عناصر الخطبة
1/ الخسوف والكسوف أمر عظيم مخيف 2/ حال النبي صلى الله عليه وسلم عند كسوف الشمس 3/ أسباب ظاهرتي الكسوف والخسوف 4/ كثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن 5/ شؤم المعاصي وعواقبها في النفس والبر والبحر 6/ الحث على التوبة والاستغفار.اقتباس
لقد نُحِّيت الشريعة، ووالى الحكام أعداء الله، وظهر الربا، وفشا الزنا، وشُربت الخمر والمسكرات، وأُدمنت الحبوب والمخدرات، وأكُل الحرام، وتنوعت فيه الحيل، وارتفعت أصوات الباطل، وتُركت الصلاة، وتهاون الناس في سماع المعازف والموسيقى والغناء ومشاهدة المشاهد الخليعة، وكثرت المعاكسات والخلوات المحرمة، وفشت الرذائل والقبائح فهل بعد هذا كله يا عباد الله نستغرب من تكرر ظاهرة الخسوف والكسوف؟!
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "خسفت الشمس فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فزعًا يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته قط يفعله، وقال هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوِّف الله بها عباده؛ فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره".
فهل تظنون يا عباد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فزع ذلك الفزع الشديد حتى خشي أن تكون الساعة، وصلى تلك الصلاة الطويلة، وخطب تلك الخطبة العظيمة، وحصلت له تلك الأحوال الرهيبة.
هل تظنون أن ذلك كله لأمر عادي؟ لا والله إنه لن يكون إلا لأمر عظيم مخيف فلا بد علينا في مثل هذه الأحوال أن نفزع كما فزع نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وأن نلجأ إلى مساجد الله، كما لجأ نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأن نكثر من الصلاة والدعاء والصدقة والاستغفار كما فعل نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
إن هذا الحدث الكوني من كسوف الشمس أو خسوف القمر له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون وينكرها الكافرون، ويتهاون بها ضعيفو الإيمان والمنافقون، قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا) [النبأ: 27 - 28].
إن هذه الظاهرة -ظاهرة الخسوف والكسوف- لها أسباب كونية يعرفها الفلكيون وأهل الحساب من قديم الزمان ويعلمونها قبل وقوعها ويحددون موعد حدوثها قبل أن تقع عبر الحسابات الدقيقة التي قال الله عنها: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن: 5]، وقال (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) [الإسراء: 13].
وقال –سبحانه-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس: 5]، فلا غرابة أن يعرف أهل الحساب وقت الكسوف ومدته وأماكن ظهوره؛ لأن هذا مما يُعرف بالحساب فليس العلم بموعد الخسوف والكسوف من التنجيم أو من ادعاء علم الغيب وإنما هو كالعلم بالمواسم والمطالع وفصول السنة ومنازل القمر (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 37- 40].
عباد الله: إن المؤمن يعلم أن الأسباب الشرعية لهذه الظاهرة أهم من الأسباب الطبيعية المادية؛ فيؤمن أن هذه آيات وابتلاءات يخوِّف الله بها عباده ونُذُر جعلها الله لنا لنحاسب أنفسنا، ونستيقظ من غفلتنا، ولنصحح أخطاءنا ونُغيِّر من واقعنا.
إن ذهاب نور الشمس أو القمر كله أو بعضه ما هو إلا نذير وتذكير لنا بما أوجب الله علينا من الأوامر، ولنجتنب ما حرم الله علينا من النواهي، ولهذا كثر الخسوف في هذا العصر عما كان عليه الحال فيما مضى، فلا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف أو خسوف في الشمس أو في القمر أو فيهما جميعاً؛ كما هو الحال في عامنا هذا، وفي وقت متقارب جداً؛ وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، مع أنه في من النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحدث الكسوف إلا مرة واحدة.
لقد نُحِّيت الشريعة، ووالى الحكام أعداء الله، وظهر الربا، وفشا الزنا، وشُربت الخمر والمسكرات، وأُدمنت الحبوب والمخدرات، وأكُل الحرام، وتنوعت فيه الحيل، وارتفعت أصوات الباطل، وتُركت الصلاة، وتهاون الناس في سماع المعازف والموسيقى والغناء ومشاهدة المشاهد الخليعة، وكثرت المعاكسات والخلوات المحرمة، وفشت الرذائل والقبائح فهل بعد هذا كله يا عباد الله نستغرب من تكرر ظاهرة الخسوف والكسوف؟!
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته عند ما انكسفت الشمس: "يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً".
وقال: "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، وأوُحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم قريبًا أو مثل فتنة الدجال، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر، وقال: لقد جيء بالنار يحطم بعضها بعضًا، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، حتى رأيت فيها عمرو بن لحي يجر أقصابه -أي أمعاءه- في النار، ورأيت صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعًا".
قال: "ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل".
عباد الله: لقد توالت علينا الآيات والنذر تحذرنا من المعاصي وتليّن منا القلب القاسي؛ لأن المعاصي لها شؤمها وعواقبها في النفس والأهل وفي البر والبحر (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
وإن كسوف الشمس من هذه النذر والآيات، فمن يدري ما وراء هذا التخويف من الله لعباده من عقوبات عاجلة أو آجلة عامة أو خاصة، فإذا غفلنا عن هذه النذر واستهنا بهذه الآيات، ورأينا أنها أمر طبيعي لا يهتز له الجنان ولا تذرف له العينان ولا تتحرك له القلوب ولا تفزع منه لعلام الغيوب، فلنعلم أن ذنوبنا غطت قلوبنا، وأن الران قد استحكم علينا (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون) [المطففين: 14- 15].
نسأل الله السلامة والعافية..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أعلم الناس بربه وأتقى العباد وأخشاهم لله يفزع عند آية الكسوف، فما بالنا نحن لا نخشع؟! وما بال البعض منا إلى الدعاء والصلاة لا يفزع، ولا يحضر صلاة الكسوف ولا يهرع؟!
إن قيام الساعة يكون بزلزلة الأرض، وانتثار الكواكب وخسوف القمر، فكان من رحمة الله -تعالى- وحكمته أن يرسل هذه الآيات ليذكرنا بذلك اليوم العظيم، وينبهنا بنهاية الدنيا وبداية القيامة وقربها يقول الله -سبحانه وتعالى-: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة: 7- 13].
ويقول -جل جلاله-: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) [الشمس: 1- 14].
عباد الله: توبوا إلى الله واستغفروه فإن الله -جل وعلا- لا يعجل بالعقوبة بل يمهل ويستعتب ويخوف وينذر رجاء أن يتوب العباد ويتركوا الانهماك في الموبقات والإسراف في المعاصي والسيئات؛ فلا يغرنا إمهال الله لنا وتأخيره للعقوبة عنا؛ فإن الله يمهل ولا يهمل (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3]، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].
وصلوا وسلموا...
التعليقات