عناصر الخطبة
1/أهمية القلب ومكانته بين أعضاء الجسد 2/العلاقة بين القلب والأعضاء 3/وجوب الحرص على طهارة القلب وسلامته 4/خطورة أمراض القلوب.اقتباس
وممّا يجعلُ مرضَ القلبِ أخطرُ من مرضِ البدنِ بكثيرٍ أنّ مرضَ القلبِ عذابُهُ بعدَ الموتِ دائمٌ لا ينقضي؛ بعكسِ مرض البدن الذي يُتخَلَّص منه بالموتِ، مما يجعلُ الاهتمامَ بأمراضِ القلوبِ أوجبُ والسعيُ في علاجِهَا أدْعَى. فعلى كلّ مسلمٍ أنْ ينتبهَ لقلبِهِ، وأنْ يعملَ على إصلاحِهِ، وسوقِهِ إلى فلاحِهِ ونجاحِهِ في الدّنيا والآخرة.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربّ العالمين؛ الرّحمنِ الرّحيمِ، مالكِ يومِ الدّينِ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عُدوانَ إِلّا على الظالمينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاِتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُؤمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر:18].
عبادَ الله: القلبُ ملكُ الجوارحِ وراعيها وقائدُها، والجوارحُ والحواسُ تبعٌ لهُ وآلاتٌ تصدعُ بأمرِهِ، وهي تحتَ سيطرتِهِ وقهرِهِ، ومنهُ تكتسبُ الاستقامةَ أو الزيغَ، يقولُ نبيُّنَا -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"(رواه البخاري ومسلم).
وهوَ أرقُّ أعضاءِ الجسمِ وأسرعُهَا تأثّرًا بِمَا يُحِيطُ بِهِ وَيَغْشَاهُ، وَمِنْ رِقّتِهِ أَنْ تُؤَثِّر فيه أدنى خاطرةٍ وأقلَّ هاجسٍ، وأثرُ القليلِ عليه كثيرٌ، فالآفاتُ إليه أسرع، وهو إلى الانفلاتِ أدنى، ومن الانقلابِ أقربُ، فإنّ قلبَ المرءِ وإنْ صَفَا زمنًا، وثَبتَ على الإيمانِ فترةً، واستلذّ بحلاوتهِ حينًا، فإنّه مُعَرَّض للانتكاسةِ، وهذه هي طبيعةُ القلبِ ومنها اشتُقَّ اسمُهُ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا سُمِّىَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ، إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ في أَصْلِ شَجَرَةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ"(رواه أحمد)، وإنّ القلبَ شديدُ التقلّب سريعُ التّحولِ، ويضربُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لذلك مثلاً فيقول: "لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَسْرَعُ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا"(رواه أحمد).
ولِشرفِ القلبِ جعلهُ اللهُ أداةَ التعرُّفِ عليه ووسيلةَ الاهتداءِ إليه، بلْ إذا غَضِبَ اللهُ على عبدٍ كانَ أقصى عقوبةٍ يُنزلها به أنْ يحولَ بينهُ وبينَ قلبِهِ، كمَا قالَ -جلّ وعلاَ-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[الأنفال:24]، وحيلولتُهُ هي أن يحرمَهُ من معرفتِهِ وقربِهِ.
يقولُ ابنُ القيّمِ -رحمهُ اللهُ-: "والقلبُ السّليمُ هو الذى سَلِمَ مِنَ الشّرْكِ والغِلِّ والْحِقْدِ والحَسَدِ والشحّ والكِبر وحبّ الدنيا والرّياسةِ، فَسَلِمَ مِنْ كلّ آفةٍ تُبعدُهُ مِنَ الله، وَسَلِم من كل شبهةٍ تُعارضُ خبرَه، ومِنْ كلّ شهوةٍ تُعارضُ أمْرَهُ، وسَلِمَ مِنْ كُلّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَهُ، وَسَلِمَ مِنْ كلّ قاطعٍ يقطعُهُ عنِ الله؛ فهذا القلبُ السّليمُ في جنّةٍ معجلةٍ في الدنيا، وفي جنةٍ في البرزخِ، وفى جنةٍ يومَ المعادِ، ولا يتمُّ لهُ سلامتُهُ مطلقًا حتى يسلمَ منْ خمسةِ أشياءَ: منْ شركٍ يُناقضُ التوحيد، وبدعةٍ تُخالفُ السُّنَّة، وشهوةٍ تُخَالِفُ الأَمْرَ، وغفلةٍ تُنَاقِضُ الذّكْرَ، وهوى يُنَاقِضُ التّجْريد والاخلاص، وهذه الخمسةُ حُجُبٌ عن اللهِ".
عبادَ الله: وبينَ القلبِ والأعضاءِ صلةٌ عجيبةٌ وتوافقٌ غريبٌ بحيثُ تسري مخالفةُ كلٍّ منهما فورًا إلى الآخرِ، فإذا زاغَ البصرُ، أو كذبَ اللسانُ أو طغى البنانُ فلأنه مأمورٌ، وإذَا سعت الأقدامُ إلى الآثَامِ، وامتدت اليدُ إلى الحرامِ فلكونِهِ عبدًا مقهورًا. فالقلبُ إذا ضَعُفَ أو فَسَدَ انساقتْ الجوارحُ وراءَهُ وانهارَتْ قُوَاهَا.
وعكسُ ذلكَ أنّ القلبَ إذا كانَ حيًّا بالإيمانِ، ممتلئًا بحبِّ الرّحمن، متوكلاً على الملكِ الدّيّان، كانتْ جوارحُهُ تِبْعاً لهُ في ذلك، فتلذّذَتْ بالذّكْرِ، وتمتّعَتْ بالعبادةِ، وفَرِحَتْ بالبذْلِ والإحْسِانِ. فجميعُ الأفعالِ مردّها إلى القلبِ وانبعاثُها من القلبِ.
وطهارةُ القلبِ شرطٌ لدخولِ الجنّةِ، فلا يدخُلُها أحدٌ إلا بعدَ كمالِ طيبهِ وطُهرِهِ؛ لأنها دارُ الطّيبين، ولذا يُقال لهمْ وهمْ على مشارفِ الجنة: (طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزمر: 73].
عبادَ اللهِ: وقد أدركَ الشّيْطَانُ دورَ القلبِ ومكانتِهِ فجلسَ لهُ بالمرصادِ، وتسلّطَ عليهِ بجميعِ الوساوسِ وأنواع الشّبُهَاتِ والشّهَوَاتِ، يقولُ ابنُ القيِّمِ -رحمهُ اللهُ-: "ولمّا عَلِمَ عدوُّ اللهُ إبليسُ أنّ المدارَ على القلبِ والاعتمادَ عليه؛ أَجْلَبَ عليهِ بالوساوِسِ، وأقبلَ بوجوهِ الشّهَوَاتِ إليه، وزيَّن لهُ من الأقوالِ والأعمالِ ما يَصُدّه عن الطريقِ، وأمدَّه مِنَ أسبابِ الغيّ بما يقطعُهُ عن أسبابِ التوفيقِ، ونَصَبَ له من المصايِدِ والحبائِلِ مَا إنْ سَلِمَ من الوقوعِ فيها لَمْ يَسْلَمْ منْ أنْ يحصُلَ لَهُ بِهَا التّعويق".
فالقلبُ هدفٌ مشترَكٌ بين المَلِكِ والشّيطان، وكلاهما يستهدفُهُ، فإمّا أنْ تكونَ هدايةُ القلبِ وحياتُهُ، وإما قساوته وموته وهلاكه، فواعجبًا ممن أخذ نصيحة العدو اللدود، وردّ وصية الحبيب الودود.
أيها المؤمنون: لقد ذمَّ اللهُ -جلّ وعلَا- أصحابَ القلوبِ الخبيثةِ التي امتلأتْ كفرًا وشركًا وحسدًا وبغيًا واستكبارًا وإعراضًا عن الحق، وانشغلوا بالدنيا عن الآخرةِ، فقال فيهم: (أُولِئك الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدُّنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيْمٌ)[المائدة : 41].
فإذا لم يطهِّر العبدُ قلبَهُ من أيّ خُبْثٍ فلا بدّ أنْ ينالَه خزيُ الدنيا وعذابُ الآخرةِ، ولهذا قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر"(رواه مسلم) .
وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: "فَالجَنّةُ لَا يَدْخلُهَا خَبِيثٌ، وَلَا مَنْ فيهِ شيء من الخُبْثِ، فمن تَطَهَّرَ في الدُّنْيَا ولَقِيَ اللهَ طاهراً مِنْ نَجَاسَاتِهِ دَخَلَهَا بغيرِ معوِّق، ومنْ لمْ يتطهّر في الدنيا؛ فإنْ كانت نجاستُهُ عينِيّةً كالكَافِرِ لمْ يدخلْهَا بحالٍ، وإنْ كانتْ نجاستُه كسبيّةً عارضةً دخَلَهَا بعد ما يتَطهّرْ في النارِ منْ تلكَ النَّجَاسَةِ ، ثُمّ يَخرجُ منها حتّى إنْ أهلَ الإيمانِ إذا جازوا الصّراطَ حُبِسُوا على قنطرةٍ بين الجنةِ والنّارِ، فيهَذَّبون وينقَّونَ منْ بَقَايَا بقيتْ عليهمْ قَصّرَتْ بهم عن الجنةِ، ولم تُوجِبْ لهمْ دخولَ النّار، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا أُذِنَ لهمْ في دخولِ الجَنّةِ".
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب)[الأنفال:24-25].
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم، ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أُمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنّهُ إِذَا وافَقَ الظّاهِرُ الباطنَ كانَ ما في القلبِ حقيقيًّا، وإذا خالفَ الظّاهِرُ البَاطنَ كان مَا فِي القلبِ مزيفًا، وعلى القلبِ أيضًا يتوقّفُ صحّةُ الظّاهِرِ أي قبولُهُ عندَ اللهَ، أمّا النّاس فإنهم مُكلَّفون بقبولِ الظّاهر فَحَسْب والحُكْمُ على أساسِهِ واللهُ يتولّى السّرَائِرَ، ومن هنا كان مقصِدُ الشّهَادَتَيْنِ هو توجيهُ رسالةٍ ملموسةٍ إلى النّاسِ بإسلامِ النّاطِقِ بِهَا، في حينِ أنّ اللهَ وحدهُ هو المطّلِعُ على غيرِ الملموسِ من محتوى الباطن، وقدْ نَطَقَتْ ألسنةُ المنَافِقِينَ بالشّهَادتينِ، فعَصَمَتْ دِمَاءَهُمْ في الدُّنْيِا، لكنْ مستقرَّهُمْ فِي النّهَايَةِ هُوَ الدّرْكُ الأسفلُ من النَّارِ بما حَوَتْ قُلُوبُهم.
واسمعوا إلى معنى ارتباطِ الظّاهِرِ بالباطِنِ كما في قوله -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي)[آل عمران:31]؛ فإنّ حبّ اللهِ في القلبِ يُورِثُ اتّبَاعَ الجوارح ولا بُدّ؛ وإلّا كانَ ذلكَ ادّعاءً وكذبًا وزورًا.
عبادَ اللهِ: إنّ حالَ العبدِ في القبرِ كحالِ القلبِ في الصّدر نعيمًا وعذابًا وسجنًا وانطلاقًا. يقولُ ابنُ القيِّمِ -رحمهُ اللهُ-: "وقدْ يمرَضُ القَلبُ ويشْتَدُّ مَرَضُهُ ولا يَعْرِفُ بِهِ صاحبُهُ لاشتِغَالِهِ وانصرافِهِ عن معرفةِ صِحّتِهِ وأسبابها، بلْ قدْ يموتُ وصاحبُهُ لا يشعرُ بموتِهِ، وعلامةُ ذلكَ أنّهُ لَا تُؤْلِمُهُ جراحاتُ القبائِحِ ولا يوجعُهُ جهلهُ بالحقِّ، فإنّ القلبَ إذا كانَ فيهِ حياةً تألّمَ بورودِ القبيحِ عليهِ، وتألّمَ بجهلِهِ بالحقِّ بحسبِ حياتِهِ، ومَا لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ".
وممّا يجعلُ مرضَ القلبِ أخطرُ من مرضِ البدنِ بكثيرٍ أنّ مرضَ القلبِ عذابُهُ بعدَ الموتِ دائمٌ لا ينقضي؛ بعكسِ مرض البدن الذي يُتخَلَّص منه بالموتِ، مما يجعلُ الاهتمامَ بأمراضِ القلوبِ أوجبُ والسعيُ في علاجِهَا أدْعَى.
فعلى كلّ مسلمٍ أنْ ينتبهَ لقلبِهِ، وأنْ يعملَ على إصلاحِهِ، وسوقِهِ إلى فلاحِهِ ونجاحِهِ في الدّنيا والآخرة.
وسوفَ يكونُ لنا تكملةٌ لهذه الخطبةِ -إن شاءَ اللهُ تعالى- في جمعةٍ أخرى -بحولِ اللهِ وقوّتِهِ- أعرضُ لكمْ فيها بعضَ الأمراضِ التي تصيبُ القلبَ وسبُلَ علاجِهَا.
أسألُ اللهَ -جلّ وعلَا- أنْ يُطَهّرَ قلوبَنَا، وأنْ يرزقَنَا وإيّاكم قلباً سليماً.
هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم الله بذلك فقال -جل من قائل عليماً-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].
التعليقات