عناصر الخطبة
1/ أسباب اهتمام المؤمن بالعمل الصالح 2/ أهمية العبادة في الهرج 3/ أهمية استغلال شهر شعبان بالصيام 4/ بعض صور إيذاء المسلمين والتحذير من ذلكاهداف الخطبة
اقتباس
شَأنُ المُؤمنِ الذي آمَنَ بالله -تعالى- وباليومِ الآخِرِ: الاهتِمامُ بالعَمَلِ الصَّالِحِ الذي يُرضِي به ربَّهُ -عزَّ وجلَّ-؛ لأنَّ المُؤمنَ على يَقِينٍ: أولاً: بأنَّهُ سَيَتبَعُ عَمَلَهُ, إنْ كانَ خيراً فَسَيَراهُ, وإنْ كانَ شرًّا فَسَيَراهُ ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عِبادَ الله: أَخسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً, رَجُلٌ أخلَقَ -أبلى- يَدَيهِ في أمانيهِ, ولم تُساعِدْهُ الدُّنيا في تَحقيقِ أُمنِيَّتِهِ, فَخَرَجَ من الدُّنيا صِفْرَ اليَدَينِ, خَرَجَ من الدُّنيا بِغَيرِ زَادٍ, وقَدِمَ على الله -تعالى- بِغَيرِ حُجَّةٍ.
أمَّا من آمَنَ بالله -تعالى- واليومِ الآخِرِ, فَهوَ في الدُّنيا كَرَجُلٍ غَريبٍ, لا يَجزَعُ مِن ذُلِّها, ولا يُنافِسُ في عِزِّها, لهُ شَأنٌ وللنَّاسِ شأنٌ آخَرُ.
أيُّها الإخوة الكرام: شَأنُ المُؤمنِ الذي آمَنَ بالله -تعالى- وباليومِ الآخِرِ: الاهتِمامُ بالعَمَلِ الصَّالِحِ الذي يُرضِي به ربَّهُ -عزَّ وجلَّ-؛ لأنَّ المُؤمنَ على يَقِينٍ:
أولاً: بأنَّهُ سَيَتبَعُ عَمَلَهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: المُؤمنُ على يَقينٍ بأنَّ عَمَلَهُ يُرفَعُ إلى الله -تعالى-, وأنَّهُ سَيَتبَعُ عَمَلَهُ, إنْ كانَ خيراً فَسَيَراهُ, وإنْ كانَ شرًّا فَسَيَراهُ, قال تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
وقال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30] فعندما أَيقَنَ العَبدُ المُؤمنُ أنَّهُ تَابِعٌ لِعَمَلِهِ وأنَّهُ سَيَراهُ, جَعَلَ هَمَّهُ العَمَلَ الصَّالِحِ.
ثانياً: بأنَّ عَمَلَهُ سَيَراهُ اللهُ -تعالى- ورسولُهُ والمُؤمنونَ:
أيُّها الإخوة الكرام: المُؤمنُ على يَقِينٍ بأنَّ اللهَ -تعالى- سَيَرى عَمَلَهُ وسَيَراهُ سيِّدُنا رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- والمُؤمنونَ, قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة : 105].
فَعِندَما أيقَنَ بذلكَ جَعَلَ حِرصَهُ مُنصَبًّا على العَمَلِ الصَّالِحِ.
ثالثاً: بأنَّ عَمَلَهُ إمَّا أن يُبَيِّضَ الوَجهَ وإمَّا أن يُسَوِّدَهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: المُؤمنُ على يَقينٍ بأنَّ العَمَلَ في الحَياةِ الدُّنيا إمَّا أن يُبَيِّضَ وَجهَ العَامِلِ يَومَ القِيامَةِ, وإمَّا أن يُسَوِّدَهُ, قال تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران: 106 - 107] فَعِندَما أيقَنَ بذلكَ جَعَلَ دَأبَهُ العَمَلَ الصَّالِحَ.
رابعاً: بأنَّهُ من عَمِلَ صالِحاً لن يَندَمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: المؤمنُ على يَقينٍ بأنَّهُ من عَمِلَ صَالِحاً لن يَندَمَ عندَ سَكَراتِ المَوتِ, ولا في قَبرِهِ, ولا في عَرَصَاتِ يومِ القِيامَةِ, وإلا فَهوَ نَادِمٌ إنْ شَاءَ وإنْ أَبَى, فمن لم يَعملْ صَالِحاً سَيَنْدَمُ عندَ سَكَراتِ المَوتِ, وسَيَسألُ الرَّجعَةَ -لا قَدَّرَ اللهُ تعالى-، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 99- 100].
وسوفَ يَندَمُ في عالَمِ البَرزَخِ, روى الإمام أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ, فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ, فَجَلَسَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَكَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ, وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "اسْتَعِيذُوا بالله مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ -مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً- ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِن الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِن الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِن السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ, مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ, وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ, حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ, ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَام, حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ, فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ, اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ الله وَرِضْوَانٍ, فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ, فَيَأْخُذُهَا, فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ, حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ, وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ, فَيَصْعَدُونَ بِهَا, فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِن الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ, بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا, حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ, فَيُفْتَحُ لَهُمْ, فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.
فَيَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ, فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى, فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ, فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ.
فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ الله فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ.
فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِن الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِن الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى الْجَنَّةِ.
فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ, وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ, هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ.
فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِم السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.
وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِن الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِن الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ, فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ, ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِن الله وَغَضَبٍ, فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ, فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ, فَيَأْخُذُهَا, فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ, وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ, فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟
فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ, بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا, حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ـ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: (لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: 40] فَيَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى, فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحاً, ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحـج: 31].
فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ, وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ, فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ, لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ, لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ, لَا أَدْرِي.
فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرشُوا لَهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى النَّارِ, فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ, وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ, هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ.
فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ. فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِم السَّاعَةَ".
وسوفَ يَندَمُ عندَ عَرَصاتِ يومِ القِيامَةِ, قال تعالى حِكَايَةً عنهم: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة: 12].
أيُّها الإخوة الكرام أيَّتُها الأمَّةُ المَكلومَةُ المَجروحَةُ الحَزينَةُ, يا مَن كَثُرَ فيكِ القَتْلُ, وسَفْكُ الدِّماءِ, وتَهديمُ البُيوتِ, وسَلْبُ الأموالِ, وتَرويعُ الآمِنينَ: لا يَشغَلَنَّكِ ما يَجري عن وَظيفَةِ العُبودِيَّةِ لله -تعالى-؛ لأنَّا ما خُلِقْنا إلا للعبادَةِ, قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون) [الذاريات:56].
يا أيَّتُها الأمَّةُ المَكلومَةُ: يا من انكَسَرَ قَلبُكِ إلى الله -تعالى-, أبشِري بالخَيرِ, فإنَّ اللهَ -تعالى- هوَ مَولاكِ, قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) [محمد:11]، وقال تعالى: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ) [البقرة: 257].
يا أيَّتُها الأمَّةُ: اِشتَغِلي بالعَمَلِ الصَّالِحِ, ولا يَشغَلَنَّكِ الحَدَثُ عن المهمَّةِ التي خُلِقتِ من أجلِها, فَلَكِ شَأنٌ ولِغَيرِكِ شَأنٌ آخَرُ, واجعَلي سيِّدَنا رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- أسوَتَكِ وقُدوَتَكِ, فما شَغَلَهُ عَطاءٌ عن العِبادَةِ, كما لم يَشغَلْهُ مَنعٌ عنها.
أيُّها الإخوة الكرام: اُنظُروا إلى سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- المُتَحِقِّقِ بالعُبودِيَّةِ لله -تعالى-, كيفَ يَستَقبِلُ شهرَ شَعبانَ؟ روى الإمام أحمد عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قال: قلتُ: يا رسولَ الله, لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِن الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: "ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَب وَرَمَضَانَ, وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ, فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ".
أيُّها الإخوة الكرام: بعضُ المُسلمينَ قد يَغفُلُ عن العَمَلِ الصَّالِحِ في شهرِ شعبانَ, ظَنًّا منهُ بأنَّ شهرَ رجبَ هوَ شهرٌ مُحَرَّمٌ, فامتَثَلَ فيه قولَهُ تعالى: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة:36] فأقبَلَ على الطَّاعَةِ فيه, وسَوَّلَت له نفسُهُ أنَّهُ سَيَغتَنِمُ شهرَ رَمضانَ المُعَظَّمَ بالعَمَلِ الصَّالِحِ, فَغَفَلَ عن هذا الشَّهرِ العَظيمِ الذي تُرفَعُ فيه الأعمالُ إلى الله -تعالى- ربِّ العالمينَ.
أيُّها الإخوة الكرام: شَهرُ شَعبانَ شهرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى الله -تعالى-؛ فما هوَ العَمَلُ الذي تَرفَعُهُ الأمَّةُ في شَهرِ شَعبانَ هذا؟
إنَّ الأمَّةَ تَرفَعُ إلى الله -تعالى- في هذا الشَّهرِ العَظيمِ المُبارَكِ سَفْكَ الدِّماءِ البَريئةِ, وتَهدِيمَ البُيوتِ, وتَرويعَ الآمِنينَ, وتَيتيمَ الأطفالِ, وتَرمِيلَ النِّساءِ, وسَلْبَ الأموالِ, تَرفَعُ إلى الله -تعالى- من المُوبِقاتِ ما لا يَعلَمُهُ إلا اللهُ -تعالى-.
أيُّها الإخوة الكرام: هل العَمَلُ الذي يُرفَعُ إلى الله -تعالى- من الأمَّةِ بِشَكلٍ عامٍّ من أَقوالٍ وأَفعالٍ يُرضِي ربَّنا -تعالى-, ويُرضِي نبِيَّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-؟!
هَل الأقوالُ والأفعالُ التي تُرفَعُ إلى الله -تعالى- تُبَيِّضُ وُجوهَ الأمَّةِ أم تُسَوِّدُها؟!
يا عبادَ الله: تَذَكَّروا حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- في أيَّامِ الهَرجِ إذ يقولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" [رواه مسلم].
أيُّها الإخوَةُ المسلِمونَ: تَحَقَّقوا بِحَقيقَةِ الإسلامِ, تَحَقَّقوا بِقَولِ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- وهوَ يَصِفُ المسلِمَ الحَقَّ, حيثُ يقولُ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" [رواه البخاري].
إيَّاكُم ثمَّ إيَّاكُم وإيذاءَ المُسلِمينَ, وتَذَكَّروا قَولَ الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب: 58].
ومن صُوَرِ إيذاءِ المسلِمِ: الحُكمُ عليهِ بِناءً على نَبَأٍ بِدونِ تَثَبُّتٍ وتَأكُّدٍ, مع أنَّ اللهَ -تعالى- يقولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
يا عبادَ الله: الأصلُ في الإنسانِ بَراءَتُهُ حتَّى تَثبُتَ إدانَتُهُ, وليسَ الأصلُ فيهِ إدانَتُهُ حتَّى تَثبُتَ بَراءَتُهُ.
أيُّها الإخوَةُ المؤمنونَ: تَحَقَّقوا بِحَقيقَةِ انتِمائِكُم للإيمانِ, واسمَعوا حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- الذي رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "واللهِ لَا يُؤْمِنُ, واللهِ لَا يُؤْمِنُ, واللهِ لَا يُؤْمِنُ" قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "الْجَارُ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ الله, وَمَا بَوَائِقُهُ؟ قَالَ: "شَرُّهُ".
واعلَموا -يا عبادَ الله- بأنَّ تَحويلَ العُملَةِ السُّورِيَّةِ إلى عُملَةٍ أجنَبِيَّةٍ هوَ نوعٌ من أنواعِ الأَثَرَةِ, والأَثَرَةُ ظُلمٌ, واللهُ -تعالى- وَصَفَ سَلَفَنا الصَّالِحَ بِقَولِهِ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9].
الأَثَرَةُ ظُلمٌ للعامَّةِ, والظُّلمُ ظُلُماتٌ يومَ القِيامَةِ, فإذا ما تَعارَضَتِ المصلَحَةُ العامَّةُ معَ المصلَحَةِ الخاصَّةِ قُدِّمَتِ المصلَحَةُ العامَّةُ على المصلَحَةِ الخاصَّةِ, فَتَراحَموا -يا عبادَ الله-, واعلَموا بأنَّ سوادَ الأمَّةِ اليومَ هُم من الفُقَراءِ, وإنَّ تَحويلَ العُملَةِ السُّورِيَّةِ إلى عُملَةٍ أجنَبِيَّةٍ سَبَبٌ من أسبابِ ارتِفاعِ الأسعارِ الذي يَضُرُّ بِسَوادِ الأمَّةِ.
أيُّها الإخوة الكرام: تَحَقَّقوا بِحَقيقَةِ انتِمائِكُم للإسلامِ, وتَحَقَّقوا بِحَقيقَةِ انتِمائِكُم للإيمانِ, فَليَسلَمِ المسلِمونَ من ألسِنَتِكُم وأيديكُم, ولتُحِبُّوا الخَيرَ للغَيرِ كما تُحِبُّوهُ لأنفُسِكُم, معَ الإخلاصِ لله -تعالى- في عَمَلِكُم, وبعدَ ذلكَ تَوِّجوا هذهِ الأعمالَ بالصِّيامِ؛ لأنَّ شهرَ شعبانَ شهرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى الله -تعالى-, فأحِبُّوا أن تُرفَعَ أعمالُكُم إلى الله -تعالى- وأنتُم صائِمونَ.
أيُّها الإخوة الكرام: أقوالُنا مَحصِيَّةٌ علينا, قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:16-18].
وأفعالُنا مَحصِيَّةٌ عَلينا, قال تعالى: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة:6] فهل أقوالُنا وأفعالُنا المَحصِيَّةُ علينا فيها مَنفَعَةٌ لخَلقِ الله -تعالى-؟ لأنَّ الخَلقَ عِيالُ الله, وأحَبُّهُم إلى الله أنفَعُهُم لِعِيالِهِ؛ كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الطبراني في الكبير عَنْ عَبْدِ الله -رَضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ الله، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى الله أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ".
يا عبادَ الله: إنْ كانَت أقوالُنا وأفعالُنا فيها نَفعٌ لِعِيالِ الله, وكانَت مُوافِقَةً للكِتابِ والسُّنَّةِ معَ الإخلاصِ فأبشِروا, وسوفَ يقولُ كُلُّ واحِدٍ فيكُم إنْ شاءَ اللهُ -تعالى- في أرضِ المَحشَرِ: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ) [الحاقة:19-20].
وسوفَ تَكونُ النَّتيجَةُ: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَة * قُطُوفُهَا دَانِيَة * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:21-24].
وأمَّا إذا كانَتِ الأقوالُ والأفعالُ فيها ضَرَرٌ وإيذاءٌ لِعِيالِ الله -تعالى-, ولم تَكُن مُوافِقَةً للكِتابِ والسُّنَّةِ, فكُلُّ واحِدٍ من هذا الفريقِ سَيَقولُ في أرضِ المَحشَرِ على رُؤوسِ الأشهادِ -والعِياذُ بالله تعالى-: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) [الحاقة:25-29].
وسوفَ تَكونُ النَّتيجَةُ: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة:30-32].
يا عبادَ الله: من آمَنَ بالله واليومِ الآخِرِ شأنُهُ ليسَ كَشأنِ بَقِيَّةِ النَّاسِ, شأنُهُ الاهتِمامُ بالعَمَلِ الصَّالِحِ المُوافِقِ للكِتابِ والسُّنَّةِ معَ الإخلاصِ, وهوَ الذي على يَقينٍ بأنَّ عَمَلَهُ سَيُرفَعُ إلى الله -تعالى-, فَتَوَّجَ عَمَلَهُ بِكَثرَةِ الصِّيامِ في شهرِ شعبانَ.
اللَّهُمَّ كما بَلَّغتَنا شهرَ شعبانَ بَلِّغنا شهرَ رمضانَ وقد كَشَفتَ عنَّا هذهِ الغُمَّةَ بِفَضلِكَ يا وَلِيَّ نِعمَتِنا ويا مَلاذَنا عندَ كُربَتِنا، آمين.
أقولُ هَذا القَولَ, وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم, فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.
التعليقات