القرآن يا أمة القرآن

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/القرآن المعجزة الخالدة 2/مكانة القرآن 3/فضل قراءة القرآن وفضل قرائه والعاملين به 4/خطر هجران القرآن وذكر بعض من مظاهره 5/منفعة القرآن وأثره

اقتباس

أما نبيُّنا وسيدُنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّه لم يُبعث إلى قومهِ خاصة، وإنما بُعِثَ للناسِ عامةً؛ فبُعثَ إلى من يَهتمونَ بالطِّبِّ فكانَ له من المعجزات ما يَتَعَّلُق بذلك، بُعِثَ إلى من يَهتمونَ بالفَلَكِ فجعلَ له من المعجزاتِ ما يُقيمُ الحُّجَّةَ عليهم بذلك، بُعِثَ إلى من يَهتمُّونَ بالأمورِ اللُّغَوِيةِ والإعجازِ وغيرِ ذلك، فجعلَ اللهُ...

الخطبة الأولى:

 

إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ -تعالى- من شُرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له -جَلَّ عن الشبيهِ والمثيلِ والكُفْءِ والنظير-، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه وصَفيُّهُ وخليلُهُ وخيرتُهُ من خَلقِهِ وأمينُهُ على وحيِه، أرسلَهُ ربُّنا رحمةً للعالمين، وحُجَّةً على العبادِ أجمعين؛ فهدى اللهُ بهِ من الضلالَةِ، وبَصَّرَ بهِ من الجهالَة، وكَثَّرَ بهِ بعدَ القِلَّةِ وأغنى بهِ بعدَ العَيلَةِ، ولـَمَّ بهِ بعدَ الشتات؛ فصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ وعلى آلِهِ الطيبينَ وأصحابِهِ الغُرِّ الميامين ما اتصلَتْ عينٌ بنَظَر، وَوَعَتْ أذُنٌ بخبَر، وسلَّمَ تَسليماً كثيرا.

 

أما بعد:

 

أيُّها الإخوةُ الكِرام: بَعَثَ اللهُ -تعالى- رُسُلَهُ إلى الناسِ مُبَشِّرينَ ومُنذِرين، وجعلَ معَهم من الآياتِ البيِّنات، والمعجِزاتِ الظاهراتِ ما يُقيمُ بهِ الـحُجَّةَ على البشر، وجعلَ الله -تعالى- لكلِّ نَبيٍّ من المعجزات، والآيات الظاهرات ما يكونُ مُتوافِقًا معَ أحوالِ قَومِهِ؛ لتقومَ الحجةُ عليهم، فبعثَ اللهُ موسى -عليهِ السلامُ- في عَصرٍ انتَشَرَ فيهِ خوارِقُ العادات والسِّحر، فجعلَ اللهُ -تعالى- لهُ من الآياتِ ما هو في ظاهِرِهِ ينافِسُ ما يفعلُهُ قومُهُ؛ فكانَ يُلقي العصا فإذا هيَ حيةٌ تَسعى، ويُخرجُ يدَهُ فإذا هي بيضاءُ للناظرين، فبهرَ بذلكَ كُلَّ ساحر، وأذلَّ كلَّ فاجر..

وأما عيسى -عليه السلام- فبعثهُ اللهُ -تعالى- في عصرٍ انتشرَ فيهِ الطِّبُّ وأنواعُ العلاجِ، فجعلَ له من المعجزات ما هو في ظاهرهِ يُنافسُ ما يفعلهُ قومُه؛ فكانَ يُبرِئُ الأَكْمَهَ والأبرَصَ ويُحيِ الموتى -بإذنِ الله-، فبهرَ بذلكَ كلَّ طبيبٍ، وحَيَّرَ كلَّ لبيب..

 

أما نبيُّنا وسيدُنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّه لم يُبعث إلى قومهِ خاصة، وإنما بُعِثَ للناسِ عامةً؛ فبُعثَ إلى من يَهتمونَ بالطِّبِّ فكانَ له من المعجزات ما يَتَعَّلُق بذلك، بُعِثَ إلى من يَهتمونَ بالفَلَكِ فجعلَ له من المعجزاتِ ما يُقيمُ الحُّجَّةَ عليهم بذلك، بُعِثَ إلى من يَهتمُّونَ بالأمورِ اللُّغَوِيةِ والإعجازِ وغيرِ ذلك، فجعلَ اللهُ -تعالى- له من المعجزاتِ ما يُقيمُ به الحجةَ على هؤلاء جميعاً..

 

أما المعجزةُ العظيمةُ التي آتاها اللهُ -تعالى- لنبيِّنا -عليه الصلاة والسلام- التي تَبقى إلى قيامِ الساعةِ التي بَهَرَ الله -تعالى- بها الأولينَ والآخِرين وأعجزت البُلَغاءَ، وحَيَّرَتْ الشُّعَراء، وأذلَّتْ كثيراً من الحُكَماءِ، والتي لا تزالُ إلى اليومِ لها أثَرُها على من يَفهَمونَ العربيةَ ومن لا يَفهمونَها، تلكَ المعجزةُ هي التي قالَ اللهُ -جَلَّ وعلا- عنها: (وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ)[العنكبوت:50]، ثم قالَ جلَّ وعلا: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[العنكبوت:51].

 

أما يَكفيهم القرآنُ ليكونَ حُجَّةً، وتَصديقاً ومُعجزةً وبَيِّنَةً تُبَيِّنُ أنَّكَ نبيٌّ مبعوثٌ من رَبٍّ -جَلَّ وعلا- في السَّماءِ، ولِذلَكَ جعلَ اللهُ -تعالى- هذا القُرآنَ مُعجِزَةً ظاهرةً تَبقى للناسِ جميعاً وتُتلى بَينَهم..

 

أيُّها الأحبَّةُ الكرام: لقد وصفَ الله -تعالى- كتابَهُ العظيمَ أنَّه نورٌ؛ فقال سبحانه وتعالى: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)[الشورى:52].

 

وبيّن أنَّ من أعرضَ عن القرآن فإنَّ لهُ مَعيشةً ضَنكاً، فقال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه:124-125]. قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنه-: "ذِكْرُ اللهِ -تعالى- هنا هو القرآنُ تَكَفَّلَ اللهُ -تعالى- لمن أخذَ بالقرآنِ ألّا يَضِلَّ في الدنيا ولا يَشقى في الآخِرَة، ثم قرأ: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)[طه:123]".

 

ولقد جعلَ الله -تعالى- كتابَهُ رِفْعَةً لمن أخذَ بهِ؛ فقالَ الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)[الزخرف:44] هذا القرآنُ ذِكْرٌ يعني رِفعَةٌ وعِزٌّ شامِخٌ لك ولقومِك، (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) سوف تُسألونَ عن القرآنِ هل فَهِمتُموهُ هل تَلَوتُموه؟! هل طَبَّقتُموه، هل حَكَّمتُموه، هل تَدَبَّرتُم في آياتهِ ودلائِلِه.

 

أيُّها المسلمون: أمرَ اللهُ نبيَّنا -عليه الصلاة والسلام- أن يُجاهِدَ بهذا القُرآنِ؛ فقال جلَّ وعلا: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً)[الفرقان:52]؛ أي: اتلُ القرآنَ وأقِمْ الحجَّةَ عليهم.

 

وقد تَكَفَّلَ اللهُ -جلَّ وعلا- بأنَّ مَنْ يَحفظْ القرآنَ أنَّ اللهَ يُعِزُّهُ ويَرفعُه؛ فقال سبحانه وتعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)[العنكبوت:49]؛ فجعل الله -تعالى- الذي يحفظُ القرآنَ في مكانةٍ عالية ومنزلةٍ عظيمة، جعله من الذين أوتوا العِلْمَ وإنْ كانَ ليسَ ذا نَسَبٍ يَرفَعُهُ ولا ذا مالٍ يَكَثِّرُه، ومهما كانَ له من أسباب الضِّعَةِ بينَ الناسِ وعدمِ الالتِفاتِ إليهِ فإنهُ إذا وَعى القرآنَ في قلبهِ رَفَعَهُ اللهُ -جلَّ وعلا- وعَزَّهُ.

 

وجعلَ الله -تعالى- لهذا القرآنِ من المهابَةِ ومن الخشوعِ والخضوعِ مالم يَجعَلْهُ لغيرهِ من الكلام؛ فإنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ -جلَّ وعلا- أنزَلَهُ على نبيِّنا -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم-، قال -تعالى-: (لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الحشر:12].

 

أيها المسلمون: لقد بيَّنَ صلى الله عليه وسلم فضلَ قراءَةِ القرآنِ فقال: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ"(رواه الترمذي وصححه الألباني)، وقال عليه الصلاةُ والسلام مادِحاً من يقرأُ القرآنَ: "مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ"؛ كأنَّهُ في صفوفِ الملائِكَةِ يتلو مع السفَرَةِ الكرامِ البَرَرَة، "وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ"(متفقٌ عليه)؛ أي لهُ أجران: أجرُ التِّلاوَةِ وأجرُ المشقَّةِ فهو يُؤجَرُ من الناحِيَتين.

 

وقد مَدَحَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قُرَّاءَ القرآنِ وأثنى عليهم؛ فقد جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه جلسَ يوماً إلى أُبَيِّ بنِ كعبٍ -وكانَ أبيٌّ -رضي الله عنه- قارِئاً للقرآن بارِعاً في تِلاوَتِهِ صارِفاً فيهِ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار-، فجلسَ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- إلى أبيٍّ ثم قال له: "إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا" فانْتَفَضَ أبيٌّ قال: يا رسولَ اللهِ وسَمَّاني اللهُ لك؟ -يعني هل قالَ اللهُ اقرَأْ على أحدِ أصحابِكَ فأنتَ اختَرتَني أم أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- في مُلْكِهِ العظيمِ وفي عُلاهُ وفي جَبروتِهِ سَمَّاني لك، اختارَني من كلِّ المخلوقاتِ ليَجريَ اسمي هناك ولِيَتَكَلَّمَ اللهُ باسمي؟- قال: يا رسولَ اللهِ، وسماني اللهُ لكَ؟ قال: "نعم"، فانفجرَ أبيُّ باكِياً(متفقٌ عليه).

 

لم يُذكَرْ أنَّ أبَيًّا في حفظهِ قد بلغَ الغايةَ في حفظِ الحديثِ؛ كما بلغَها أبو هريرة، ولا كان يكتبُ الحديثَ؛ كما كان يكتبُ عبدُ الله بن عمرو بن العاص، ولا كان يتقدمُ صفوف الجهادِ مُقاتِلاً قائداً؛ كما كان يفعلُ خالد، ولا كان يُنفقُ المالَ؛ كما كان يفعلُ عثمان، ولا كان ذا رأيٍ سديدٍ ملازماً للرسولِ -صلى الله عليه وسلم-؛ كأبي بكرٍ وعمر، ولا كان ذا سيفٍ صليتٍ على المشركينَ؛ كعليٍّ -رضي الله عنه-، ولا كان ملازماً يخدِمُ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام-؛ مثل أنسٍ.. ومع ذلك استحقَّ أبيٌّ بإكرامهِ للقرآن أن يُكرمَ هناك..

 

استحقَّ تلك المنزلة لما صرفَ الوقت يتلو كتابَ الله ويتدبَّرُهُ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ.. استحقَّ أن يَذكُرَ اللهُ في السماءِ اسـمَه، وأن يقولَ لنبينا -عليه الصلاة والسلام- اقرأْ على أبيِّ بنِ كعبٍ سورةَ البينة.

 

انظر كيف يرفعُ اللهُ -تعالى- أهلَ القرآن! كيف يُعِزُّ اللهُ -تعالى- شأنَهم! كيف يستمعُ اللهُ -تعالى- إلى قِراءَتِهم يقولُ نبيُّنا -عليه الصلاة والسلام-: "لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ، مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ"(رواه أحمد وابن ماجه).

 

فالله -جل وعلا- يستمعُ إلى من يقرأُ القرآنَ، إلى من يُرتلُه لذلكَ قال -صلى الله عليه وسلم-: "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ"(رواه أحمد والنسائي)، وقال عليه الصلاة والسلام: "حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا"(رواه الدارمي)؛ فالصوتُ يزينُ بالقرآن، والقرآن يزينُ ويصبحُ أكثرَ تأثيراً بالصوتِ الحسن.

 

أيُّها الإخوةُ الكرام: خرجَ عليه الصلاة والسلام يوماً من بيتهِ، ثم صَحِبهُ أبو بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما-، فوصلَ صلى الله عليه وسلم إلى المسجدِ، فلما أراد أن يدخلَ إلى مسجدِهِ -وله عليه الصلاة والسلام أبوابٌ من بيتهِ إلى المسجد لكنهُ لم يَشأْ أن يدخلَ على المسجدِ مباشرةً، أرادَ أن يدخلَ من البابِ الذي يدخلُ منه الناس- فلما أراد أن يدخل وإذا قارئٌ يقرأُ القرآنَ في المسجد -وكان مسجدُ سيدِنا رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- بعضُهُ مسقوفٌ، وبعضهُ غير مسقوفٍ، فكانَ من جلسَ في غيرِ المسقوفِ ووقفَ رجلٌ وراءَ الجدارِ استطاعَ أن يسمعَ ما يقولُ، فليس بينهما إلا جدارٌ قصير- فلما مرَّ صلى الله عليه وسلم عندَ هذا الجدار وإذا عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- يقرأُ القرآن، فوقفَ عليه الصلاة والسلام، وجعل يستمعُ إلى قراءتهِ، فأعجبهُ إتقانُهُ وحسنُ صوتِهِ، فقال عليه الصلاة والسلام مكلَّماً صاحبيه: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"(رواه أحمد).

 

وجعلَ يستمعُ إليهِ، ثم انتهى الصحابي من تلاوةِ القرآن في ظلمةِ الليل لا يعلمُ من وراءَ الجدار، ورفعَ يديهِ يُناجي ربَّه ياربِّ يارب يارب، ونبينا -عليه الصلاة والسلام- وراءَ الجدار يقول: "اسْأَلْ تُعْطَهْ، اسْأَلْ تُعْطَهْ"؛ يعني ادعوا أكثر فإنَّ اللهَ يسمعكَ الآن ويستجيب، وجعل صلى الله عليه وسلم يكرر ذلك، والصحابي من داخلِ المسجدِ لا يدري عنه لكنه يناجي ربَّه، فبعد أن قرأ وسمع كلام الله سمع الله -تعالى- كلامه وأجاب دعاءه.

 

وكان عليه الصلاةُ والسلام يُثني على قُراءِ القرآن، فقد جلس عليه الصلاة والسلام يوماً مع أصحابه وهم راجعون من غزوةٍ من الغزوات؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بِالقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالقُرْآنِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ" قالوا: يا رسول الله كيف تعرف؟ قال: "مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالقُرْآنِ بِاللَّيْلِ" منهم المصلي، ومنهم التالي، يقولُ: من حسن أصواتهم بالقرآن(متفقٌ عليه).

 

وقد كان الصحابةُ يتنافسُون في تلاوتِه، وفي حفظهِ وفي العملِ به، وقد بيَّنَ الله -جلَّ وعلا- عظمةَ كتابِنا، حيث جعل الله -تعالى- فيهِ من العبرِ والعظاتِ والبيانِ مثلَ ما في الكتب السماوية السابقة كلها؛ فقال الله -تعالى- عن قرآنِهِ الذي أنزله علينا: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[المائدة:48]؛ أي مصدقا لما سبقَه من الكتب، ومهيمنا جامِعاً كُلَّ ما فيه من العِبَرِ والفوائِدِ قُدِّمَت إلينا.

 

أيها المسلمون: لقد أمرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالعِنايَةِ بهذا القرآنِ وحَذَّرَ من هُجرانِه؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "تَعَلَّمُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَتَعَاهَدُوهُ وَتَغَنُّوا بِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْمَخَاضِ فِي الْعُقُلِ" (تَفَلُّتاً) يعني أشدُّ ضياعاً من الصدرِ ونسياناً له، فإذا لم تَعتَنِ بهِ وتَلتَفِتْ إليهِ وتُجالِسْهُ وتَقرَأهُ وتُكرِمْهُ بكثرَةِ تلاوَتِهِ وتَدَبُّرِه ومُجالَسَتِهِ لهوَ أشدُّ تفلُّتاً من الإبلِ في عُقُلِها..

 

وبيَّنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ في آخرِ الزمان إذا هجرَ الناسُ القرآنَ رُفِعَ القرآن ُعنهم قال الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ابتداءً ولنا تبعا: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[الفرقان:30] اتخذوه مهجوراً، بدأ يمرُّ على أحدِهم اليومُ واليومان وربَّما جلس على الإنترنت ساعاتٍ، أو ربما جلس يقرأُ الجرائدَ، أو ربما جلس يتابعُ التلفاز، أو ربما جلس يتحدثُ مع أصحابه ساعات، أما القرآن فليس له حظٌّ من يومه.

 

وكلنا -والله- ذلك الرجلُ يمضي عليهِ اليومُ واليومان والثلاثة، وربما كان الجهازُ الذي في يدهِ فيه المصحفُ مخزنٌ، ومع ذلك يمرُّ بأصبعه على موضعهِ؛ فلا يفتحه لكنه يفتحُ غيرَه هذا من هُجران القرآن، أن يمرَّ عليه اليوم واليومان والثلاثة ولا يقرأ (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا).

 

ومن هجران القرآن: عدمُ معرفةِ معانيهِ يقرؤهُ الإنسان، وكأنهُ ألفاظٌ أعجميةٌ لا يدري ما هي.

 

ومن هجران القرآن: عدمُ التحاكُمِ إليه، والله -تعالى- يقول: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:50].

 

ومن هجران القرآن: عدمُ العملِ بأوامرهِ؛ فيقرأُ قولَ الله -تعالى-: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)[البقرة:83] ثم يتكلمُ بأقبحِ الكلام، ويقرأُ قول الله -تعالى-: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)[الحجرات:12] ثم يغتابُ الناس، (وَأَنْفِقُوا) فلا يُنفِقْ في سبيلِ الله، (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[البقرة:195] فيُلقي بيدِهِ إلى التهلُكَةِ ويَتعاطى ما يُهلكُهُ من دُخانٍ ومسكراتٍ ومخدراتٍ وغير ذلك، هذا من هجران القرآن..

 

أيُّها الأحبَّةُ الكرام: ومن هجران القرآن: عدمُ الاستشفاءِ به يقول الله -جل وعلا-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء:82]، ويقول جل وعلا: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فصلت:44]، وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يرقي بالقرآن، ورقى أبو سعيد الخدري كما في الصحيحين رجلاً أصيبَ بِلَدغَةٍ بسورةِ الفاتحةِ، فجعلَ ينفُثُ عليه فَبَرِئَ وقامَ ليسَ بهِ بأس، وقد جُرِّبَ مِراراً إلى اليوم الرقيةُ بالقرآن على أمراضٍ بعضُها قد عجزَ الطبُّ عن علاجِها، فثبتَ لدى الأطباءِ -سواءً المسلمينَ أو غيرَ المسلمين- أنَّ المريضَ تَحسَّنَ حالُهُ وربَّما شُفِيَ.

 

فإذا أُصِبْتَ بمرضٍ أو أصيبَ من تُحِبُّ بمرضٍ فارقِهِ بالقرآن فإنَّ هذا من النفعِ وهو من الاستشفاءِ بالقرآن، وتَركُهُ نوعٌ من هُجرانِه..

 

ومن الاستِشفاءُ بالقرآن: طلب الشفاءُ من الأمراض القلبية؛ فإذا وجدتَ في قلبِكَ قسوةً فعليك بالقرآن؛ فإنه يُليِّنهُ ويذهب عنه القسوة والغِّل والحسد.

 

أسألُ اللهَ -جلَّ وعلا- أن يجعلَنا من أهلِ القرآن، أسألُ اللهَ -جلَّ وعلا- أن يجعلَنا من أهلِ القرآن، أسألُ اللهَ العليَّ العظيمَ أن يجعلَنا جميعاً من أهلِ القرآنِ الذينَ هم أهلُ اللهِ وخاصَّتُهُ، وأسألُ اللهَ أن يَنفَعَنا بالقرآنِ، وأن يجعلَ القرآنَ قائِداً لنا إلى رِضوانِه والجنة، وأن يجعلَنا ممن يَرفَعُهم اللهُ، أسألُ اللهَ -تعالى- أن ينفعَنا بالقرآن وأن يجعلَ القرآن لنا عِزَّاً في الدنيا وعزاً في الآخرةِ يا ربَّ العالمين، اللهم اجعلِ القرآنَ مَحفوظاً في صُدورِنا، واجعلْهُ يا ربِّ مَقروءًا في بُيوتِنا، وحَفِّظْهُ يا ربِّ لصِبيانِنا وبناتِنا وأهلينا يا ذا الجلال والإكرام.

 

أقولُ ما تَسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الجليلَ العظيمَ لي ولكم من كُلِّ ذَنْبٍ فاستغفروهُ وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على إحسانِهِ والشكرُ لهُ على تَوفيقهِ وامتِنانِهِ وأشهدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ تَعظيماً لشأنه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الداعي إلى رِضوانِهِ صلى الله وسلم وبارَكَ عليه وعلى آلهِ وإخوانِهِ وخِلَّانِه، ومن سارَ على نـَهجِهِ واقتَفى أثَرَهُ واسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ إلى يومِ الدين.

 

أما بعد:

 

أيُّها الأحبَّةُ الكرام: القرآن ينفعك ويرفعُك يومَ القيامةِ، قال عليه الصلاة والسلام: "تأتي البقرةَ وآلَ عمرانَ كأنَّهما غمامتانِ أو غيايتانِ أو فَرقانِ من طيرٍ صوافَّ تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة"(رواه مسلم)؛ فإذا قيل له: فعلتَ.. وفعلت..، أخذت البقرةُ وآلُ عمرانَ تُحاجُّ عنهُ وتُدافعُ عنكَ إذا كنتَ تقرأهُما.

 

ويقالُ لقارِئِ القرآنِ يومَ القيامة: "اقرأْ وارقَ ورتِّلْ كما كنتَ ترتلُ في الدنيا؛ فإنَّ منزلتَك عندَ آخرِ آيةٍ تقرأُ بها"(رواه أحمد وأبو داود).

 

فاحرِصْ على أن يكونَ لكَ مَجلِساً يومياً مع القرآن إن كانَ معكَ جهاز، اجعَلِ القرآنَ فيهِ، وأيَّ لحظةٍ تجدُ وقتاً تستطيع أن تقرأَ القرآن فافتَحْ مُباشرةً، واقرأْ ما تيسر لك.. صفحة، أو صفحتين..، وستجد أنك قد أكملت وأنجزت كثيرا منه..

 

واحرِصْ على أن تُعالِجَ قلبَك بكثرة قراءة القرآن وتدبره، وسَتَجِدُ أثَرَ ذلكَ عليكَ في صلاتِكَ في رِزْقِكَ في حياتِكَ في تَعامُلِ أهلِكَ مَعَكَ..

 

اللهمَّ إنَّا نسألُكَ فِعْلَ الخيراتِ وتَركَ المنكراتِ وحُبَّ المساكينِ، وإذا أردتَ بعبادِكَ فِتنةً فاقبِضنا إليكَ غيرَ خزايا ولا مَفتونين.

 

اللهمَّ إنا نسألُكَ من الخيرِ كلِّهِ عاجلهِ وآجله ما علمنا منهُ وما لم نعلَم، ونعوذُ بك ربَّنا من الشرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه ما علمنا منه وما لم نعلَم.

 

اللهم إنا نسألكَ عيشَ السُّعَداء وموتَ الشهداء والحشرَ مع الأتقياء ومُرافَقَة الأنبياء.

 

اللهم إنا نعوذُ بكَ ربَّنا من جهدِ البلاء، ودَرَكِ الشقاء، وسوءِ القضاء، وشماتَةِ الأعداء.

 

اللهمَّ إنا نعوذُ بكَ من زوالِ نعمتِك، وفُجاءَةِ نِقمَتِك، وتَـحَوُّلِ عافِيَتك، وجميعِ سخطك.

 

اللهم اغفِرْ لنا ولآبائِنا وأمهاتِنا، اللهمَّ من كانَ منهم حيًّا فمتِّعْهُ بالصحةِ على طاعتِك، واختِم لنا وله بخير، ومن كان منهم ميِّتًا فوَسِّعْ له في قَبرِه، وضاعِفْ له حسناتِه، وتجاوَزْ عن سيئاتِه، واجمَعنا به في جنَّتِك يا ربَّ العالمين.

 

اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ؛ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمد؛ كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، إنَّكَ حميدٌ مجيد.

 

(سُبحانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عمَّا يَصِفون * وسلامٌ على المرسلين * والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين)[الصَّافَّاتِ:180-182].

المرفقات
القرآن-يا-أمة-القرآن.doc
التعليقات
زائر
08-02-2021

ممتاز

زائر
12-09-2021

شكرااااااا جراك الله خير🤲🏻🤍

زائر
27-03-2022

ماشاء الله

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life