القناعة في زماننا وفي زمن السلف

زيد بن مسفر البحري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ معنى القناعة 2/ ثمارها 3/ آثار فقدها 4/ وسائل لتحصيل القناعة وتأصيلها في النفوس 5/ الهدي النبوي الكريم في القناعة والزهادة 6/ من صور قناعة السلف
اهداف الخطبة

اقتباس

القناعة من نالها نال الفلاح، ما هو الفلاح؟ هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "قد أفلح"، قد: للتحقيق، أي تحقق فلاحه ووقع، "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه".

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: فيا عباد الله، "قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك"، هذا ما يسمى عند بعض الحكماء بالقناعة.

 

"قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك"، إذا قلَّت أمانيك، ورضيت بما لديك؛ فأنت القنوع، وبالتالي، فإن القناعة ضرورية للإنسان في هذه الحياة، بل يظهر نفعها وقدرها في هذه السنوات التي تنافس فيها الناس على الدنيا وأصبح البعض يجاري الآخرين في السفريات، في المأكولات، في المشروبات، في المركوبات، فأثقلت الناسَ همَّا، وغمَّا، ودَينا، كل ذلك من أجل أن القناعة قد خلت أو انعدمت أو قلَّت عند كثير من الناس.

 

"قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك"، هو القناعة.

 

القناعة نالها فقراء فأصبحوا أغنياء، بل صاروا من المثنى عليهم في كتاب الله -عز وجل-: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة:273].

 

القناعة واجبة وجوبا شرعيا على والي اليتيم إذا كان غنياً ولو كان يقوم على شؤون هذا اليتيم، فإن هذا الوالي لليتيم يجب عليه أن يقنع، وبالتالي فإنه لا يجوز أن يأخذ من مال اليتيم شيئا ولو كان قائما على ماله، قال -تعالى-: (وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ) [النساء:6].

 

القناعة من نالها نال الفلاح، ما هو الفلاح؟ هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-:

"قد أفلح"، قد: للتحقيق، أي تحقق فلاحه ووقع، "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه".

 

القناعة من نالها نال طوبى، و(طوبى) اسم للجنة، أو شجرة في الجنة، كما جاء بذلك الحديث، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند الترمذي من حديث فضالة بن عبيد -رضي الله عنه-: "طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع".

 

 القناعة إن لم تنلها، إن لم تصبها، إن لم تحرص عليها، فأنت الفقير ولو كانت الأموال الكثيرة الطائلة بين يديك، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "ليس الغنى غنى العَرَض"، ليس الغنى غنى الدنيا، لا، "ليس الغنى غنى العرض، ولكن الغنى غنى النفس"؛ لأن من لم يقتنع فإن المال ولو كان بيده كثيرا فإنه يكون فقيرا في قلبه، لأنه يرى غيره أحسن منه، وبالتالي فإنه يتسم بسمة فقر القلب، نسأل الله السلامة والعافية.

 

القناعة إن أصبتها، أن تربيت عليها، إن تشبثت بها، إن ملكتها؛ فإنك حينها تكون أشكر عباد الله لله، النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند ابن ماجه موصيا أبا هريرة -رضي الله عنه-، قال: "يا أبا هريرة، كن ورعا تكن أعبد الناس". موضع الشاهد: "وكن قنعا تكن أشكر الناس".

 

القناعة من لم ينلها فإنه يحقر نعمة الله التي بين يديه، النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين، واللفظ لمسلم، قال: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله عليكم".

 

تصور، لو أن لدى شخص سيارة بمائة ألف فإنه إذا نظر لمن يملك سيارة بأربعمائة ألف، فإنه حينها يكون محتقرا لهذه النعمة التي بين يديه فيرى أن هذه السيارة بهذا الثمن ليست بشيء، لأنه لم ينظر إلى من هو تحته ممن يملك سيارة بعشرة آلاف أو بخمسة آلاف، أو من لا يملك شيئا!.

 

تصور لو أن الإنسان في بيت ثمنه مليون فينظر إلى من هو أعلى منه ممن يسكن بيتا بعشرة ملايين فإنه يحقر نعمة السكن التي حرم منها كثير من الناس! "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله عليكم".

 

القناعة لا يمكن أن تصيبها إلا بغنى اثنين، كما قال ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين، قال -رحمه الله-: "لا يكمل غنى القلب إلا بغنى آخر وهو غنى النفس"، قيل ما غنى النفس؟ قال -رحمه الله-: "أن يقلل من حظوظها"؛ لأن الإنسان -وهذا شيء مشاهد- لو نظرنا إلى بعض الأثرياء الذين هم من أعظم الأثرياء على مستوى العالم ومن الدول العربية نجد أن هؤلاء يشقى بعضهم ليل نهار، صباح مساء، مع أنه لو وقف فإن ما لديه يكفيه ويكفي مائة من سلالته ممن يأتي بعده، ولكن الغنى غنى النفس. قال -رحمه الله- عن غنى النفس: "أن يقلل من حظوظها".

 

القناعة متى ما وفقت إليها فلتعلم أن الخير والإيمان قد امتلأ قلبك بهما، النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند البخاري من حديث عمرو بن تغلب -رضي الله عنه- أعطى بعض الناس عطايا وترك بعض الناس، فمن تركه -صلى الله عليه وسلم- عتب عليه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إني أعطي قوما لما أخاف من ضلعهم". يعني أخاف من أن يعوجوا عن الصراط المستقيم، أريد أن أؤلف قلوبهم حتى تثبت قلوبهم على الدين. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني أعطي قوما لما أخاف من ضلعهم وجزعهم، وإني أدع أقواما لما في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب"، قال عمرو -رضي الله عنه-: "ما أحب أن لي بكلمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حُمْر النعم". "وحمر النعم" هي الإبل الحمر النفيسة عند العرب.

 

القناعة إذا أردت أن تنالها فقل هذا الدعاء، ما هو هذا الدعاء؟ هو ما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- في مستدرك الحاكم: "اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه". إذا كانت نفسك شحيحة، أو إذا لم تطاوعك نفسك على أن تحجمها عن السعي وراء هذه الدنيا، فأكثر من هذا الدعاء...

 

مَلَكان في الصباح وملكان في المساء يقولان قولا، هذا القول يتعلق بالقناعة. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-: "ما طلعت شمس يوم قطّ إلا وملكان بجنبتيها يناديان ويسمعان أهل الأرض إلا الثقلين"، يعني الإنس والجن، ماذا يقولان؟ "أيها الناس، هلموا إلى ربكم، فإن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى، وما غربت شمس يوم إلا وبجنبتيها ملكان يقولان: اللهم عجّل لمنفق خلفا، وعجّل لممسكٍ تلفا".

 

القناعة هي صفة وسمة رسولك -صلى الله عليه وسلم-، بل كان يدعو -عليه الصلاة والسلام- بأن يكون رزقه ورزق أهل بيته كفافا، جاء في الصحيحين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا"، وفي رواية: "كفافا". والقوت يفسر بالكفاف، والكفاف يفسر بالقوت. يعني ما يقتات به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما تقوم به حياته في هذه الدنيا.

 

القناعة لكي نؤصلها في نفوسنا، ونعرف حالنا، ونعرف ما نحن فيه من هذه النعم الوافرة الكثيرة، إذا أردنا أن نؤصل ذلك تأصيلا ليس نظريا فحسب بل تطبيقيا، لنأخذ أمثلة مختصرة ويسيرة عن عيشه -صلى الله عليه وسلم-، لتنظر إلى حاله -صلى الله عليه وسلم- وإلى حالك وإلى حالنا!.

 

ماذا قالت عائشة -رضي الله عنها-؟ قالت لعروة بن الزبير -رضي الله عنه-: "يا عروة، يا ابن أختي، إنا آل محمد لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، ما يوقد في بيت آل محمد نار". لا إله إلا الله! جميع بيوته -صلى الله عليه وسلم- ما يوقد فيها نار، ثلاثة أهلة في شهرين! قال: يا أماه، ما طعامكم؟ قالت: "الأسودان: التمر والماء"، تمر  لا يرغب فيه هذا الجيل! ماء يقل شربه عند هذا الجيل!.

 

مثال آخر: عائشة -رضي الله عنها- كما في الصحيحين تقول: "ما أكل آل محمد في يوم أكلتين إلا وكانت إحداهما تمر". فالتمر عندهم وجبة أساسية، وليست ثلاث وجبات، وليست ثلاث وجبات يدخل فيها وجبات أخرى!.

 

مثال آخر: أنس -رضي الله عنه- كما عند البخاري يقف على خبازه وهو يخبز خبزا مرققا، فقال لأصحابه ممن هم حوله: "كلوا، والله ما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغيفاً مرققاً حتى لحق ربه"، ما أكله؟ لا، بل ما رآه -صلى الله عليه وسلم-!.

 

مثال آخر: تقول عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم: "ما شبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خبز وزيت في يوم مرتين"، يقدَّم الغداء والعشاء في بيوتنا، فأين أبناؤنا وبناتنا من هذا الطعام؟ لا يريدونه! مع أنه قد تُفنن في أنواعه، هذا من زيادة النعمة!.

 

مثال آخر: أنس -رضي الله عنه- كما عند البخاري يقول: "ما أكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خِوان"، بكسر الخاء، ويجوز ضمها (خُوان)، ويجوز النطق بـ (إخوان) كما قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح. قال أنس -رضي الله عنه-: "ما أكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خِوان حتى لحق بربه -عز وجل-". أتدرون ما هو الخوان؟ الطاولة. ما أكل النبي -صلى الله عليه وسلم- طعاما على شيء مرتفع عن الأرض، أكله على الأرض.

 

مثال آخر: عائشة -رضي الله عنها- تقول كما في صحيح مسلم: "ما شبع آل محمد من خبز الشعير"، خبز الدقيق؟ خبز البر؟ لا، الشعير، تعرفون ما هو الشعير؟! ويا ليته يشبع! ويا ليت أهله يشبعون! قالت -رضي الله عنها-: "ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض".

والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا تُرد إلى قليل تقنع

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: فيا عبد الله، [كيف كانت] القناعة عند أبي حازم -رحمه الله-؟ كتب إليه والٍ من الولاة "يا أبا حازم، ارفع لنا حوائجك"، فرد عليه أبو حازم قائلا: "لقد رفعت حوائجي إلى ربي، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك منها قنعت".

 

... سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- كان يطوف ذات يوم بالكعبة فإذا بخليفة من الخلفاء، فقال هذا الخليفة: يا سالم سلني، فقال سالم: إني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، فلما خرج سالم من المسجد الحرام، قال هذا الخليفة: يا سالم سلني. فقال سالم: أمن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال هذا الخليفة: من حوائج الدنيا، فإن حوائج الآخرة لا أملكها. فقال سالم -رضي الله عنه-: إذا لم أسأل حوائج الدنيا ممن يملكها، فكيف أسألها ممن لا يملكها؟.

 

محمد بن واسع كان يأتي بالخبزة اليابسة فيبلها بالماء، خبزة يابسة ليست لينة، يأتي بالخبزة اليابسة فيبلها بالماء فيقول لمن حوله: "مَن وجد هذا فقنع به لم يحتج إلى أحد أبدا".

 

قال بعض الحكماء: "وجدت أطول الناس همَّا الحسود، ووجدت أهنأهم عيشا القنوع، ووجدت أحزنهم حزنا الحريص على طمع، ووجدت أعظمهم ندامة العالم المفرط".

 

... الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو عالم من علماء اللغة، أنشأ علم العروض، توفي في القرن الثاني عام سبعين ومائة للهجرة، كتب إليه والٍ من أولياء الأهواز اسمه سليمان، فعرض عليه أن يؤدِّب أبناءه بأجرة عظيمة، فأخرج الخليل بن أحمد خبزا يابسا وقال لرسول هذا الوالي: متى ما وجدت هذا الخبز اليابس فلا حاجة لي في سليمان ولا في ملكه، ثم أنشد أبياتا من الشعر جميلة، إذ قال:

أبلغ سليمان أني عنه في سعة *** وفي غنى غير أني لست  ذا مالِ

شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً *** يموت هزلا ولا يبقى على حال

والفقر في النفس لا في المال نعرفه *** وقبل ذاك الغنى في النفس لا المال

 

قال بعض الشعراء:

إن القناعة من يحلل بساحها *** لم يلق في ظلها همَّا يؤرقه

 

وقال آخر:

فهل يُخْلِدن ابني هشام غناهما *** وما يجمعان من مئين ومن ألف؟

يقولان نستغني ووالله ما الغنى *** من المال إلا ما يعف وما يكفي

 

وينسب للشافعي -رحمه الله-:

رأيت القناعة أصل الغنى *** فصرت بأذيالها ممتسكْ

فلا ذا يراني على بابه *** ولا ذا  يراني به منهمك

فصرت غنيا بلا درهم *** أمر على الناس شبه الملك

 

ثمرة القناعة أن تنال محبة الله -عز وجل- ومحبة المخلوقين، في جملتين عظيمتين منه -صلى الله عليه وسلم-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس"، ولا يمكن أن تزهد في الدنيا، ولا يمكن أن تزهد فيما في أيدي الناس إلا إذا كنت قنوعا.

 

"القناعة كنز لا يفنى"، هذا حديث منسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في مسند الشهاب لأبي عبد الله محمد القضاعي المصري، عاش في القرن الخامس، توفي عام أربعة وخمسين وأربعمائة بعد الهجرة، ذكر هذا الحديث في مسنده، وهو حديث أنس، وهو قوله: "القناعة مال لا ينفد"، والمشهور: "القناعة كنز لا يفنى"، لكن هذا الحديث إسناده ضعيف جدا، لكنه من حيث المعنى صحيح...

 

 

المرفقات
القناعة في زماننا وفي زمن السلف.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life