، والخدم، قد انفرد بعمله السيِّئ (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا)[الفرقان: 26].
كما أخبر -تعالى- عن الأمم الماضية المُكذِّبة بالرسل, لَمَّا رأوا بأسَ الله تمنَّوا أنْ يُقبَلَ منهم إيمانُهم, ولكنه لم يُقبَل؛ لأنه بعد فوات الأوان: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ)[غافر: 84-85].
وهذا ما تمنَّاه فرعونُ عندما أدْرَكه الغرقُ وعايَنَ العذاب؛ تمنَّى أن يُقبَل منه إيمانه لكنَّه لم يقبل منه: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * أَلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ)[يونس: 90, 91].
التعليقات