عناصر الخطبة
1/بعض الأسرار والحكم في خلق اللسان 2/بعض الآثار التي تبين خطورة اللسان 3/المسلم مأمور بإحسان كلامه 4/بعض وجوه استعمال اللسان السيئة المهلكة 5/فضائل الصمت وحفظ اللساناقتباس
واعلموا أنَّ مَنْ حَفِظَ لسانَه أراحَ نَفْسَهُ، وأنَّ مْنَ صَمَتَ نَجَا، كما أنه يُكسِب المحبةَ، ويُورِث الوقارَ، ويُسبغ على صاحبه الهيبةَ، وهو أمان من تحريف اللفظ، وعصمة من زيغ المنطق، وسلامة من فضول القول، وعبادة من غير عناء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله عَلِيّ الذات، زَكِيّ الصفات، جَلِيّ الآيات، وَفِيّ العِدَاتِ، أحمده -سبحانه- وأشكره، يَقبَل التوبةَ عن عباده، ويعفو عن السيئات، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، تنزَّه عن المشابَهة والمشاكَلة والمماثَلة والكيفيَّات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسَلَه ربُّه بالبراهين الساطعات، والمعجِزات القاطعات، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، ذوي المناقب العاليات، والمآثِر الغاليات، والتابعينَ وتابعيهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات.
أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناسُ- ونفسي بتقوى الله -سبحانه-؛ فبالتقوى تَخِفُّ المؤوناتُ، وتَحسُن للعبد من الله المعونات.
أيها المؤمنون: لله في مخلوقاته أسرار وحِكَم، وفي مصنوعاته عظات وعبر، ناطقات بعظمة الخلق، وشاهدات على حكمة التقدير، التدبُّر فيها يُثمِر اليقينَ، ويزيد العلمَ، ويُقوِّي الإيمانَ، وإنَّ من تلك المخلوقات الباهرات، والآيات النيِّرات اللسان، اللسان آلة النطق، وأداة البيان، والشاهد عن الضمير، والتُّرجمان للفؤاد، به يُرَدّ الجوابُ، ويُفصَل الخطابُ، وتُدرَك الحاجاتُ والطِّلابُ، فما أعظَمَه من نعمة، وما أكرَمَه من قسمة، بسم الله الرحمن الرحيم: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرَّحْمَنِ: 1-4]، وقال تعالى مبينا المنة به: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)[الْبَلَدِ: 8-9]، حدُّه عظيم، وخطرُه جسيم، وأثرُه عميم، يرقى به المرءُ درجات العز والفخار، أو يهوي به في دركات العطب والبوار.
إن اللسان صغير جِرمُه وله *** جُرْمٌ كبيرٌ كما قد قيل في المَثَلِ
قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشر والمغرب"(أخرجه البخاري ومسلم)، وقال عليه الصلاة والسلام: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!"، وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: "الفَمُ والفَرْجُ"(أخرجهما الترمذي)، قال يحيى بن أبي كثير -رحمه الله-: "ما صَلُحَ منطقُ رجلٍ إلا عُرِفَ ذلك في سائر عمله، ولا فَسَدَ منطقُ رجلٍ إلَّا عُرِفَ ذلك في سائر عمله".
عبادَ اللهِ: اللسانُ أمانةٌ عندَ الإنسان، ووديعةٌ مسؤولٌ عنها، هو قابل لكل ما يُعرِب به، ومائلٌ إلى ما يمال إليه.
عَوِّدْ لِسانَكَ قولَ الخير تحظَ به *** إِنَّ اللسانَ لِمَا عَوَّدْتَ مُعتَادُ
إن كل كلمة يلفظها الإنسان مُثبَتة عليه (فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)[طه: 52]، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18]، (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا)[مَرْيَمَ: 79]، (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ)[الرَّعْدِ: 10]، (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ)[الْمُلْكِ: 13]، ثم تُعرَض عليه يوم العرض الأكبر، فإن كانت خيرًا فما أحظاه وأهناه، وإن كانت شرًّا فما أبأسَه وأَشْقَاه.
لقد أمَر -سبحانه- ورسولُه -صلى الله عليه وسلم- بأحسن القول وأطيبه، وحض على أجمل الكلام وأعذبه، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[الْبَقَرَةِ: 83]، وقال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[الْإِسْرَاءِ: 53]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[الْأَحْزَابِ: 70]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فليقل خيرًا أو ليصمت"(أخرجه البخاري ومسلم).
إنها حُلَلُ اللسانِ، وتُحَفُ البيانِ، تنفُذ إلى القلوب قبل الآذانِ، تعليمُ جاهلٍ، وتنبيهُ غافلٍ، وإرشادُ حائرٍ، وبذلُ نصيحةٍ، وبثُّ خيرٍ، وإصلاحٌ بين الناس، وذكر لله -تعالى-.
أيها المسلمون: إن على العبد أن يكون قوَّامًا على لسانه، حارسًا له من آفاته بسنانه، وأخطرها وأشنعها القول على الله -تعالى- بغير علم، كالقول بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، ووصفه بضد ما وصف به نفسه، أو وصفه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو تحليل ما حرَّم، أو تحريم ما أحلَّ، أو الخوض في شرعه بلا عِلْم ولا هُدًى، قال سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الْأَعْرَافِ: 33]، وقال سبحانه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)[النَّحْلِ: 116].
ومن آفات اللسان وحصائده السخرية والغيبة، والكذب والنميمة والبهتان والسباب، (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ)[الْحُجُرَاتِ: 11]، (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)[الْحُجُرَاتِ: 12]، "إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار"، "لا يدخل الجنةَ نمَّامٌ"، "كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه ومالُه وعِرضُه"، "ومَنْ لعَن مؤمنًا فهو كقتله"، "وسِبَابُ المسلمِ فسوقٌ"، "والمسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمون مِنْ لسانِه ويدِه".
تلكم آيُ الهدى، وذاكم كلامُ خيرِ الورى، دام نفعُها أبدًا، ما نجمٌ في السماء بَدَا، وما تلقَّاها عبدٌ بالتسليم والرضا.
أقول ما سمعتُم، وأستغفِر اللهَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، عمَّ بامتنانه كلَّ شيء وعطَف، وجادَ بثمر إحسانه على كل حي فقَطَف، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، توبةَ عبد ممَّا جنى واقترف، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لَا شريكَ له، -تعالى- عمَّا قال الجاحد ووصف، وأشهد أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، خيرُ خلقِ اللهِ مِنْ سَلَفٍ وخَلَفٍ، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان، ومَنْ سار على نهجه، وبهديه اتصف.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنَّ مَنْ حَفِظَ لسانَه أراحَ نَفْسَهُ، وأنَّ مْنَ صَمَتَ نَجَا، كما أنه يُكسِب المحبةَ، ويُورِث الوقارَ، ويُسبغ على صاحبه الهيبةَ، وهو أمان من تحريف اللفظ، وعصمة من زيغ المنطق، وسلامة من فضول القول، وعبادة من غير عناء.
وَفِي الصمتِ سِرٌّ لِلْعَيِّ وَإِنَّمَا *** صَحِيفَةُ لُبِّ الْمَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا
قال النووي -رحمه الله-: "اعلم أنه ينبغي لكل مكلَّف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحةُ، ومتى استوى الكلامُ وتركُه في المصلحةُ فالسُّنَّةُ الإمساكُ عنه؛ لأنه قد ينجرُّ الكلامُ المباحُ إلى حرام أو مكروه؛ وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء".
هذا وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على محمد بن عبد الله، النبي القرشي الهاشمي، فاللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين وصحابته الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد يا رب العالمين، اللهم سَدِّدْ جندَنا المرابطينَ على الحدود والثغور، كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيِّدًا ونصيرًا.
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا صالحًا متقبَّلًا، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 53]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النَّحْلِ: 90-91].
التعليقات