عناصر الخطبة
1/ أثر الأنصار في نجاح الهجرة 2/ لماذا سُمِّي الأنصار أنصارًا؟! 3/ فضل محبة الأنصار 4/ رحلة الأنصار في نصرة الإسلام 5/ حب الأنصار إيمان وعقيدةاهداف الخطبة
اقتباس
فالأنصار اسم إسلامي، اسم رباني، لم يسمهم به سلطان هالك ولا زعيم بائد، ولا شيخ قبيلة فانٍ، إنما الذي سمى الأنصار بهذا الاسم هو الله العظيم العلي القدير، سماهم به من فوق سبع سموات طباق، وسام شرف من رفيع الدرجات سبحانه ليرفع به ذكرهم إلى يوم الدين، وسام لا تدانيه أوسمة الدنيا الأرضية كلها؛ لأنها وأصحابها زائلون ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد: "اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار"،
أيها الإخوة: إن الهجرة ما كانت لتتمّ لولا وجود الأنصار، إنّ الهجرة ما كانت لتؤتي أكُلها لولا مواقف الأنصار، وإنّ دعوة الإسلام ما كانت لتعلو لولا راية الأنصار، وما كانت لتخفق لولا جهاد الأنصار، ولذلك فإن من حقّ الأنصار إذا ذُكرت الهجرة النبوية أن يذكروا، وإذا رفعنا ذكر الهجرة أن نرفع ذكر الأنصار.
أيها الإخوة: لماذا سمي الأنصار بهذا الاسم؟! ومن الذي سماهم بالأنصار؟! لأنه لا توجد قبيلة في المدينة قبل الإسلام اسمها الأنصار، فمن أين جاءت هذه التسمية؟!
روى البخاري في صحيحه عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار؟! كُنْتُمْ تُسَمَّوْنَ بِهِ أَمْ سَمَّاكُمْ اللَّهُ؟! قَالَ: بَلْ سَمَّانَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-. ثم قال غيلان: كنا ندخل على أنس فيحدثنا بمناقب الأنصار ومشاهدهم، ويقبل عليّ أو على رجل من الأزد -وأزد اسم لأبي الأنصار- فيقول: فعل قومك يوم كذا وكذا: كذا وكذا. أي أنّ أنسًا -رضي الله عنه- كان يقصّ على الناس مآثر الأنصار في المغازي وفي نصرة الإسلام.
ولعلّ في خطبتنا هذه عن الأنصار اقتداءً بأنس -رضي الله عنه- في صنيعه هذا؛ إذ يُذكّر التابعين والصحابة الباقين بمآثر الأنصار الخالدة إلى يوم الدين.
فالأنصار اسم إسلامي، اسم رباني، لم يسمهم به سلطان هالك ولا زعيم بائد، ولا شيخ قبيلة فانٍ، إنما الذي سمى الأنصار بهذا الاسم هو الله العظيم العلي القدير، سماهم به من فوق سبع سموات طباق، وسام شرف من رفيع الدرجات سبحانه ليرفع به ذكرهم إلى يوم الدين، وسام لا تدانيه أوسمة الدنيا الأرضية كلها؛ لأنها وأصحابها زائلون.
أتعلمون -أيها الإخوة- ماذا كان اسم الأنصار ومن هم الأنصار؟! إنهم قبيلة الأوس وقبيلة الخزرج. والأوس: يُنسبون إلى أوس بن حارثة، والخزرج ينسبون إلى الخزرج بن حارثة، وهما ابنا قَيْلة، وقيلة اسم لأمهم التي تجمعهم، ولكن اسم الأنصار كان هو الأخلد والأبقى والأحب والأشرف إليهم من اسم الأوس والخزرج.
"اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار".
أيها المؤمنون: هل محبتك للأنصار أمر مباح أم واجب؟! أنْ تحب الأنصار أو لا تحبهم، هل هو شأن خاص بك؟! هل هو أمر هامشي في حياتك؟! هل محبتك لهم يمكن أن ترفعك؟!
في صحيح البخاري عن البراء -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"، "لا يحبهم إلا مؤمن"، فحبك للأنصار شهادة قطعية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صدق إيمانك، وأكثر من ذلك أن حبك للأنصار ضمانة لك بأنّ الله يحبك أيها المؤمن، تأمّل معي: "فمن أحبهم أحبه الله". الله أكبر ما أعظم شأن الأنصار!! يربط الله محبته لك بمحبتك للأنصار، وفي المقابل تأمل معي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يبغضهم إلا منافق"، حكم صارم من نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخلق كافة: أنّ من يبغض الأنصار فهو منافق، وإذا كان مجرد بغضهم، مجرد كرههم نفاقًا، فكيف -بالله عليكم- من يسبهم؟! بل من يطعن في دينهم؟! بل من يلعنهم؟! بل كيف بمن يكفرهم؟! كما يفعل ذلك الرافضة الشيعة الذين تنضح كتبهم وتفيض ألسنتهم بالطعن في الأنصار لغير ذنب ارتكبوه، بل لدين وإسلام نصروه، هؤلاء ماذا تتوقع أن يقول فيهم نبينا -صلى الله عليه وسلم-؟!
نعم، "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن"، وحب الأنصار لم ينقطع بموتهم، بل حبّ الأنصار باقٍ ما بقي مؤمن على وجه الأرض، باق ما أبقى الله الإسلام والقرآن، فهم ليسوا تاريخًا وانطمس، ولا صفحات في كتاب واحترقت، ولا عابري سبيل قد مضوا، فكما لم ينقطع حبّنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بموته، كذلك لم ولن ينقطع حب المؤمنين الصادقين للأنصار، فهم قوم لا يحبهم إلا مؤمن، كيف لا، وهم سموا بالأنصار لأنهم نصروا الدين حينما نفر عنه الناس، ولأنهم نصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما تجهمه البعيد وخذله القريب، فقد كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يدور على القبائل، ويسير إلى العشائر في مكة وما حولها، ويناديهم ويقول لهم: "من يؤويني؟! من يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة؟!"، فلا يسمع إلا همسًا، لا ملبي لندائه، لا قابل لعرضه، حتى لبّاها يومًا ما أولئك النفر من أقصى البلاد، إنهم الأنصار، نعَم، الأنصار ولا أحد غيرهم، فاستحقوا من الله الكريم ذلك الاسم الكريم: "الأنصار"؛ لأن من ينصر الإسلام وقت يقل النصير، لأن من يقف إلى جانب الإسلام يوم يشيح الناس عنه بوجوههم وينعطفوا بِجُنُوبهم، ليس كمن يقف إلى جانبه يوم يكثر النصير وتعظم المغانم.
"اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار".
أيها المؤمنون: متى بدأت رحلة الأنصار في نصرة الإسلام؟! إنها لم تبدأ في المدينة، بل بدأت في مكة من قبل، إنها لم تنطلق بعد الهجرة بل انطلقت قبل الهجرة النبوية.
نعم، بدأت رحلة الأنصار في نصرة دين الله هناك في مكة، منذ بيعة العقبة الأولى والثانية، فقد التقى بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواسم حج العرب كما في سيرة ابن هشام وغيره، فدعاهم إلى الله تعالى ورغبهم بالإسلام، ثم خاطبهم قائلاً لهم: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم". فبماذا رد عليه الأنصار؟! قالوا له: نعم، فوالذي بعثك بالحق نبيًّا لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا –نساءنا-، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أبناء الحروب وأهل الحَلَقة -السلاح-، ورثناها كابرًا عن كابر.
كلمات لا تصدر إلا من رجال صادقين، راغبين في نصرة دين الله. ثم قال قائل من الأنصار: يا رسول الله -استمع إلى رجال العقيدة والتوحيد الحق- يا رسول الله: إن بيننا وبين اليهود حبالاً، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟! فماذا رد عليهم رجل الإيمان الأول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! قال لهم: "بل الدم بالدم، والهدم بالهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم". إنه وفاء الدعاة الصادقين، وحملة الدين الجادّين.
وفي ظل هذه البيعة النادرة، والصفقة الرابحة لنصرة دين الله، يقوم رجل آخر من الأنصار، فيخاطب قومه قائلاً لهم: "يا معشر الخزرج: هل تدورن علام تبايعون هذا الرجل؟! قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهَكَتْ أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك -يا رسول الله- إن نحن وفينا بذلك؟! قال: "الجنة"، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه.
هذه هي بيعة الأنصار لنصرة الإسلام، ليسمعها بعض المسلمين اليوم، أولئك الذين رموا الالتزام وراء ظهورهم لأجل فتات من الدنيا، وليسمعها كثير من الملتزمين اليوم الذين تخلوا عن مبادئهم تلقاء ثمن بخس تطلبته منهم طريق الدعوة، اشترى الأنصار الجنة مقابل وفائهم ببيعتهم ونصرتهم لدين الله، وبعضنا اليوم لا تعني له الجنة شيئًا، فلا جنة حصلنا، ولا دنيا جمعنا، ولا الإسلام التزمنا، بعض المسلمين اليوم تخلى عن الإسلام دون أي ثمن، بل ودون أي سبب.
"اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار".
أيها الإخوة: ولقد وفّى الأنصار بعهدهم وكانوا أنصارًا حقًّا لله ولدينه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما زالت كلمات الأنصار تبيّض الصحائف وتتردد على ألسنة الدعاة على مر السنين، وذلك حينما استشارهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر، فقال: "أشيروا عليّ أيها الناس"، فقال له سعد بن معاذ الأنصاري: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: "أجل"، فقال سعد بلسان الأنصار كلهم: "لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض -يا رسول الله- لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أنْ تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعلّ الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله".
وماذا عساه القائل منا أن يقول أمام هذا الكلام الصادق والموقف الشهم؟! إنه الوفاء لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، إنه التفاني في نصرة دين الله ودعوة الإسلام من قِبل أولئك الأنصار الأفذاذ، أما الناظر في أحوال الأمة اليوم في مشارق الأرض ومغاربها فإنه لا يجد وفاءً لدعوة الإسلام من كثير من المسلمين، لا يجد النصرة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا يجد العهد مع الله تعالى لنصرة شرعته، بل يجد بعض المسلمين وقد نكثوا العهد مع الله، ونكثوا العهد مع أمتهم، فباعوا أمتهم وأداروا ظهورهم لها، وولّوا وجوهم شطر الغرب والشرق يوالونهم ويناصرونهم على أبناء جلدتهم وعلى شريعة ربهم. فهل هؤلاء أنصار أم أرجاس؟!
"اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار".
ولما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، استقبلهم الأنصار خير استقبال وأطيبه، وآووهم أحسن إيواء وأجمله، لم يكن استقبالهم لهم بالشعارات البراقة ولا بالهتافات المزيفة ولا باللافتات المزوّرة، ولا بالابتسامات المتكلفة ولا بالأشعار المصطنعة، بل كان استقبالهم لهم استقبال الرجال الأوفياء، استقبال المؤمنين الأجلاء، الذين بايعوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على الجنة وعلى النصرة، فآووهم، واقتسموا معهم المال والأرض والسكن والفراش والزوجات والبساتين، وآخى الرسول بينهم وبين المهاجرين، فكانوا نِعْم الإخوة.
يقول عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: "لما قدمنا المدينة آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها".
كلّ هذا فعلوه لأجل الله، لأجل الإسلام، لأجل الدعوة، لأجل الجنة، لم يفعلوه لأجل دنيا ولا مصالح ولا وجاهة: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114]، فليعتبر أولئك الذين لا يسدون خدمة لأهل الإسلام إلا إذا كان الثمن يبرق بين أيديهم، لا يعرفون شيئًا اسمه خدمة المسلمين ابتغاء وجه الله، ولا يفكرون أصلاً في شيء اسمه نصرة الدعوة والملة لأجل الله تعالى، هذا إذا سلمت منهم الدعوة وسلم منهم أنصارها، يا ويل هؤلاء من الله، يا ويلهم من يوم عظيم يبعثون فيه لرب العالمين!!
"اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار".
رضي الله عن الأنصار، وجعل الله لنا فيهم القدوة في نصرة دين الإسلام، فقد كانوا يذودون عن حمى الإسلام ويدفعون عنه كل سوء، وكانوا يردّون عن رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- كل أذى وأذية، ما كانوا يسمحون لأحد أن ينال منه، لا إنسان ولا حتى حيوان، ومن أعجب ما سجلته لنا كتب السنة في هذا الشأن ما رواه لنا أنس -رضي الله عنه- قال: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إلى عبد الله بن أبيّ -كبير المنافقين- راكبًا حمارًا له، وانطلق المسلمون يمشون معه، فلما أتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن أبيّ: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فغضب لذلك رجل من الأنصار فقام فقال لابن أبي: والله لحمار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطيب ريحًا منك".
"اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار".
أيها الإخوة: سيبقى ذلك المشهد المؤثر البليغ الذي وفّى فيه نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- للأنصار عهدهم، وجازاهم به أتم الجزاء وأكمله، ذلك المشهد الذي عرفت الأمة كلها فيه إلى يوم الدين من هم الأنصار، وما هو قدر الأنصار عند الله تعالى وعند نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم-، ذلك المشهد الذي أبكى الأنصار شيبًا وشبابًا، نساءً وأطفالاً.
أيها الإخوة: لما قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- غنائم غزوة حنين بعد فتح مكة وإسلام قريش، أعطى قريشًا وقبائل العرب الكثير من هذه الغنائم، ولم يعط الأنصار شيئًا، فوَجَد الأنصار في أنفسهم -أي تأثروا-، وتكلم بعضهم حتى قال قائل منهم: "لقد لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه، فبلغ ذلك الكلامُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمر بهم أن يجتمعوا، فلما اجتمعوا أتاهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الأنصار: مقَالةٌ بلغتني عنكم، وجِدَةٌ وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداءً فألّف الله بين قلوبكم؟!"، قالوا: بلى، الله ورسوله أمنُّ وأفضل، ثم قال: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟!"، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟! لله ولرسوله المنّ والفضل. قال: "أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقْتم ولصُدِّقتُم: أتيتنا مكذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فواسيناك".
لا شهادة بعد هذه الشهادة يحتاجها الأنصار من أحد.
ثم قال لهم -صلى الله عليه وسلم- مفسرًا لِمَ فعل ذلك: "أوجدتم عليَّ -يا معشر الأنصار- في أنفسكم في لُعَاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا ليسلموا؟! -أعطيت الناس هؤلاء لأنهم حديثو عهد بالإسلام، فأردت تأليف قلوبهم- ووكلتكم إلى إسلامكم".
ثم قال لهم الكلام الذي لا يوزن بكل عطايا الدنيا وهباتها: "أَلَا تَرْضَوْنَ -يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ- أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟! فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الأنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الأْنصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْت شِعْبَ الأنْصَارِ.
ثم دعا لهم نبي الله -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- دعاءً لا ينقطع وصله، فقال: "اللّهُمّ ارْحَمْ الأنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأنْصَارِ". فَبَكَى الأنصار حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللّهِ قَسْمًا وَحَظًّا. ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَتَفَرّق القوم، ليكون هذا المشهد هو القول الفصل بمكانة الأنصار عند الله تعالى وعند رسول الله -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وعند كل من يحب الله وعند كل من يتبع رسول الله -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلى يوم نلقى الله تعالى.
"اللّهُمّ ارْحَمْ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ".
هذه نفحات من نفحات الأنصار، وتلكم مشاهد من مشاهدهم، ومآثر من مآثرهم، نستذكرها كلما قرأنا السيرة، ونستشعر حضورهم كلما مررنا بالمدينة، ونستحضر صنيعهم كلما رأينا الإسلام مستضعفًا في الأرض، وكلما شاهدنا المسلمين مستذلين في ديارهم.
ونستعظم قدرهم، ونقدر دورهم كلما رأينا تلك الفئات وأولئك الرجال والشباب الذين يقفون اليوم إلى جانب إسلامهم، وإلى جانب دعوتهم، وإلى جانب أمتهم في هذا الزمان، زمن غربة الإسلام في دياره، وفي وقت يقل فيه النصير لهذا الدين، ويتخلى فيه المكين عن نصرة أتباع هذا الدين.
إنّ درس الأنصار هذا يقول لنا: أن نركب مركَبهم في نصرة دعوة الله تعالى، وأن نسير مسيرهم في نصرة حملة هذا الدين وأتباع نبيه الأمين -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في مشارق الأرض ومغاربها، لا أن نكون من المرجفين ولا من المخذلين ولا من المخذولين.
إنّ درس الأنصار يقول للجميع: إن نصرة دعوة الإسلام ديْن في أعناقكم، إنّ نصرة سنة نبيكم وحمل رسالته مرصوع في ذممكم جميعًا، فليست نصرة الإسلام منوطة في ديننا بفئة محددة ولا بلافتة معينة، بل هي في عنق كل من في عنقه بيعة الإسلام، في عنق كل من يؤمن بنبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) [الصف: 14]، يقول ابن كثير: "يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم".
هذا هو درس الأنصار الأكبر، أن تنصر دين الله، يا أيها المؤمن بالله.
"اللّهُمّ ارْحَمْ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ".
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "مرَّ أَبُو بَكْرٍ وَالْعَبَّاسُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأنْصَارِ وَهُمْ يَبْكُونَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمْ؟! قَالُوا: ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَّا- أي: جلوسنا معه، وكان ذلك في مرضه صلى الله عليه وسلم، فخافوا أن يموت من مرضه فيفقدوا مجلسه، فبكوا حزنًا على ذلك، فأي قوم هؤلاء؟! وأي قلب ذلك الذي لا يحبهم؟!- فَدَخَلَ العباس -رضي الله عنه- عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ، فهو في مرض موته، قَالَ: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَلَمْ يَصْعَدْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أُوصِيكُمْ بِالأنْصَارِ؛ فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي -أي بطانتي وخاصتي-، وَقَدْ قَضَوْا الَّذِي عَلَيْهِمْ -أي أدّوا ما عاهدوا عليه من النصرة وغيرها-، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ.
وفي الحديث الصحيح عن ابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَتَقِلُّ الأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ أَمْرًا يَضُرُّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعُهُ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ".
فحبّنا للأنصار دين وعقيدة وإيمان، وكُرْهنا ومعاداتنا لمن يبغض الأنصار ولمن يطعن بالأنصار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- هو كذلك هو دين وعقيدة وإيمان.
حبّنا للأنصار ولمن ينصر دين الله ويبلغ دعوة نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ويذود عن حمى أمته في كل زمان ومكان، هو صلاح وقربة، وإيمان وعبادة، وتقوى وأمانة، وواجب وسنة.
"للّهُمّ ارْحَمْ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ".
اللهم ارزقنا حب الأنصار، وحب ذرية الأنصار، وحب أتباع الأنصار في كل حين وأوان، وموطن ومكان. آمين.
التعليقات