الخطبة الأولى:

الحمد لله مُنزِلِ الكتابِ، مُفَصِّلِ الخطابِ، فاتحِ أبوابِ الصوابِ، مانحِ أسبابِ الثوابِ، أشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً لا شكَّ فيها ولا ارتيابَ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثَه بالحق والهدى والآداب، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه وعلى الآل والأصحاب، والتابعين وتابعيهم بإحسان ما لمع سراب وهمع سحاب.

أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، فقد فاز التَّقِيُّ الأوَّابُ، وخاب الشقيُّ المرتابُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].

أيها المؤمنون: الفَلَاحُ مَطلَبٌ عَلِيٌّ، ومَأرَبٌ سَنِيٌّ، إليه شَخَص العاملون، وتفانى مِن أجله المُتفانون.

والفَلَاحُ هو الظَّفَرُ ونَيلُ البُغيةِ دنيويًّا أو أُخرويًّا؛ فالدنيويُّ الظَّفَرُ بمَلَذَّاتِ الدنيا ومُشتهياتِها، والأخرويُّ الظَّفَرُ برضا الله -تعالى- وجنَّتِه، والذكيُّ الألمعيُّ اللوذعيُّ هو مَنْ جَمَعَ فِكرَه، وصَوَّب نحوَ الفَلَاحِ الأُخرويِّ نظرَه؛ إِذْ هو غايةُ الأماني، ومُنتهى الأَراجي! وليس بينَه وبينَه إلا قوةُ عزيمةٍ، وصبرُ ساعةٍ، وثباتُ قلبٍ.

عبادَ اللهِ: لا يُنال الفلاحُ الأخرويُّ إلا بالإيمان والعمل الصالح، وقد أثنى الله على المؤمنين بإيمانهم وعملهم ثم وصفهم بالفلاح فقال تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الْبَقَرَةِ: 5]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الْحَجِّ: 77]، وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ)[الْقَصَصِ: 67].

وأُسُّ الفَلَاحِ الأُخرويِّ الشهادتانِ، بابةُ الإسلامِ وأصلُ الملَّة، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناسُ، قولوا: لا إلهَ إلا اللهُ تُفلحوا"(أخرجه الإمامُ أحمدُ وابنُ حِبَّانَ).

ومَنِ التزمَ فرائضَ اللهِ -تعالى- أَفْلَحَ، فقد جاء أعرابيٌّ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألُه عن شرائع الإسلام فأعْلَمَه عنها، فقال الأعرابي: والذي أكرَمَكَ لا أتطوَّعُ شيئًا، ولا أَنقُصُ شيئًا ممَّا فرَض اللهُ عليَّ، فقال عليه الصلاةُ والسلام: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"(أخرجه البخاري ومسلم).

ورأسُ الفرائضِ الموصلةِ للفلاحِ الصلاةُ، أمُّ العباداتِ، وعمودُ الطاعاتِ، وهي الصارفُ عن دَواعي السوءِ ومُغرِياتِه، والعاصمُ من عَوادي الشيطانِ ومُغوِياته، فلا عَجَبَ إِذَنْ أن يُنادى بالفلَاح في أذانها وإقامتها، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ في صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 1-2]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر"(أخرجه الترمذي).

أيها المسلمون: التطهُّرُ من الذنبِ والحَوْبةِ، والتوبةُ إلى الله والأوبةُ، سبيلُ الفَلَاحِ، ودليلُ الصلاحِ، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31]، والذاكرُ لربِّه ولأنعُمِه عليه آخِذٌ بسبب الفَلَاح، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الْأَنْفَالِ: 45]، وقال تعالى: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الْأَعْرَافِ: 69]، ومَنْ أدَّى الحقوقَ إلى أربابِها حازَ الفَلَاحَ، قال تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الرُّومِ: 38]، وتطهيرُ النفسِ مِنَ الشركِ والظلمِ وسيِّءِ الأخلاقِ موجِبٌ للفَلَاحِ، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشَّمْسِ: 9-10].

اللهُمَّ خُذْ بأيدينا إلى مراضيكَ، وجنِّبْنا مواردَ سخطكَ ومناهيكَ، واجعلنا من أوليائك المتقينَ، وحِزبِكَ المفلحينَ، آمين آمين.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه، فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله بجميع محامده، والشكر له على آلائه وعوائده، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعدُ، فيا أيها المؤمنون: نَفْسُ الإنسانِ بينَ إقبالٍ على الخيرِ وإدبارٍ عنه، فالإقبالُ يُثمِرُ الانكبابَ على الطاعاتِ، والإدبارُ يُداوَى بالاقتصار على الفرائض وشيءٍ من النوافل، قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لكل عملٍ شِرَّة، ولكلِّ شِرَّةٍ فترةٌ، فمَنْ كانت فَترتُه إلى سُنَّتِي فقد أَفْلَحَ، ومَنْ كانت فَترتُه إلى غيرِ ذلكَ فقد هَلَكَ"(أخرجه الإمامُ أحمدُ، من حديث عبد الله بن عمروٍ -رضي اللهُ عنهما-).

ألَا ما أسعدَ العبدَ وأهناهُ، يومَ يرى مَوازينَه قد ثقُلت بالأعمال الصالحات، وخَفَّت من الأوزار والذنوب والموبقات، فثَمَّ الفَلَاح، وثَمَّ النجاح؛ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الْأَعْرَافِ: 8].

هذا وصلُّوا وسلِّموا على من بعثه الله رحمة للعالمين، وهاديًا للخلق أجمعين، محمد بن عبد الله، النبي القرشي الهاشمي، فاللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهمَّ عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحب أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب، وعنا معهم بمنك وكرمك يا كريم يا وهاب.

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.  

اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، اللهمَّ وفِّقْه ووليَّ عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ سَدِّدْ جندَنا المرابطينَ على الحدود والثغور، كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيِّدًا ونصيرًا.

اللهمَّ إنَّا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا صالحًا متقبَّلًا، اللهمَّ أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأَجِرْنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 53]، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النَّحْلِ: 90-91].