القدس خافضة رافعة!

أحمد بن عبد المحسن العساف

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ولاتزال الأمّة بخير وستظلّ منجبة مهما كثر الخبث وازداد الخور، وثمتّ مواقف منيفة محفوظة لدول وأشخاص تشهد أنّ البلاء لم يطبِق علينا، فلبعض الحكومات مناورات لأجل فلسطين والقدس، ومساومات تعطي فيها وتأخذ...

القدس مدينة تاريخيّة لها مكانة دينيّة عالية، وهي حاضرة في الوجدان الصّهيوني بقسميه التّوراتي والإنجيلي، وفي التّعابير الدّينيّة التي تجري ليس على ألسنة الكهنة فقط بل في خطابات الزّعماء وليس أيّ زعماء بل ساكني البيت الأبيض، والمتسابقين إلى دخوله، وتعدّ إسرائيل بأمنها ومصالحها حجر زاوية في أساطير أمريكا، وفي مسلك أيّ رئيس أمريكي سواء انشغل بعقيدة قياميّة أو بموظفة جميلة فما بينهما.

 

كما أنّها مغروسة في عمق الشّعور الشّعبي الإسلامي، وحيّة لدى المظلومين والمهمّشين في العالم، ففلسطين قضيّة مشتركة بين مختلفين كثر، ولذا أصبح إظهار العداء لليهود ورفع العقيرة بمناصرة فلسطين ورقة ضغط أو متاجرة عند دول وقادة ومنظمّات يحصدون بها المكاسب، أو رافعة يستميلون بتحريكها الجماهير، فمن رمي اليهود بالبحر، وإحراق نصف إسرائيل، إلى يوم القدس وشعارات الموت لإسرائيل، وها قد مضى عبدالنّاصر وصدّام وتعاقب آيات بعد آيات، ولا تزال إسرائيل تنعم بطول سلامة!

 

ولاتزال الأمّة بخير وستظلّ منجبة مهما كثر الخبث وازداد الخور، وثمتّ مواقف منيفة محفوظة لدول وأشخاص تشهد أنّ البلاء لم يطبِق علينا، فلبعض الحكومات مناورات لأجل فلسطين والقدس، ومساومات تعطي فيها وتأخذ، وامتنعت دول أخرى عن فعل أو مشاركة بعد أن عجزت عمّا سوى ذلك، والاستعداء لا يخفى ضرره وليس مطلوبًا في مرحلة الضّعف، والحكمة ليست عسيرة على من طلبها وتقارب من أهلها، وسعى لتصحيح الوضع ولو بعد حين؛ فالتّاريخ لا يرحم؛ والحقيقة ستظهر ولابدّ.

 

ولفت نظري أثناء القراءة عن بعض السّفراء أعمال فريدة، تكمن أهميّتها ودلالتها في أنّها كانت من سفراء بلاد مهمّة، يعملون في بلدان عالميّة مؤثرة، فضلًا عن قدر هؤلاء السّفراء محليًا وإقليميًا ودوليًا، وازدياد نشاط الإعلام في الغرب بحريّة تتيح نقل أيّ شيء، وإظهار ما لو كان في شرقنا لقضي عليه بالكتمان أحقابًا.

 

فحين كان معالي الشّيخ الوزير ناصر المنقور عميد السّلك الدّبلوماسي في لندن رفض التّعامل مع سفير إسرائيل لدى بريطانيا، وأحاله لنائب العميد متجاوزًا العرف الدّبلوماسي بكياسة، ومتوافقًا مع شعوره الدّيني والقومي! وكادت هذه الأفعال الماجدة أن تتلاشى لولا وجود أولي بقيّة من أهل العقل والمروءة وجمال التّصرف.

 

‏ومن بصيرة معالي السّفير الشّيخ ناصر العسّاف الحيلولة دون إدانة الاتّحاد الأوروبي في بروكسل لبعض أهل فلسطين ووصمهم بالإرهاب تعاطفًا مع اليهود؛ بعد أن قام خطيبًا في مؤتمرهم وسأل المجتمعين عن رأيهم في تمثال شامخ لضابط بلجيكي غدا من معالم العاصمة، ويبدو منه احتفاء وتبجيل بهذا المقاتل؟

فقالوا هذا بطل قومي ناضل ضدّ النّازية، ففلجهم مستخدمًا المقارنة قائلًا: أهل فلسطين يقاومون مثله فالوصف واحد لهم وله، وسقطت إذ ذاك الإدانة، ثمّ كرّر الرّجل الذّكي ذات الإجراء حين عمد سفراء الاتّحاد الأوروبي لاستصدار تشريع يحمي العرق السّامي مع قصر الحماية على اليهود؛ فقال لهم: نحن العرب ساميون فاحمونا أيضًا! فأبطل “علوج” أوروبا القانون؛ فقيمة العرب عندهم لا ترقى لمستوى الحماية أسوة باليهود!

 

‏كما حفظت لنا الحقيبة الدّبلوماسيّة جرأة السّياسي العراقي الأديب والمؤرّخ نجدة فتحي صفوة بكتابة رسالة لزوج نائب الرّئيس الأمريكي جونسون -الرّئيس السّادس والثّلاثون فيما بعد (1963-1969م)- اعتراضًا على دعمها العلني لليهود في مقابل إهمالها للعرب والمسلمين، وأصبح للرّسالة دوي وتداول، وهي ممّا يحمد لهذا الدّبلوماسي الشّهم ذي المؤلّفات النّافعة، والجهد الموسوعي في جمع الوثائق ونشرها، وحفظ الأحداث العالميّة حسب الأيّام.

 

بينما غادر معالي الوزير والسّفير الدّكتور غازي القصيبي لندن والحياة الدّبلوماسيّة كلّها بعد أن كتب قصيدة تمجيد في الاستشهاديّة الفلسطينيّة آيات الأخرس وصدح بشعره تحيّة لعروس العوالي وتفدية لها فضاق منه الإنجليز، ليعود عقب ذلك معزّزًا إلى مقعده في مجلس الوزراء بعد عقدين من تركه، ومع أنّ أبياته ساهمت بتخليد الواقعة وبطلتها إلّا أنّها حفظت للقصيبي وحكومته هذا الموقف العروبي والدّيني من حق الشّعب المقهور في المقاومة ورفض الذّل وإباء الضّيم.

 

وهذه الخصيصة لفلسطين والقدس قديمة، فنحن نذكر الإسراء والفتح العمري، وعزم نور الدّين زنكي على تحرير الأقصى وصنع منبره استباقًا لتلك السّاعة، وهو الأمر الذي أنجز على يد النّاصر صلاح الدّين، ولأجل ذلك تكثر في الأرض المباركة أسماء أبطالها التّاريخيين، ويبدو أنّ جذوة فلسطين في عمق الأحاسيس لن تخبو البتة، فإمّا أن تكون علانيّة، أو تكمن كوميض جمر تحت الرّماد يحتاج إلى نفخة واحدة كي يشتعل، وكم يؤثر في النّاس أيّ شيء تجاهها حتى لو كان استقبال وفد رياضي أو طرده فما قوقه!

 

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life