الفقير بين الأسى والتسلية

محمد بن سليمان المهوس

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/الابتلاء سُنة كونية 2/شدة الابتلاء بالفقر والحاجة 3/مما يسلي قلوب الفقراء ويجبر خاطرهم

اقتباس

عَاشَ الْفَقْرَ فِي حَيَاتِهِ الشَّرِيفَةِ، وَاخْتَارَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لِنَفْسِهِ رَغْمَ تَخْيِيرِ اللهِ لَهُ بِأَنْ يَعِيشَ مَلِكًا، وَيَقْلِبُ لَهُ الْجِبَالَ ذَهَبًا؛ فَقَدْ كَانَ يَبِيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا وَأَهْلُهُ لاَ يَجِدُونَ عَشَاءً،...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الْحَمْدُ للهِ مَنَّ عَلَيْنَا بِخَيْرِ الشَّرَائِعِ وَأَوْفَاهَا، وَعَلِمَ جَهْرَ كُلِّ نَفْسٍ وَنَجْوَاهَا، وَأَلْهَمَ النَّفْسَ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ مَنْ طَهَّرَ نَفْسَهُ وَزَكَّاهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، الْمَبْعُوثُ بِأَشْرَفِ الْمِلَلِ وَأَزْكَاهَا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلاَ- سَعَادَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَفَلاَحٌ فِي الدَّارَيْنِ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطلاق: 2-3].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سُنَّةُ الاِبْتِلاَءِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَمْرٌ حَتْمِيٌّ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ عُرْضَةٌ لِكَثِيرٍ مِنْهُ فِي دِينِهِ، وَفِي مَالِهِ، وَصِحَّتِهِ، وَوَلَدِهِ، وَأَمْنِهِ، وَهَكَذَا هِيَ الدُّنْيَا؛ وَكَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهَا: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20].

 

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلاَ-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155 - 157].

 

وَمِنَ الاِبْتِلاَءَاتِ فِي الدُّنْيَا: الاِبْتِلاَءُ بِالْفَقْرِ وَالْعِوَزِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا)[الزخرف: 32]، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

 

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ"(رواه النسائي، وصححه الألباني). وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ لِلْفَقْرِ شِدَّةً وَلأْوَاءَ، وَهُمُومًا وَفِتْنَةً وَعَنَاءً.

 

وَأَعْظَمُ مَا يَجْبُرُ كَسْرَ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ فِي فَقْرِهِمْ، وَيُسَلِّي نُفُوسَهُمْ، وَيُقَوِّي صَبْرَهُمْ عَلَى الْفَقْرِ: مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضَائِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ! أَلاَ أُبَشِّرُكُمْ؟ إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ: خَمْسِمَائةِ عَامٍ"(صححه الألباني)؛ أَيْ: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِوَقْتٍ طَوِيلٍ؛ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِيُسْرِ حِسَابِ الْفُقَرَاءِ؛ لِقِلَّةِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي الدُّنْيَا.

 

وعَنْ فَضَالَة بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ خَرَّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ فِي الصَّلاَةِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِمْ، مِمَّا بِهِمْ مِنْ أَثَرِ الْفَقْرِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ وَالضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ الَّتِي بِهِمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ، حَتَّى ظَنَّ الأَعْرَابُ أَنَّ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَخِرُّونَ مَغشِيًّا عَلَيْهِمْ فِي الصَّلاَةِ مَجَانِينُ، فَإِذَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- انْصَرَف إِلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللهِ، لأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدَادُوا فَاقَةً وَحَاجَةً"؛ أَيْ: لَوْ عَلِمْتُمْ مَا ادَّخَرَ اللهُ لَكُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى مَا صَبَرْتُمْ، لَتَمَنَّيْتُمْ أَنْ تَزْدَادُوا فَقْرًا وَضِيقًا وَقِلَّةً فِي الْعَيْشِ؛ لِمَا سَوْفَ تَجِدُونَهُ مِنَ النَّعِيمِ. وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.

 

وَمِمَّا يُسَلِّي قُلُوبَ الْفُقَرَاءِ فِي فَقْرِهِمْ: أَنَّ رَسُولَهُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ– عَاشَ الْفَقْرَ فِي حَيَاتِهِ الشَّرِيفَةِ، وَاخْتَارَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لِنَفْسِهِ رَغْمَ تَخْيِيرِ اللهِ لَهُ بِأَنْ يَعِيشَ مَلِكًا، وَيَقْلِبُ لَهُ الْجِبَالَ ذَهَبًا؛ فَقَدْ كَانَ يَبِيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا وَأَهْلُهُ لاَ يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ يَأْتِي عَلَيْه الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ مَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ لِطَعَامٍ، وَكَانَ يَشُدُّ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ وَالحَجَرَيْنِ مِنَ الْجُوعِ، وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجُوعُ، وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا"(رواه البخاري ومسلم).

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مْنَ الْكُفْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

 

 أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِمَّا يُسَلِّي قُلُوبَ الْفُقَرَاءِ فِي فَقْرِهِمْ: عَظَمَةَ هَذَا الدِّينِ وَشَهَامَةَ أَهْلِهِ؛ بِوُقُوفِهِمْ مَعَهُمْ، وَبَذْلِهِمْ وَعَطَائِهِمْ، وَإِنْفَاقِهِمْ وَسَخَائِهِمْ، وَخُصُوصًا مِمَّنْ صَدَرَتْ بِحَقِّهِمْ أَحْكَامٌ قَضَائِيَّةٌ تُوَضِّحُ إِعْسَارَهُمْ وَفَاقَتَهُمْ، وَاللهُ -تَعَالَى- قَالَ: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 261].

 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"(متفق عليه)، وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْبِلاَدِ الْمُبَارَكَةِ وُجُودُ مَنَصَّةِ إِحْسَانٍ لِتُوصِلَ إِحْسَانَكُمْ لِمَنْ يَسْتَحِقُّونَ الإِحْسَانَ.

 

فَيَا أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ الْمُوسِرُونَ! تَفَقَّدُوا الْفُقَرَاءَ الْمُنْكَسِرِينَ، وَالْمَسَاكِينَ الْمُعْوِزِينَ الْمُعْسِرِينَ؛ تَكُونُوا مِنَ الْفَائِزِينَ بِرِضَا رَبِّ الْعَالَمِينَ الْقَائِلِ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:262].

 

 هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).

 

 

المرفقات
xPASKJzGxwqDfZsBD0bz4yzOqIs48adfTTyek9To.doc
OPeyzaFSYdjhgSeoNV5bRHqaVZgOteRhdS6AAa4Y.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life