اقتباس
مما ابتُليَ به المشهد الثقافي المعاصر جزّ العبارات من سياقها، والتقاطها من بين أخواتها اللاتي يتضح بهن المعنى ويكتمل بمجموعها دون آحادها، فمن اقتبس كلمة أو كلمتين من كاتب أو باحث دون مراعاة سياقها كان كمن قرأ قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين) وسكتَ ولم يُكملْ، وفكرة السياق عموماً واعتبارها في المعنى والكشف عن المراد لها شأن كبير في تراثنا العلمي؛ لهذا لا ينبغي للباحث إغفالها وعدم مراعاتها.
اللغة هي البنية الأساسية للتفكير الإنساني، وهي التي تبعث الروح في أفكاره وتوقظها، وتمنحها الفاعلية والتأثير في المشهد الثقافي والعلمي، فهي إذن ليست وعاء للأفكار فحسب، بل هي المؤثر الفعلي في بناء الأفكار وتَشكُّلها وتكوين القناعات، والإنسان (كما يقال عنه) ابن بيئته، يقال عنه أيضا: ابن لغته ومفرداته التي يستخدمها للتعبير عن أفكاره!
وفي تراثنا الإسلامي ثمة عبارات موجزة أشبه بالأمثال العربية، أصبحت كالقوالب الجاهزة تدور على الألسنة كثيراً؛ لرشاقتها وسبكها وسهولة تَذَكّرها لا يُلتفت في العادة لتأثيرها على الجانب الثقافي والوعي الإنساني؛ علماً بأن من هذه الكلمات ما يكون مُحمَّلاً بخلفيات فلسفية، ومُشْبَعاً بمفاهيم موغلة في السلبية والتضييق، وأفكار قد تكون مهترئة توجه مسار الذهن، وتؤطر حركته دون أدنى مستويات التفكير في صحة مضمونها!
ومن غرائب العقل الإنساني (المتأثر بتلك الكلمات) أن يحولها لبراهين عقلية، وحجج نصية يلوكها ويقذف بها في وجه كل من نازعه في صحتها، أو خالف دلالة منطوقها، فإذا قال لك المرء: "من تمنطق فقد تزندق" فهذا معناه القول الفصل الذي لا نقاش بعده، ولا سؤال أو استفسار فضلاً عن النقد والتحليل!
وقد تجد الذين يُمسِّكون بها لديهم نوع من العجز اللغوي، وضعف الإدراك للمعاني، وعدم القدرة في الكشف عن رأيه والبرهنة عليه، فهو قد لا يُبينُ عن حجته إن وجدت؛ لهذا يسكن لمثل هذه القوالب التي تسعفه عند المحاججة ومضايق الخلاف؛ ليقطع النزاع، ويتشبث بها أكثر من مَنح إجازة مفتوحة لفكره، وخدّر ذهنه وعقله عن ممارسة أي نقد بَنَّاء للتراث البشري، وغالباً ما تجد مثل هذه العبارات سوقاً رائجة وفاعلاً عند المبتدئين في مراحل التحصيل العلمي؛ لنقص التجربة وعدم الممارسة للنقد، فالمتعلم -للأسف- يَبدأ رحلته العلمية بمثل هذه العبارات المجملة مستظلاً بظلالها دون محاولة تعليلها قبولاً أو رداً، فما إن يقطع شوطاً في العلم حتى تجده يضيق ذرعاً بكل مَن يُمارس نقداً أو استشكالاً لما اعتاد عليه سنين عددا، ومما ساهم في نشرها عند هؤلاء ما يسمى بكتب "آداب الطلب"، وهي تراث زاخر فيه الغث والسمين، وما يتقيد بحال دون حال!
والكلمات المقصودة بالخطاب كثيرة ومتعددة، وموضوعاتها في أبواب مختلفة، وعند التفصيل لا بد أن يتنوع التعامل معها من عبارة لأخرى، فمقام التفصيل ليس كمقام الإجمال، فمن تلكم الكلمات:
1-لحوم العلماء مسمومة!
2-من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه!
3-من تمنطق فقد تزندق!
4-نضج واحترق هذا العلم!
5-من حفظ الأصول حاز الفنون!
6-لا تأخذ العلم عن صُحفي!
7-احفظ فكل حافظ إمام!
8-لا تقلْ قولا ليس لك فيه إمام!
9-من كتب الحواشي ما حوى شيء!
10ما ترك الأول للآخر شيء!
11-من تتبع رخص العلماء تزندق!
12-كم ترك الأول للآخر.
13-زلة العالم مضروب لها الطبل.
14-هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
15-ثَبِّت العرش ثمّ انْقُشْ، وهكذا...إلى آخر تلكم العبارات.
وربما يقال ابتداءً (في بعضها دون الدخول في مضامينها وقراءة خلفياتها): إنها عبارات مسبوكة في المبنى، خفيفة على السمع، مثلها مثل أي نص أدبي تراثي رائق، لكنّ ذلك لا يمنع من وضعها على مشرحة النقد والتحليل متى تحولت لساناً ناطقاً، وضميراً مستتراً يعكس جملة من المفاهيم المعيقة للتفكير في فضاءات التراث الإسلامي؛ فمثلاً عبارة "لحوم العلماء مسمومة" يستتر خلفها سوء التعامل مع مفهوم "التقديس واحترام العلماء"، وهكذا في عدد من تلكم العبارات!
وفيما يلي سأكشف للقارئ عن سوء تعاملنا مع مثل هذه العبارات بالوقوف مع عبارة واحدة مما سبق، نُحللها ونفككها مجردة عن سياقها، ثم نعود لسياقها الذي وردت فيه؛ لنعرف مدى العجلة في الفهم، والخطأ في عدم مراعاة السياق، وهذه العبارة هي القول عن علم ما: "نضج واحترق" وسأتناولها في مقامين:
المقام الأول: تجريدها من سياقها:
أوّل من نقل هذه العبارة -حسب معرفتي- هو الزركشي (ت: 794هـ) في قواعده الفقهية، يقول: "كان بعض المشايخ يقول: العلوم ثلاثة:
1-علم نضج وما احترق وهو علم الأصول والنحو.
2-وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير.
3-وعلم نضج واحترق، وهو علم الفقه والحديث". المنثور في القواعد الفقهية (1/72)
أولاً: القائل مجهول، ونقلها ليس دليلاً على صحتها كما يَزعم البعض.
ثانياً: ما المراد بـ"نضج واحترق"، هل يعني الخدمة والتأليف مطلقاً؟ أم يعني خدمة الفن المعيّن بالنسبة لغيره؟ أم يريد بذلك اكتمال قواعد العلم ومواده؟ أم يريد به بيان العلم ووضوحه؟
ثالثاً: هل التقسيم صحيح في ذاته ومناسب وحصري تنزلاً مع هذا القائل المجهول!!
رابعاً: أين الأسس التي اعتمدها هذا المجهول في هذا التقسيم، وهذه الأحكام المطلقة العائمة!!
خامساً: ما الذي جعل هذا العلم في هذا المقام وذاك في مقام آخر، فمثلاً: لماذا لم يحكم على التفسير بالنضج والاحتراق مع أنه حكم بذلك على الحديث؟!
سادساً: هل يمكن أن يقال عن علم مبناه على الفهم والاستنباط الأبدي كالفقه -مثلاً- أنه احترق ونضج؟!
ثامناً: لكل علم أصول وفروع، وهو لم يُفرق! لماذا قال: عن الفقه والحديث أنهما نضجا واحترقا، فذلك يشمل الأصول والفروع؛ لأنه لم يبين مراده، ولم يقل ذلك: عن التفسير الذي ذكر ابن تيمية في مقدمته أن الرسول -عليه الصلاة والسلام-لم يمت حتى بينه كاملاً!!، لماذا لم يقل عنه نضج واحترق!!، ولماذا لم يقل عن الأصول إنه احترق؛ لأنه في الجملة أصول وثوابت، ولأن الشاطبي ذكر في موافقاته أن أصول الفقه قطعية؟! كيف لم يحترق الأصول عنده ولا التفسير، واحترق عنده الفقه والحديث؟!
تاسعاً: أين العبارة الأخرى السائرة: "كم ترك الأول للآخر" فإذا كانت المسألة عبارات مرسلة بلا تعليل! فكيف نوفق بين هاتين العبارتين "نضج واحترق" و "كم ترك الأول للآخر"؟!
وفي هذا السياق يقول الألباني: قولهم في المثل السائر: "كم ترك الأول للآخر" يبطل قول بعض المقلدة "علم الحديث نضج واحترق!" انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (12/511).
المقام الثاني: قراءتها في سياقها:
مما ابتُليَ به المشهد الثقافي المعاصر جزّ العبارات من سياقها، والتقاطها من بين أخواتها اللاتي يتضح بهن المعنى ويكتمل بمجموعها دون آحادها، فمن اقتبس كلمة أو كلمتين من كاتب أو باحث دون مراعاة سياقها كان كمن قرأ قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين) وسكتَ ولم يُكملْ، وفكرة السياق عموماً واعتبارها في المعنى والكشف عن المراد لها شأن كبير في تراثنا العلمي؛ لهذا لا ينبغي للباحث إغفالها وعدم مراعاتها.
وهذه العبارة: "نضج واحترق" اقتطعت من سياقها، واشتُهر لها عند البعض معنى خاص غارق في السلبية بمعزل عن مضمونها الذي أتت فيه، فعند فئام من المحصلين للعلم أن الفن الذي قيل عنه: نضج واحترق كالحديث مثلاً يُشاع أنه علم انتهى فيه البحث، ولا مجال للإضافة فيه بأي وجه من الوجوه، وعليه فالباحث حين يأتي لمثل هذه العلم مصطحباً معه هذه العبارة سيكون لمفهوم التقليد دور كبير في تشكيل وعيه وفكره دون مراعاة الدليل!!
وبالرجوع لسياق العبارة في مصدرها السابق نجد غير هذا المعنى، فالزركشي أورد العبارة في سياق ذكره لأنواع الفقه وتعداد المعاني التي يفيدها، حتى وصل به المقام للنوع العاشر، فيقول: (1/71) "العاشر: معرفة الضوابط التي تجمع جموعاً، والقواعد التي تُردُّ إليها أصولاً وفروعاً، وهذا أنفعها وأعمها، وأكملها وأتمها، وبه يرتقي الفقيه إلى الاستعداد لمراتب الاجتهاد، وهو أصول الفقه على الحقيقة".
فقس هذا المعنى الذي ذكره الزركشي للفقه مع معنى العبارة؛ تجد أن فقه الفروع –خاصةً- ليس فيه ما يمكن اعتبار نضوجه واحتراقه على التمام (كما في العبارة، أو ما لا يمكن الإضافة فيه كما هو سائد!)، بل تأمل للكلمات التي استخدمها للتعبير؛ تجد أن دلالاتها تُضاد المعنى السلبي للعبارة كقوله: الضوابط، والقواعد، والاجتهاد، وأصول الفقه... فأنت تلحظ أنّ هذه المفردات كالآلة والأداة التي تُحفِّز الذهن وتضبط حركته؛ لتحقيق الاجتهاد، واستنباط الأحكام، والإتيان بالجديد من الآراء دون توقف، وهذا من أتمّ المعاني للفقه وأنفعها، فكيف يقال: أنه نضج واحترق ولا يمكن الإتيان فيه بجديد، وقل مثل ذلك في علوم الحديث وغيرها؟!
ثم يُعْقب الزركشي حديثه السابق بقوله: فائدة، ويذكر العبارة (نضج واحترق) بتمامها، ويقول بعدها مؤكِّدًا على معنى الإضافة والإبداع: (1/72) "، قال صاحب الأحوذي: ولا ينبغي لحصيف أن يتصدى إلى تصنيف أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعاً ومبنى، وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد الورق والتحلي بحلية السرق".
فما قبل العبارة وما بعدها يُخالف القول المتداول الذي تُفهم به، وهذا ما يعني -على الأقل- إعادة النظر فيها وفي معناها، بل يمكن أن يقال للزركشي بناء على المعنى المستفيض لها: كيف ساغ لك أن تدعوَ للإبداع والاختراع في البحث عموماً وقد نوّمتَ العقل وحقنتَ أوردته بـ "نضج واحترق"؟! فالمعنى المشهور للعبارة يحتاج للمراجعة والنظر، ولا يضير أحداً أن يكون لهذه العبارة معنى صحيح غير هذا، عند الزركشي أو غيره، ولكن مما لا شك فيه بطلان المعنى الذي يشاع لها بناء على التقرير السابق، وهذا غاية ما يراد إيصاله هنا، مع الإشارة والتنبيه لما يمكن أن يحدثه عدم التدقيق والرجوع للأصول ومراعاة السياق من سوء الفهم والخطأ في التقرير.
وبعد: فالمحصّل أن من هذه العبارات التي شاعت على الألسنة ما هو متهافت ومتناقض، غير مبني على دليل ولا برهان ولا واقع، بل جلها مرسل هكذا دون محاولة الرجوع لمنشئها وأصلها، ولو لم تأخذ هذه العبارة (وما يماثلها) حجماً كبيراً في الوسط الشرعي وتؤثر فيه، ما ذكرها أحد، ولا احتاج للرد عليها وبيان ضعفها.
وفي الختام لا أتمنى أن يقال: عقولنا هي التي احترقت ونضجت فلم تعد قادرة على البناء المعرفي الفاعل، ولا على البحث العلمي المجرد!! والحمد لله رب العالمين من قبل ومن بعد.
التعليقات