الغَيرةَ الغيرةَ يا أمة محمد

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/أهمية الأخلاق الكريمة للأفراد والمجتمعات 2/وجوب الغيرة على الحرمات 3/أهمية الغيرة في ومكانتها في الإسلام 4/مظاهر ضعف الغيرة في الأمة 5/آثار وخيمة لضعف الغيرة وقلة الحمية 6/الغيرة المحمودة والمذمومة.

اقتباس

بقي المسلمون بعد ذلك جيلاً بعد جيل يحافظون على خلق الغيرة بينهم وهو يحافظ على عزهم وشرفهم حتى وفدت على الناس مدنيةُ هذا العصر التي عملت معاولها على تحطيم جدار الغيرة على الأعراض والحمية على الحُرَم، ونادت...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

أيها المسلمون: إن الأخلاق الكريمة مقياس تُعرف به سلامة المجتمعات من الفساد، ونقاؤها من أسباب الكوارث والهلاك، وطهارتها من نزول الخبث والدنس بين أفرادها. وبتلك الأخلاق النقية يَشرُف أهلها بين الناس، ويعلو قدرهم ويكثر الثناء عليهم.

 

إن تلك الأخلاق الحميدة تحمل النفس على الأنفة والسمو والشهامة والشرف والعزة والنخوة والمروءة، فتتحلى النفس حينها بأحسن الصفات الإنسانية وتعمل أفضل الأعمال، وتتخلى عن سيئ الخِلال وتجتنب قبيح الفعال.

 

لقد كان لدى العرب في الجاهلية أخلاق حسنة، وشمائل كريمة فُطروا عليها وتربوا على التمسك بها وتواصوا على حفظها، حتى تجذرت فيهم ورسخت جذورها في أقوالهم وأعمالهم.

 

ومن تلك الأخلاق الكريمة: خُلق الغيرة على الحرمات والحمية على المرأة؛ فإنهم قد بلغوا في ذلك الخلق الكريم مبلغًا عظيمًا، وحكت مواقفهم وأشعارهم تلك الغيرة الشديدة على زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم وأمهاتهم وجاراتهم ونساء قومهم، وتعددت صور غيرتهم عليهن: من سترهن والمحافظة عليهن، والدفاع عنهن وبذل النفس في حمايتهن وإطلاقهن من أسر العدو لو أُسرن، ولو أدى ذلك إلى الهلاك.

 

بل وصلت غيرة بعضهم إلى حد غير مقبول شرعًا وعطفًا ألا وهو الإقدام على وأد البنات؛ خشية العار. قال بعض المفسرين عند قوله -تعالى-: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا)[الفتح: 11]، "ولعل ذكر الأهل بعد الأموال من باب الترقي؛ لأن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال".

 

وقال بعضهم أيضًا: "كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم؛ ليبعثهم الذب عن الحرم والغيرة على الحرم على بذل تجهيداتهم في القتال أن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم، ويضبط هممهم، ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطئهم، ولا يخلو مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم، وقصارى شدتهم".

 

فلما جاء الإسلام زاد الغيرة على المحارم اعتناء واهتمامًا وضبطها لتكون في مسارها الصحيح فنهى عن الصور التي تخرج بها عما جاء به من العدل والرحمة وحسن الظن.

 

وقد بقي المسلمون بعد ذلك جيلاً بعد جيل يحافظون على خلق الغيرة بينهم وهو يحافظ على عزهم وشرفهم حتى وفدت على الناس مدنيةُ هذا العصر التي عملت معاولها على تحطيم جدار الغيرة على الأعراض والحمية على الحُرَم، ونادت أبواقها بالانعتاق عن الماضي الذي يمثل لديها الرجعية والجهل، وضرورة مواكبة العصر الحاضر بالدعوة إلى خروج النساء متبرجات سافرات ومشاركة الرجال ومخالطتهم فيما هم فيه. ومن هناك بدأ ماء الحياء بالنضوب، وقوة الغيرة بالضعف شيئًا فشيئًا، إلا من حماه الله -تعالى- بتمسكه بدينه وإيمانه، وأخذه بمبادئ العادات القبلية الحميدة، والأعراف المجتمعية السديدة.

 

إن مقود الحضارة المعاصرة اليوم بيد غير المسلمين وهم يديرونه إلى حيث شاءوا، وأمتنا اليوم حينما أضحت ترزح تحت وطأة الهزيمة والانبهار بما عليه الغرب من تقدم وتطور حياتي؛ راحت تحاكي أولئك القوم في أساليب حياتهم وأفانين عيشهم، ومن المعلوم أن الغيرة لدى أصحاب تلك الحضارة ضعيفة وحميتهم على الأعراض قليلة والواقع يشهد بذلك. ومع ذلك قلد بعض المسلمين -وللأسف- أولئك الكافرين في قلة غيرتهم وضعف حميتهم، ونسوا أخلاق آبائهم وأجدادهم من الحياء والنخوة والغيرة والعزة!

 

ونحن في هذا المجتمع المحافظ على أخلاقه وعاداته الحميدة لم نسلم من حملة تذويب الغيرة ووأد الحمية؛ فقد بدأ الداء يتسع، والمؤامرة على هدم أبنية الفضيلة تزداد. فلا بد علينا إزاء ذلك أن نتناصح قبل استفحال الداء، وندّرع بالحياء والغيرة قبل الندم والمأثمة.

 

أيها المسلمون: إن الغيرة تعني الغضب من أن يصل إلى حرمات الإنسان رجل أجنبي، أو تزيغ إليهن عينه أو أذاه، وتعني أن لا يرضى المرء بخروج امرأة من نسائه سافرة عن مفاتنها فيراها الناس وتمتد إليها أبصارهم وتتعلق بها قلوبهم.

 

فالرجل الكامل الغيور يأبى أيما إباء أن يتطلع الرجال إلى وجوه نسائه فضلاً عما فوق ذلك من المفاتن، ذكر ابن الجوزي قصة وقعت عند قاضٍ بالري سنة ست وثمانين حيث: "ادعى ولي امرأة على زوجها خمسمائة دينار مهراً، فأنكر، فقال القاضي: شهودكِ، قال: قد أحضرتهم، فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة؛ ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة: قومي فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك وهى مسفرة-يعني: كاشفة وجهها- لتصح عندهم معرفتها، فقال الزوج: فإني أُشهد القاضي أن لها علي هذا المهر الذى تدعيه ولا تسفر عن وجهها، فأخبرت المرأة بما كان من زوجها فقالت: فإني أشهد القاضي أن قد وهبته هذا المهر وأبرأته منه في الدنيا والآخرة. فقال القاضي: يكتب هذا في مكارم الاخلاق".

 

عباد الله: إن الغيرة في الإسلام خلق فاضل يتكون من أخلاق فاضلة أخرى، فيكون هو نتيجتها وثمرتها، فمن كان أكمل غيرة محمودة مع حرماته كان أكمل غيرة مع حرمات غيره. قال بعض أهل العلم: "الغيرة خلق فاضل متركب من النجدة والعدل؛ لأن من عدل كره أن يتعدى إلى حرمة غيره، وأن يتعدى غيره على حرمته. ومن كانت النجدة له طبعاً حدثت فيه عزة، ومن العزة تحدث الأنفة من الاهتضام".

 

فتكون الغيرة بذلك خصلة ذات أهمية كبيرة، وما كان ذات أهمية كبيرة فإنه يستدعي الحرص عليه والسعي إلى زيادته وحمايته.

 

ومما يدل على الأهمية أيضًا: أن الغيرة من صفات المؤمنين الكاملين، ومن لا غيرة له لا إيمان له. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وَغَيْرَةُ الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه"(رواه مسلم). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن يغار والله أشد غَيْرًا"(رواه مسلم).

 

فالإيمان يحمل صاحبه على أن يكون غيوراً لا يرضى بالسوء في دينه ولا في حرماته؛ وذلك أن" أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب، فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة تميت القلب فتموت الجوارح، فلا يبقى عندها دفع البتة، ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلاً ولم يجد دافعًا فتمكن فكان الهلاك، ومثلها مثل صياصي الجاموس -أي: قرونها- التي تدفع بها عن نفسه وعن ولده، فإذا تكسرت طمع فيها عدوه".

 

ومما يبين أهمية الغيرة أيضًا: أن الغيرة صفة من صفات الله -تعالى-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"(رواه البخاري ومسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني"(رواه البخاري ومسلم).

 

" فالغيور قد وافق ربه -سبحانه- في صفة من صفاته، ومن وافق الله في صفه من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلته على ربه، وأدنته منه، وقربته من رحمته، وصيرته محبوباً له؛ فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء، كريم يحب الكرماء، عليم يحب العلماء، قوي يحب المؤمن القوي وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف، حيي يحب أهل الحياء، جميل يحب أهل الجمال، وتر يحب أهل الوتر"(الجواب الكافي).

 

ومما يدل على أهمية الغيرة كذلك: أنها صفة سامية من صفات الرجال الشرفاء، الكُمَّل الأعزاء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في عمر رضي الله عنه: "دخلت الجنة فرأيت فيها دارا أو قصراً فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك"، فبكى عمر وقال: أيْ رسولَ الله أوَ عليك يغار"(رواه البخاري ومسلم).

 

وعن المغيرة قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "تعجبون من غيرة سعد! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"(رواه البخاري ومسلم).

 

 وفي رواية: قالوا: يا رسول الله، لا تلمه؛ فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة له قط، فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته"(مسند أحمد: 4/ 33)؛ فأخبر -صلى الله عليه وسلم- بأن سعداً غيور، وأنه أغير منه، وأن الله أغير منه -صلى الله عليه وسلم-، وأنه من أجل ذلك حرم الفواحش، فهذا تفسير لمعنى غيرة الله -تعالى- أي: أنها منعه -سبحانه وتعالى- الناس من الفواحش.

 

قال ابن القيم: "الغيرة حرارة القلب وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة، كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد، وأشرف الناس وأعلاهم قدراً وهمة أشدهم غيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أغير الخلق على الأمة والله -سبحانه- أشد غيرة منه".

 

وذكر الإمام مالك في موطئه قصة فتى من الأنصار كان حديث عهد بعرس، فخرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق، ثم استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرجع إلى أهله، فلما رجع وجد زوجته على باب منزله، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها وأدركته غيرة -يعني- حينما رآها خارج البيت على الباب- فقالت: لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك، فدخل فإذا هو بحية منطوية على فراشه... قال بعض أهل العلم: "ولعمري إن الغيرة لتوجدُ في الحيوان بالخلقة، فكيف وقد أكدتها عندنا الشريعة؟! وما بعد هذا مصاب".

 

يذكر أن رجلاً يقال له: الأشجعي بلغ من فرط غيرته أنه منع زوجته الحج خشية رؤيتها الناس، وهذا وإن كان غير مقبول، لكنه يدل على مبلغ غيرته على زوجته. فإنه لما حج بامرأته نظر إلى الناس يوم التروية فهاله كثرتهم فقال: إن رجلاً يُدخل امرأته وسط هؤلاء لمجنون! وضرب وجه راحلته وعاد ولم يحج وقال:

وليس بحرٍّ من يوسِّط زوجةً *** له بين أهل الموسم المتقصدِ

وفيهم رجالٌ كالبدور وجوهُهم *** فمِن بين ذي طرفٍ كثيرٍ وأمردِ

 

أيها الغيارى الكرام: إن حرص أعداء الفضيلة، واستمرارهم في محاربتها بشتى أنواع الأسلحة قد وصل إلى غاية من الغايات التي يرجونها في المجتمعات المسلمة؛ فقد ظهر ضعف الغيرة بين بعض هذه الأمة اليوم في صور شتى، منها:

 

سماح بعض الرجال بخروج المرأة من البيت ومخالطتها الرجالَ في الدراسة والوظيفة وأماكن العمل.

ومنها: إذن بعض أولياء الأمور لبناتهم بكشف وجوههن أمام الأجانب، وفي بعض البلاد بكشفهن سوقهن وشعورهن وسواعدهن وغير ذلك.

 

ومنها: عدم إنكار بعض الأولياء والأزواج على زوجاتهم وبناتهم لبس العبايات غير الساترة؛ كالضيقة والرقيقة والشفافة والمزخرفة والمزينة.

 

ومنها: السماح للنساء بمشاهدة المسلسلات وسماع الأغاني ومتابعة البرامج التي تخدش الحياء وتعرض العورات وتثير الغرائز.

 

يذكر "أن الحطيئة أقحمته السنة فنزل ببني مقلد بن يربوع، فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: إنِ هذا الرجل لا يسلم أحد من لسانه، فتعالوا حتى نسأله عما يحب فنفعله وعما يكره فنجتنبه، فأتوه فقالوا له: يا أبا مليكة، إنك اخترتنا على سائر العرب ووجب حقك علينا، فمُرنا بما تحب أن نفعله، وبما تحب أن ننتهي عنه، فقال: لا تكثروا زيارتي فتملوني، ولا تقطعوها فتوحشوني، ولا تجعلوا فناء بيتي مجلسًا لكم، ولا تُسمعوا بناتي غناء شُبانكم؛ فإن الغناء رقيةُ الزنا. فأقام عندهم وجمع كل رجل منهم ولده وقال: لأمكم الطلاق لئن تغنى أحد منكم والحطيئة مقيم بين أظهرنا لأضربنه ضربة بسيفي، فلم يزل مقيمًا فيما يرضى حتى انجلت عنه السنة فارتحل وهو يقول:

جاورتُ آلَ مُقَلِّدٍ فَحمِدتُهم *** إذ ليس كلُّ أخي جِوارٍ يُحْمَدُ

أيامَ مَنْ يُرِد الصنيعةَ يَصْطنعْ *** فينا ومن يُرِد الزَّهادةَ يَزْهَد

 

ومنها: ترك الحبل على الغارب في استعمال الزوجات والبنات للجوال عبر خدماته المختلفة من وسائل التواصل الاجتماعي وتصفح المواقع واليتويوب وغيرها من المسميات.

 

ومنها: الإذن لخروج الزوجات والبنات إلى الشوارع والأسواق المزدحمة بالرجال وقضاء الأوقات الطويلة هناك من غير محرم.

 

ورد عن على -رضي الله عنه- أنه قال: "ألا تستحيون أو تغارون؛ فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج".

 

وجاء عن الحسن قول قريب من ذلك حيث قال: "أتدعون نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق؟! قبح اللّه من لا يغار!"

 

ومنها: عدم إنكار بعض الأزواج وأولياء الأمور على زوجاتهم أو بناتهم الركوبَ مع السائقين من غير أن يكون مع المرأة أحد في تلك السيارة غير السائق.

 

ومنها: عدم الغضاضة من ذهاب الزوجة أو البنت أو الأخت إلى طبيب في مرض من الأمراض وهناك طبيبات لعلاج ذلك المرض، بل قد يصل الحال إلى النظر إلى العورات المغلظة!

 

ومنها: السماح للنساء بإبقاء صورهن في الجوالات وقد تكون المصيبة أن تكون الصور في حال تزين المرأة في أعراس وحفلات، ومن المعلوم أن الجولات معرَّضة للضياع والسرقة والذهاب إلى المهندسين.

 

ومنها: انتشار الألبسة الفاضحة؛ كالعارية والشفافة والضيقة كالبنطال، وأحيانًا قد تلبسها البنت الشابة أمام إخوانها أو أعمامها وأخوالها، أو الزوجة أمام إخوة زوجها وأقاربه!

 

ومنها: سماح بعض الآباء بسفر بناتهم للدراسة في الخارج من غير محرم ولا زوج، أو السماح لهن في العمل في محافظة أخرى أو في مكان قد تبيت فيه، وكم من مآسٍ حصلت بسبب ذلك!

 

هذه بعض المظاهر المؤسفة التي تدل على قلة الحياء وضعف الغيرة، التي نسأل الله أن يعافي المجتمعات المسلمة منها، وأن يرد أهل الزلل إلى رشدهم وكمال حيائهم وغيرتهم.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

 

أيها المسلمون، إن ضعف الغيرة الذي أدى إلى المظاهر السالفة لم يحصل فجأة أو جاء من غير طرق كانت هي الوسائل إليه، بل وصل الحال إلى تلك النتيجة المرّة عبر أسباب متعددة، فمن تلك الأسباب:

 

أولاً: تكاثف الذنوب وانغماس الإنسان فيها؛ ومن عقوبات المعاصي: "أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن"؛ ولأن العاصي يخف وهج الإيمان في قلبه فلا تتم غيرته، بخلاف المؤمن الذي تقوى غيرته بقوة إيمانه.

 

قال ابن القيم: "والمقصود أنه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جداً فلا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك، وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح، بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له ويدعوه إليه ويحثه عليه، ويسعى له في تحصيله؛ ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله، والجنةُ عليه حرام، وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه لغيره، فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة؟!".

 

ثانيًا: اعتبار أن الغيرة على النساء من العادات والتقاليد وليست من الشرع والدين، فسرعان ما يتركها الإنسان إذا غيَّرَ البيئة السابقة المحافظِة، وهذا ظاهر للعيان اليوم، فكم من أسرة كانت محافظة على غيرتها في القرى فلما تحضرت وخالطت أهل المدن الحديثة تخلصت من بعض تلك الغيرة السابقة!

 

ثالثًا: الانبهار بعيش الكفار مما أدى إلى محاكاتهم في أشكال حياتهم حتى بدأت الغيرة بالذوبان بالتدرج.

 

رابعًا: ممارسة الزوج أو رب الأسرة لخدش أعراض الآخرين فتخف غيرته لذلك على عرضه.

 

خامسًا: مجاراة المجتمع وإرضاء الناس الذين قد تعودوا على قلة الغيرة؛ خشية من المخالفة والتعيير بقلة الحضارة والتطور!

 

سادسًا: متابعة الإعلام السيء عبر وسائله المختلفة التي تعمل ليل نهار على نزع خلق الغيرة من المجتمع المسلم.

 

سابعًا: ضعف قوامة الرجل؛ إما لضعف شخصيته، أو لحبه المفرط لزوجته وبناته، حتى أدى ذلك إلى تصرفهن كما يحلو لهن، قال بعض العلماء في المرأة التي راودت يوسف: "وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها؛ ولهذا لما اطلع على مراودتها قال: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)[يوسف: 29]. فلم يعاقبها، ولم يفرق بينها وبين يوسف؛ حتى لا تتمكن من مراودته، وأمر يوسف أن لا يذكر ما جرى لأحد؛ محبة منه لامرأته، ولو كان فيه غيرة لعاقب المرأة".

 

وقال آخر: "الرجال أغير على البنات من النساء، فلا تستوي غيرة الرجل على ابنته وغيرة الأم أبداً، وكم من أم تساعد ابنتها على ما تهواه، ويحملها على ذلك ضعف عقلها، وسرعة انخداعها، وضعف داعي الغيرة في طبعها، بخلاف الأب؛ ولهذا المعنى وغيره جعل الشارع تزويجها إلى أبيها دون أمها".

 

أيها الأحباب الكرام: وكنتيجة حتمية جاءت عن تلك المقدمة المؤلمة برزت آثار وخيمة لضعف الغيرة وقلة الحمية، فمن تلك الآثار المؤسفة:

قلة الصيانة في بعض النساء وتجرؤهن على ارتكاب ما لا يحل، قال بعض العلماء: " إنّ من ثمرة الحميّة الضعيفة: قلّة الأنفة من التّعرّض للحرم والزّوجة والأمة، واحتمال الذّلّ من الأخسّاء، وصغر النّفس، والقماءة، وقد يثمر عدم الغيرة على الحريم، فإذا كان الأمر كذلك اختلطت الأنساب، ولذلك قيل: كلّ أمّة ضعفت الغيرة في رجالها ضعفت الصّيانة في نسائها؛ فإنّه قد خلقت الغيرة لحفظ الأنساب، فعلى هذا كلّ أمّة فقدت الغيرة في رجالها فقدت الصّيانة في نسائها".

 

ومن الثمرات المرة: سوء السمعة، وفساد حال الأسرة، وحصول العلاقات غير الشرعية والوقوع في الفاحشة، وقد يحصل الهروب من البيوت، والوقوع في القتل، وقد تصل الحال إذا ذهبت الغيرة كليةً ولم يتبق منها شيء إلى منحدر الدياثة، وصاحبها هو الذي يرضى الخبث في أهله؛ ولذا استحق من هذا شأنه أن يحرم دخول الجنة. كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء"(رواه النسائي والبزار، وهو صحيح).

 

أيها الإخوة الفضلاء: إن الغيرة منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم؛ فمحمودها أن تكون باعتدال واتزان، من غير سوء ظن واتهام، وأن توافق محلها الشرعي، وتجانب ما نهى عنه الشرع.

 

وفي اتباع ما جاء به الشرع الحكيم من أسباب الصيانة للمرأة، ووسائل العفة للرجل ما يعين على استقرار الغيرة على ميزان الاعتدال، وهذه هي الغيرة التي يحبها الله -تعالى-.

 

وأما الغيرة المذمومة فهي التي جاوزت الحدود الشرعية، وخرجت عن إطار المعقول، حتى وصلت إلى الشكوك وسوء الظنون وتصديق الوشاة من غير تثبت، فحملت صاحبها بعد ذلك على الطعون والقذف وإيذاء حرماته والناس، بلا أدلة كافية ولا براهين قاطعة، ولا سير على منوال الشرع في مجالات التخلق بالغيرة.

 

وهذه الغيرة هي التي يكرهها الله -تعالى-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله فالغيرة في غير ريبة"(رواه أحمد والنسائي وأبو داود، وهو حسن).

 

قال الشاعر:

ما أحسنَ الغيرةَ في حينها *** وأقبحَ الغيرةَ في كُلِّ حينْ!

من لم يَزَلْ متّهماً عِرْسَهُ *** مناصباً فيها لريبِ المنونْ

أوشكَ أن يغريَها بالذي *** يخافُ أن يُبْرْزَها للعيونْ

حَسْبُكَ من تَحْصينِها وضعُها *** منكَ إِلى عِرْضٍ صحيحٍ ودِين

 

قال سليمان لابنه: "يا بني، لا تكثر الغيرة على أهلك؛ فتُرمى بالسوء من أجلك وإن كانت بريئة".

 

قال بعض الفضلاء: "أما الغيرة فهي خُلق طبيعي عام للإنسان والبهائم، وهو ممدوح إذا كان على شرائط الأخلاق، أعني إذا وضع في خاص موضعه ولم يتجاوز به المقدار الذي يجب، ولم ينقص عنه على مثال ما ذكرناه فيما مضى من سائر الأخلاق؛ كالغضب والشهوة؛ فإن هذه أخلاق طبيعية، وإنما يحمد منها ما لم يخرج عن الاعتدال، أو أصيب به موضعه الخاص به، وحقيقةُ الغيرة هي منع الحريم، وحماية الحوزة لأجل حفظ النسل والنسب، فكل من كانت غيرته لأجل ذلك- ثم لم يتجاوز ما ينبغي حتى يحكم بالتهمة الباطلة فيصدق بالظنون الكاذبة، ويبادر إلى العقوبة على ذلك ولم ينقص عما ينبغي حتى يتغافل عن الدلائل الواضحة، ويترك الامتعاض من الرؤية والسماع إذا كان حقاً وكان معتدل الخلق بين هذين الطرفين يغضب كما ينبغي وعلى ما ينبغي -؛ فهو محمود غير ملوم، فأما من فرط أو أفرط في الغيرة فسبيله سبيل من تجاوز الاعتدال في سائر الأخلاق إلى الزيادة أو النقصان، وقد بينا أن الزيادة والنقصان في كل خلق يهجم بصاحبه على ضروب من الشر وأنواع من البلايا والمكاره، ويكون هلاكه على مقدار زيادته أو نقصانه منها".

 

فيا عباد الله، يا أيها الغيارى، يا أمة محمد، هذه صيحة نذير، ولوعة حزين، ونصيحة ثمينة، ودعوة محبٍّ، فالغيرةَ الغيرة، والحمية الحمية، والأنفة الأنفة على الأعراض والحُرم، اتبعوا شرع ربكم في غيرتكم، ولا يكن همكم موافقةَ مجتمعكم إن حاد عن شرع الله، ولا تصدقوا حضارة الغرب ودعاتها، فقد نادى عقلاؤهم وحذروا مما وصلت إليه حضارتهم من انعدام الغيرة وذهاب الحمية، ولكن لم يسمع لهم.

 

فرابطِوا -عباد الله - على حصن الحماية للنساء من الاختلاط بالرجال، وخروجهن من غير رقيب ولا حسيب، احفظوهن في الحجاب الساتر، والمكان الطاهر، ولا تتركوهن ضحايا للإعلام الفاجر، ووسائل التواصل غير الصالحة، وربوهن قبل كل هذا على مراقبة الله -تعالى- وقوة الإيمان به، والحفاظ على دينهن وحيائهن وعفافهن، فهذا هو الحارس الأمين لهن ولو غابت عنهن أعين الرقابة والصرامة.

 

إن الكريمةَ ربما أزرى بها *** لينُ الحجاب وضعفُ من لا يحزمُ

وكذاك حوضَك إن أضعتَ فإنه  *** يوطأ ويُشربُ ماؤه ويهدّمُ

 

هذا وصلوا وسلموا على القدوة المهداة...

المرفقات
P94UxNRoViCkzyc6Hu8PGI3XVfATZm8v2us9DNv4.doc
W9IREPAi656fKwfXhzVdopwiRWQfk0G5osbviv3T.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life