عناصر الخطبة
1/ الله لطيف بعباده 2/اسم الله اللطيف في القرآن والسنة 3/معاني اسم الله اللطيف 4/بعض مظاهر لطف الله سبحانه بخلقه 5/لطف الله بعباده في التدرج في التشريع 6/كيف نتعبد لله باسمه اللطيف؟ 7/آثار الإيمان باسم الله اللطيف.اقتباس
واللطيف -سبحانه- هو الذي دقَّ علمه حتى أدرك السرائر والضمائر، وأحاط بالخفيات من الأمور، واحتجب عن أن يُحاط به أو تُدْرَك كيفيته، فهو الذي يدرك بواطن الأشياء، وخفاياها، وسرائرها معرفةً دقيقةً دون شعور الإنسان بثقل من وجود الله ومعيته، فمن دقة علمه وعظيم إحاطته بخفيّ ودقيق المعلومات, إنه -سبحانه- يعلم ما يجول في خواطر الإنسان، وما يختلج في نفسه من مشاعر وأحاسيس وأفكار...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، واقدروه حق قدره، فإن الإنسان منا لو نظر في نفسه، وتدبر أحواله لوجد لله عليه نعمًا لا يستطيع شكرها، وأيادي ومننًا يعجز عن عدها.. يا الله, كم سترنا ربنا! وكم أمهلنا! وكم أعطانا! وكم أسبغ علينا من جميل ستره! وكم لطف بنا في قضائه وقدره!!.
أيها المسلمون: الله لطيف بعباده، سبحانه وتعالى هو القريب منهم؛ يغفر ذنوبهم، ويتوب عليهم، وهو الذي تكفّل بهم من غير عوض أو حاجة، فيسَّر أسبابهم، وقدّر أرزاقهم، وهداهم لما يصلحهم، فنعمته عليهم سابغة، وحكمته فيهم بالغة، يحب عباده الموحدين، ويتقبل صالح أعمالهم، ويقرّبهم وينصرهم على عدوهم، ويعاملهم بعطف ورحمة وإحسان، ويدعو مَن خالفه إلى التوبة والإيمان، فهو الرفيق المحسن في خفاء وستر، يحاسب المؤمنين بفضله ورحمته، ويحاسب المخالفين بعدله وحكمته، ترغيبًا لهم في توحيده وعبادته، وحلمًا منه؛ ليدخلوا في طاعته.
فسبحان الله اللطيف بالبرّ والفاجر؛ حيث لم يقتلهم جوعًا بمعاصيهم، واللطيف بهم في أرزاقهم؛ حيث جعل رزق العبد من الطيبات، وقدَّر جميع رزقه، ولم يدفعه إليه مرة واحدة فيبذّره، كما أن من لطفه أن يقدّر لهم أرزاقهم بعلمه بمصلحتهم، لا بحسب مرادهم، فقد يريدون شيئًا وغيره أصلح، فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه؛ لطفًا بهم.
أيها المسلمون: الله -تبارك وتعالى- أحقُّ بكل أوصاف الجمال والجلال والعظمة، فهو الذي انفرد بالإحاطة ورعاية الجميع، وهو العالم بخَفِيِّ مصالحهم، وتدبير أحوالهم، ولو تدبر العبد منا لطف الله -سبحانه وتعالى- به -في شيء ما كمثال واحد فقط- في تيسير لُقْمةٍ يتناولها العبدُ من غير كَلَفةٍ يَتَجَشَّمُها، فقد تعاوَن على إصلاحها خَلْقٌ لا يُحْصَوْنَ: مِن مُصْلِحٍ للأرض، وزَارِعها، وساقيها، وحاصِدها، ومُنَقِّيها، وطاحنها، وعاجِنها، وخابِزها... إلى غير ذلك، حتى تصل إليك. فهذه اللقمة التي تأكلها لو تفكَّرتَ فيها لعَلِمتَ لُطفًا عظيمًا. لذلك قال المولى - سبحانه وتعالى - : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) [عبس: 24].
فهذا من عظيم لُطْف اللهِ -تبارك وتعالى- بخلقه، فلو لم يكن لك -عبد الله- هذا الطعام مهيئًا حتى تقوم أنت به مِن أوله، هل كنتَ ستستطيع أن تأكل؟ إذن ستموت قبل أن تحصد وتخبز شيئًا من ذلك، يعني لو تُرِكْتَ ونفسُك أنت لتُهَيِّئ هذه اللقمة التي يقوم بها صُلْبُك ما كنتَ مُحَصِّلَها حتى تموت قبلها! من أين تُحصِّلها؟ هل ستقوم وتزرع، وتَبْذُر، وتحصد، وتعجن، وتخبز، وكذا، وكذا شهورًا طويلة؟ تكون قد مِتَّ من الجوع قبل أن تصل إليك هذه اللقمةُ!! فسبحان اللطيف الرحيم.
ولو تفكَّر المرءُ منا في نفسه لعَلِمَ كيف استقام حاله: من النَّظَر، والسمع، والكلام، والشم، والمشي، والذوق، والتفكير، والتخزين في العقل، والغضب والرضا، والمحبة والكراهية، والحقد وعدمه، والأمانة والصدق والإخلاص... يا إلهي!! فانظر إلى الترتيب السابق لله اللطيف - سبحانه وتعالى – الذي ينشر رحمته تحت أستار الخفاء، فسبحان اللطيف الخبير!.
يا عباد الله: أثنى الله تبارك وتعالى على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه اللطيف، قال تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103], وقوله -سبحانه-: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف:100]. وقال -تبارك وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[الحج: 63], وقال -جل وعلا-: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16]. وقال تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب: 34], وقال -جل وعلا-: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [الشورى: 19]، وقال -سبحانه-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
أيها المسلمون: وقد أثنى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على ربه، وهو أعرف الخلق به، فوصفه بأنه اللطيف، فعن قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قَالَ لها: "لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (مسلم (2301)، وذلك في قصة خروج عائشة -رضي الله عنها- خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة من الليالي في الظلام الدامس؛ غيرةً عليه -صلى الله عليه وسلم-، فقد ظنت أنه ذاهب لإحدى زوجاته، فإذا هو يذهب إلى البقيع قبور أصحابه ليستغفر لهم، فلما رجع.. رجعت هي أمامه مسرعةً، فلما دخل وجدها ليست بحال النائم, بل تحت الغطاء وصدرها يخفق بشدة كأنها كانت تجري، ولم تكُ نائمة، فسألها، فلم ترد، فعندها قال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير.
إنه درس نبوي ليس لأم المؤمنين عائشة فحسب، بل لسائر المؤمنين به أن الله اللطيف الخبير لا يخفى عليه شيء، وأن الصدق مع الله ومراقبته، ومن ثَم الوصول لدرجة الإحسان من خير أعمال عباد الله المؤمنين به المتبعين لنبيه -صلى الله عليه وسلم-.
يا عباد الله: واللطيف -لغةً- هو الرفيق, الذي يوصل إليك حاجاتك في رِفْق، وهو الذي اجتمع له الرِّفق في الفعل، والعلمُ بدقائق المصالح، وإيصالها إلى من قدَّرها له.
واللطيف -سبحانه- هو الذي دقَّ علمه حتى أدرك السرائر والضمائر، وأحاط بالخفيات من الأمور، واحتجب عن أن يُحاط به أو تُدْرَك كيفيته، فهو الذي يدرك بواطن الأشياء، وخفاياها، وسرائرها معرفةً دقيقةً دون شعور الإنسان بثقل من وجود الله ومعيته، فمن دقة علمه وعظيم إحاطته بخفيّ ودقيق المعلومات أنه -سبحانه- يعلم ما يجول في خواطر الإنسان، وما يختلج في نفسه من مشاعر وأحاسيس وأفكار، كما أنه -سبحانه- يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، ومع ذلك لا يحيط العباد به علمًا، قال تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103] فسبحان اللطيف الخبير!.
إن الخلق لا يستطيعون أن يحيطوا علمًا بالله -عز وجل-، وخفاء اللطيف عن أعيننا مع قربه وظهوره أعظم شيء لطف الله فيه بنا، فإنك إن رأيته ما عصيته، وما نمت، وما تمددت، وما غمض لك جفن، ولو رأيته وظهر لك لما التفت عنه لحظة، ولو ظهر لك ما أكلت, ولما تلذذت بالنظر إلى غيره؛ -سبحانه وتعالى وعز وجل-.
واللطيف -سبحانه- هو الذي يُجرِي رحمته تحت أستار الخفاء، فهو البَرُّ بعباده الرفيق بهم الذي يوصّل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه بالطرق الخفية، طرق لا يشعرون بها، ويهيئ مصالحهم من حيث لا يحتسبون، قال تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ) [الشورى: 19], أي: فهو رفيق بهم, يعامل المؤمنين بعطف ورأفة وإحسان، ويدعو المخالفين إلى التوبة والغفران، مهما بلغ بهم العصيان.
ومن لطفه -سبحانه- أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى إليها, ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي، من حيث لا يحتسب. وهذا ما يشهد له قوله -سبحانه-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2 - 3].
وهذا المعنى يتجلى واضحًا في قصة يوسف -عليه السلام-؛ فقد لطف الله به من حين أُلقيَ في الجبّ، مرورًا بالفتنة والسجن، حتى مكَّن الله له في الأرض، ولهذا قال معترفًا بذلك اللطف الإلهي: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 100]، فاللطيف -سبحانه- جمع له من العلم والنبوة، وساق إليه المنافع، وأوصلها إلى يوسف -عليه السلام-، من غير أن يشعر، مع كل الابتلاءات التي ظاهرها الهلاك إلا أن الله أنجاه ولطف به.
يقول ابن القيم –رحمه الله- عن يوسف -عليه السلام-، وما جرى عليه من الأحداث: "فكان ظاهر ما امتُحن به يوسف من مفارقة أبيه، وإلقائه في السجن، وبيعه رقيقًا، ثم مراودة التي هو في بيتها عن نفسه، وكذبها عليه، وسجنه، محنًا ومصائب، وباطنها نعمًا وفتحًا، جعلها الله سببًا لسعادته في الدنيا والآخرة" ا. هـ.
أيها المسلمون: ولله -تبارك وتعالى- رفق ولطف بعباده في كل شيء، فقد لطف بهم -سبحانه- في الأوامر الشرعية، فقد نزل القرآن مفصلاً ومنجّمًا، وتدرج تشريع الأحكام وفرض الفرائض والواجبات، وما فيها من اليسر والمرونة حتى اكتملت، وأصبحت دينًا كاملاً ارتضاه ربنا لعباده، كل ذلك خير شاهد وأعظم دليل على لطف الله بعباده.
وقد وصف الله رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بأنه رفيق، فقال -جل وعلا-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، وحثّ ربنا -تبارك وتعالى- الأنبياء والدعاة والمصلحين على اللطف والرفق في دعوة البشر إلى الله, قال تعالى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا) [ طه: 43- 44]، فقد أمر الله نبيه موسى أن يكون لطيفًا مع مَن؟ مع أعتى عصاة الأرض, فرعون!.
ومن لطف الله بخلقه اللطف في النهي؛ فإن الشريعة لم تأتِ جملة واحدة؛ بحيث يدرك العبد المحرمات كلها دفعة واحدة, بل تدرجت بحسب الوقائع والحاجات, حتى إن بعضًا مما حرَّمه الله لاحقًا استمر على الإباحة وقتًا طويلاً, ومنها ما نزل الحكم فيها تدريجيًّا؛ لطفًا من الله بالذين اعتادوا عليها وألفوها, ونستشهد بمثال تحريم الخمر, فقد كان بالتدريج؛ مراعاةً للنفوس التي اعتادت شربها.
ولهذا نجد أن التحريم مرّ على عدة مراحل:
فأول مراحله: أن الله ذمَّها, ومدح سائر الرزق الحلال، فقال: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) [النحل:67]، والسكر هو رزق غير حسن، وهذه أول إشارة.
ثانيًا: عدم اقتراب الإنسان من الصلاة إلا على طهارة: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) [النساء: 43].
ثالثًا: تحريم الخمر وغيره: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة: 90].
فالتدرّج في التشريع، وبالأخصّ في التحريم، هو نهج شريعتنا الغرّاء؛ لأنها من لدن حكيم حميد, وتشريعٌ من لطيف خبير, فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ -أي من القرآن- سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ, حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ, وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا.." (البخاري (4993).
يا عباد الله: وإن مظاهر لطف الله بعباده كثيرة لا تنحصر في جانب معين, فمن لطف الله بعباده, وعنايته بهم, أنه يسوق إليهم أرزاقهم وما يحتاجونه في معاشهم، وما زال أحدهم جنينًا في بطن أمه في ظلمات ثلاث، فحفظه ورعاه، وغذّاه بواسطة الحبل السري إلى أن ينفصل، ثم ألهمه بعد الانفصال التقام الثدي، وتناول الحليب منه بالفم، ثم تأخير خلق الأسنان إلى وقت الحاجة إليها بعد الفطام.
ومن لطفه -سبحانه- بعباده المؤمنين أنه -جل وعلا- يتولاهم بلطفه، فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر، والبدع والمعاصي، إلى نور العلم والإيمان والطاعة، كما يقيهم طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء، فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى، ويصرف عنهم السوء والفحشاء، مع توافر أسباب الفتنة، وجواذب المعاصي والشهوات، فيمنُّ عليهم ببرهان لطفه ونور إيمانه، فيدعون المنكرات مع اطمئنان نفوسُهم، وانشراح صدورُهم.
ومن لطفه -سبحانه- بعباده أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلّفهم أقل من الطاقة, وهو الميسِّر لكل عسير، والجابر لكل كسير.
ومن لطفه -سبحانه- بعبده أن يقدّر له أن يتربى في ولاية أهل الصلاح والعلم والإيمان، وبين أهل الخير؛ ليكتسب من أدبهم وسلوكهم, وأن ينشأ كذلك بين أبوين صالحين، وأقارب أتقياء، وفي مجتمع صالح, وأن يقيّض له إخوانًا صالحين ورفقاء متقين يعينونه على الخير، ويشدون من أزره في سلوكه سبيل الاستقامة، والبعد عن سبل الهلاك والانحراف.
ومن لطفه -جل وعلا- بعبده أن يبتليه أحيانًا ببعض المصائب، ثم يوفّقه للقيام بوظيفة الصبر فيها، حتى ينال رفيع الدرجات، ويكرم عبده بأن يُوجِد في قلبه حلاوة الرجاء، وانتظار الفرج، وكشف الضر، فيخف ألمه وتنشط نفسه. قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفّف حمل المشقة، ولاسيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج، فإنه يجد في حشو البلاء من رَوح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج مُعجَّل، وبه وبغيره يُعرف معنى اسمه اللطيف" ا.هـ.
اللهم إنا نسألك من لطفك وكرمك يا كريم، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: ومن مظاهر لطف اللطيف -سبحانه- بعباده أن الإنسان عندما يعمل الطاعة يشعر بانشراح في الصدر، وهذا من لطف الله -سبحانه-, وعندما يعمل المعصية يشعر بانقباضٍ وضيقٍ في الصدر، ويشعر بالوحشة، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- لمن سأل عن البِرّ ما هو؟: "استفتِ قلبك، البرّ ما اطمأنت إليه النفس, والإثم ما حاك في الصدر" (مسند أحمد 18035 وفي سنده مقال).
وفيه أن الله -سبحانه- أودع في الإنسان حاسة أو لنقل آلة لقياس الخير والشرّ قبل الإقدام عليه, ومن اللطف أن الله يُشْعِر الإنسان بأقل شيء، سواء بالإقبال أو الإدبار عليه.
عباد الله: وحتى يصير الواحد منا متصفًا بهذه الصفة الجميلة، عليه أن يكون في عمله وحياته عالمًا بدقائق الأمور، ولا يكن سطحيًّا، فلطيف اليد هو من كان حاذقًا في صنعته، مهتديًا إلى ما يصعب على غيره.
وإذا أردت –عبد الله- إحداث تغيير فيمن حولك، فاجعل هذا التغيير تدريجيًّا؛ لئلا تثقل على الناس, فالناس أعداء ما يجهلون.
وإذا دعوت إلى الله -عز وجل-, فكن رحيمًا لينًا لطيف القول والردّ, ولا تكن فظًّا, قال -جل وعلا-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125], وإذا أمرت الآخرين فليكن أمرك بلطف, وعلى قدر استطاعة المأمور، وقد قيل: "إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يُستَطاع"، ولذلك جاءت الشريعة متناسبة مع طاقة الفرد, ومواكبة لقدراته، قال اللطيف -سبحانه-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، وهذا إخبار عن عدل الله ورحمته ولطفه.
وينبغي أن يتصف العبد بالحنوّ على الضعفاء واليتامى والمساكين، والتلطّف معهم ومجاملتهم، وعليه أن ينتقي لطائف القول في حديثه مع الآخرين، ويبشّ في وجوههم, فقد أمر الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم- بعدم نهر السّائل: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى: 10], وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- من تواضعه -صلى الله عليه وسلم- وهو اللطيف الرحيم تأخذ بيده الأَمَة من إماء المسلمين، فتنطلق به حيث تريد، فيسعى في قضاء حاجتها، ثم ينصرف -صلى الله عليه وسلم-.
واحرص -أخي- على الستر على كل مبتلى ومصاب، سواء من ابتُلي بذنب أو مرض، أو مصيبة، وكن رحيمًا بهم، وادع لهم بالرحمة، واستر عليهم ما لم يكونوا مجاهرين معاندين.
أيها المسلمون: متى استيقن العبد معاني اسم الله اللطيف، واستشعر لطف الله -تعالى-، دفعه ذلك إلى امتثال كثير من الآثار والسلوكيات النافعة، منها الإيمان بعظيم علم الله -تعالى-، فلا يخفى عليه من المعلومات شيء، وإن دقت وخفيت ولطفت.
بل إن كثيرًا من العلوم طوى الله علمها عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فضلاً عن غيرهم من العالمين، قال الشوكاني عند تفسير قول الله: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16] قال: إن الله لطيف لا تخفى عليه خافية، بل يصل علمه إلى كل خفي، وهذا يستلزم من العبد تعظيم الله -سبحانه-، ومراقبته في السر والعلن، في السكنات والحركات، فكلما زاد يقينه بلطف علم الله -تعالى-، كلما ازداد مراقبةً له وحياءً منه في خلوته وجلوته.
ومن الإيمان باسم الله اللطيف: إثبات ما تضمَّنه من أوصاف الجمال والجلال والعظمة، بلا تعطيل أو تحريف، ولا تمثيل أو تكييف، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، تنزيه بلا تعطيل، وإثبات بلا تمثيل.
ومن الآثار الإيمانية: عدم اليأس والقنوط من رحمة الله -سبحانه-، وإحسان الظن به، مهما تكالبت الخطوب، واشتدت النوازل، فلرب فرجٍ عظيم في باطن ضيق شديد، ولرب سعادة دائمة خُتمت بشقاء عابر، فقضاء الله كله خير للعبد المؤمن، إن صبر واحتسب، وأحسن الظن في اللطيف الخبير -سبحانه-, قال الشاعر:
ولرب نازلة يضيق بها الفــتى*** ذرعًا وعند الله منها المخرج
ضاقت، فلما استحكمت حلقاتها*** فُرجت، وكنت أظنها لا تفرج
عباد الله: إن معرفة الله باسمه اللطيف المتضمن لمعنى عظيم من معاني الجمال، كرفقه - سبحانه- بعباده، وإيصاله مصالحهم بطرق خفية من أوصاف الجمال التي تورث من تحقّق بمعرفتها محبة الله -سبحانه-، والتعلق به.
أيها المسلمون: إن من عظيم رفق الله ولطفه سبحانه- بعباده أنهم مكلوؤن بحفظه ورعايته منذ كان أحدهم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم يكسو العظام لحمًا، إلى أن يحين وقت الخروج من الرحم، ولا يكون له ذلك إلا بلطف الله ورحمته، ثم ييسر له قُوته من أحب وأقرب مكان إليه، ويعرّفه طريقه، ثم يكون له منه الحفظ والرعاية في جميع الأحوال، وأعظم رفق من الرب بعبده أن يوفّقه للهداية والصلاح، والاستقامة على منهج الله الذي يرضاه من العبد، ويعصمه من الذنوب، وإن وقع في شيء منها يسَّر له طريق التوبة والرجوع، فصار عبدًا توابًا أوابًا.
اللهم أذقنا برد لطفك، ولا تحوجنا لغيرك، واجعلنا أفقر الخلق إليك، وأغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك، وانشر لنا رحمتك ولطفك تحت أستار الخفاء.
التعليقات